أخال ان المؤرخين في مقبل الأيام، سيعرفون ضمن تعريفات أخرى، هذا الزمن العربي الرديء الذي نحياه ونضطرب وسط أحداثه الدموية العنيفة، سياسية كانت ام اجتماعية وطنية ام قومية، بأنه زمن اغتيال العقول7 اغتيال العقول، لا يأتي في هذا الزمن كحادث عرضي أو استثنائي، خلال صراعات سياسية تتخذ من الارهاب المضاد بين القوى السياسية، معارضة أو حاكمة وسائل لها7 وإنما هو نتاج خطة وتدبير، مع سباق الإصرار والترصد7 بمعنى أن العقل أو الابداع الفكري والفني هو الهدف المباشر للسكين او الرصاصة7 بدأ هذا الزمن دورته في الجزائر مع بداية التسعينات7 اشتعلت - ولا تزال - مذابح المفكرين والعلماء والكتاب والصحافيين وأساتذة الجامعات والفنانين على أوسع نطاق7 وقضى عشرات منها نحبهم برصاصة في الدماغ في المكتب أو في الجامعة أو على المسرح7 ومنهم من جز عنقه بالسكين أمام أفراد أسرته. انتقلت موجة الاغتيال، وإن كان بدرجة أقل، الى مصر7 وحتى كتابة هذه السطور اغتيل المفكر فرج فودة أمام مكتبه7 وجرت محاولة اغتيال نقيب الصحافيين السابق ورئيس تحرير المصور مكرم محمد أحمد7 وأخيراً غرست السكين بوحشية في رقبة نجيب محفوظ عميد الروائيين العرب، الذي جاوز الثمانين من عمره، وهو يهم بركوب سيارة صديق لحضور ندوته الأسبوعية ومن قبل، في السبعينات، اغتيل الشيخ حسين الذهبي أحد كبار علماء الأزهر، بعد خطفه من منزله، برصاصة أطلقت على جبهته وهو نائم مقيد في محبسه7 وامتدت الموجة لتشمل العقول في السودان، سواء أكانت علمانية أو دينية، من اتجاهات مخالفة للاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة في الحكم7 وكان آخر من اغتيل هو الموسيقي والمطرب الشعبي خوجلي عثمان7 وتحمل الأنباء بين آن وآخر، حوادث مماثلة يغتال فيها العقل في موريتانيا واليمن7 في هذا الاطار، لا يستطيع المرء أن يغفل حادث خطف المفكر الليبي منصور الكيخيا، بعد حضور مؤتمراً لحقوق الانسان العربي في القاهرة، وضياع أثره وجسده في المجهول7 وحين يستعرض المرء تاريخ العقل العربي مع مجتمعاته وعصوره المختلفة، يهوله ذلك الفيض الثري من الابداعات العقلية في الفكر والفلسفة والعلم والسياسة والاجتماع والآداب والفنون من شعر وموسيقى، والذي تميز بالصدق والجدة والجسارة، وكذلك البطولة العقلية الابداعية، الفردية والجماعية، في مواجهة الخرافة والجهل والاستبداد ووحدانية الرأي والموقف في الحياة7 ويحني الرأس باجلال واحترام عظيمين لهذه العقول المتوهجة التي آثرت التضحية بحياة أجسادها، زكاة عن فكرها الحر واكتشافاتها المعرفية، لوجه الله وخليفته الانسان في الأرض. لم ينج من ذلك عالم ديني وإمام مهيب كأحمد بن حنبل الذي عصف به التعذيب الرهيب في السجن، أو مفكر وكاتب في قامة ابن المقفع الذي قطعت أطرافه، وهو حي، وألقيت في النار مع مخطوطاته7 ومع ذلك يمكن رؤية كل هذه الوقائع، في اطار الصراعات السياسية الضارية التي مرت بها المجتمعات العربية والاسلامية في عصورها المختلفة7 كما حدث في المجتمعات الأوروبية خلال محاكم التفتيش وغيرها، وفي المجتمع الاميركي الحديث في منتصف القرن العشرين خلال ما عرف باسم الحملة المكارثية7 وأيضاً في مجتمعات العالم الثالث، سواء في العصر الاستعماري او عصر ما بعد الاستقلال7 وكذلك في ما عرف باسم مجموعة البلدان الاشتراكية، من سوفياتية وغيرها، بدعوى حماية العقيدة من الانحراف والخيانة العقلية والاجتماعية7 هذا كله يندرج في خضم الصراع الذي بدأ ولم يتوقف بعد، منذ سعى الانسان، كل انسان في كل مجتمع، من أجل حريته في جسده وعقله ووجدانه ضد القهر المادي والفكري والمعنوي7 على أن ما يحدث في هذا الزمن الراهن في العالم العربي، مختلف نوعيا7 كيف؟ إن جماعات معينة، طفحت على جلد الأمة نتيجة تفاعل عوامل الانحطاط الاجتماعي والفكري، وتراكمات إحباطات تجارب الحكم من قومية واشتراكية، والفساد والبطالة والانحلال الخلقي ونضوب موارد الرزق المشروع وظلمه دروب الامل الفردي والاجتماعي في حياة إنسانية، راحت تقنع نفسها ومريدها بزنها مبعوثة العناية الالهية لانقاذ العباد والبلاد7 وهي جماعات تنسب نفسها - أساسا - الى الدين الاسلامي7 تستخرج منه تفسيرات وتأويلات سطحية وشكلية، لا تتعمق في الجوهر والقيم7 وتجعل في هذه التفسيرات والتأويلات، معياراً لقياس اسلامية المجتمع أو الدولة أو الفرد7 ومن يسقط في هذا القياس، يحق لها ردعه وتغييره وتصفيته بالقوة7 ذلك انه يكون خرج عن الاسلام وارتد عنه وبات القصاص منه فريضة واجبة7 ومنحت هذه الجماعات نفسها الحق والواجب في تنفيذ هذه الفريضة من دون نقض أو ابرام7 وكان من الطبيعي أن يواجه فكر هذه الجماعات وحركتها، بأفكار مضادة تناقشها وتفندها وتعري حججها، سواء من أرضية الدين الإسلامي نفسه أو من أرضية حضارية اجتماعية سياسية، تنطلق من تراكم التطور والتقدم للانسان ومجتمعاته وأفكاره وروحانياته على مدى قرون طويلة7 اتسعت وتعمقت هذه المواجهة7 وبدا معها ان الجماعات لا تصمد بأفكارها وشعاراتها المتخلفة عن الدين والحياة والعصر7 وان العقل العربي المستنير والابداع الكاشف والموحي بالجديد والحرية والجمال، يخترق حصونها في الريف وهوامش المدن وبسطاء الناس، ويفجر بينها أنوار المعرفة والهداية الحقيقية بالاسلام والحياة معا7 وحين تيقظت الجماعات الى ان سلاح هذا العقل العربي، أخطر عليها من كل أسلحة الأمن البوليسي، اصبح هذا العقل هو عدوها اللدود7 ذلك انه المصل المضاد لأفكارها7 ومن هنا حشدت كل قواها لإطفاء نوره وتصفية أجساد أصحابه وكان لا بد لها من أن تهيئ المناخ الاجتماعي والديني لذلك7 فبدأ ودعاتها يركزون الاتهامات بالكفر والالحاد لكل عقل او ابداع يجاهر برأي غير آرائهم7 وأفتى من نصبوهم للفتيا بينهم، بأن أصحاب هذه العقول والابداعات ارتكبوا جريمة الردة عن دينهم وغاصوا في أوحال الحرام وخاصموا كل حلال7 وان المرتد عقوبته القتل7 واذا تقاعس ولي الامر او الدولة عن تنفيذ العقوبة، اصبح ذلك من حق كل مسلم وجماعته7 وهكذا ببساطة أحلوا دم العقل العربي وابداعات الانسان في بناد نفسه ووطنه من خلال التفاعل بين قيم التراث، ومن بينها القيم الاسلامية، وبين علوم العصر وتطوراته ومستجداته السياسية والاجتماعية والاقتصادية7 في عملية البناء العقلاني المتواصل للوطن، تكمن قضية القضايا بالنسبة الى هذه الجماعات الارهابية، فكرا وحركة7 ذلك أن هذا الوطن، بصياغاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هو الهدف الرئيسي والغاية الكبرى لها7 ومن اجل السيطرة على مقدراته والاستيلاء على السلطة فيه تحقيقا لمصالحها، فانه يجب إضعاف هذا الوطن، في مرحلة الصراع على الحكم، وإفقاره من عقوله وإبداعاته الفكرية والفنية والادارية والعلمية في جميع المجالات ومن دون استثناء، الديني منها والمدني7 وتقدم من أجل ذلك فرامانات فتاوى الاغتيال، بأسباب هزيلة متهاوية الأسس7 لكنها ترتدي - زيفاً - مسوح عبارات للاسلام من دون جوهره7 بمعنى انهم كما وصفهم يوما الامام محمد عبده أولئك الذين يلبسون الاسلام كالفرو المقلوب7 يغتال الشيخ حسين الذهبي، لأنه دأب - من أرضية العلم والفقه الاسلامي - على مجادلتهم بالتي هي احسن، وبيان انهم اقرب الى الخوارج في العصر الحديث! يقتل رجل المسرح، علوله، في الجزائر، لأنه يصر على ممارسة بدعة مستوردة من الغرب، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار! يهدر دم الموسيقي والمطرب السوداني خوجلي عثمان، لأنه يغني لغير الله! يصرع الدكتور فرج فوده، لأنه تجرأ، من أرضية اسلامية، على معارضة تفسيراتهم وتأويلاتهم للاسلام7 وقدم بديلا منها، تفسيرات اعمق في أصالتها وأكثر قبولا لدى الناس7 تغرس السكين في رقبة نجيب محفوظ، لأنه كتب أولاد حارتنا، وفيها يناقش ميتافيزيقيات العدل والقوة والحرية والنور في اطار الواقع المعاش7 وهذه - في رؤيتهم - من صفات الله جل جلاله، خارج كل نظر وتأمل7 يهدد المبدع السينمائي يوسف شاهين، لأنه استوحى في فيلم يتميز بلغة سينمائية جميلة، بعض أحداث عصر النبي يوسف في مصر7 في كل مرة، تضبط أجهزة الأمن خلية من هذه الجماعات، يعثر بجانب القنابل والمسدسات والسكاكين والجنازير، على قوائم بأسماء لمثقفين وكتاب ومبدعين مرشحين للاغتيال7 ويبقى، من اغرب الظواهر، في زمن اغتيال العقول، ان من يفتي ا، ينفذ القتل لم يقرأ أو يطالع أو يشاهد أيا من نتاج هذه العقول وابداعاتها الفكرية والفنية والادبية7 وان معظمهم لم يحظ - للظروف الاجتماعية السيئة - بتعليم يتجاوز الابتدائية او الاعدادية7 وبعضهم، اضطرته ظروف الحياة القاسية الى امتهان أعمال منذ الطفولة، كالبناء والحلاقة والسباكة، فما زال يضطرب في عتمة الأمية7 المسألة، اذن، أن تيارا من الجهل النشيط مدججا بالسلاح ويظن انه يجاهر في سبيل الله، يصرع في وحشية ثروة العالم العربي من العقول والطاقات المبدعة للحياة والأمل، باسم الاسلام7 هذه هي تراجيديا زمن اغتيال العقول في أواخر اكثر القرون فكرا ونورا وعلما وتجارب وصراعات العقل في تاريخ الإنسانية