ركزت هذه الدراسة حتى الآن على التحولات في منطقة "الشرق العربي" بمصر والمشرق الهلال الخصيب. ولم يتسع نطاقها الموضوعي- المكاني لتناول تحولات المغرب العربي في السياسة والفكر، ولا طبيعة النتاج الثقافي الجديد في منطقة الخليج والجزيرة العربية التي على رغم كونها مشرق المشرق فقد عوملت باللامبالاة ذاتها التي يشكو منها المغرب! إلا أنه لم يعد ممكناً ونحن نؤرخ - عربياً - للعقود الأخيرة من القرن العشرين أن نتغافل عن التأثير الفكري المتزايد الذي أخذت تمارسه منطقتا المغرب العربي والخليج على الساحة الثقافية في الشرق العربي: من مصر الى الهلال الخصب. حيث لم يبق "مثقف" في هذه الأقطار المشارقية لم يقرأ أو يسمع عن عبدالله العروي وعبدالكريم غلاب، ومحمد عابد الجابري، أو محمد أركون، وهشام جعيط والصادق النيهوم وسواهم من المفكرين المعاصرين في الساحة المغاربية، وعن غازي القصيبي وعبدالعزيز المقالح ومحمد الرميحي وتركي الحمد ونظرائهم في منطقة الخليج والجزيرة العربية. والمفارقة أن مثقفي المغرب العربي كانوا يشعرون الى وقت قريب باهمال المشارقة للشأن المغاربي وللثقافة المغاربية. وخصص محمد مزالي، السياسي والمفكر التونسي المعروف، أحد مؤلفاته للحديث عن "ظلم ذوي القربى" وهي عبارة اتخذها عنواناً لكتابه شاكياً من ظاهرة التغافل المتطاول والاستصغار المزمن - منذ عصور التاريخ الإسلامي الأولي - تلك الظاهرة التي مارستها النفسية الثقافية المشرقية "المتعالية" حيال المغرب العربي اقليمياً وحضارةً وثقافةً. غير أن هزيمة يونيو / حزيران 1967 التي نظرت اليها النخب المغربية على أنها "هزيمة مشرقية" قلبت الصورة بتأثير السلوكيات المنفرة لقبضايات الأحزاب والفصائل المشرقية من جهة، والسلوكيات المخزية لبعض السياح الخليجيين من جهة أخرى - كما يفسر أبو يعرب المرزوقي أستاذ الفلسفة التونسي - حيث غدت صورة المشرقي في ذهن المغربي صورة "ثرثار جبان ذي إثرة وكذب وخداع تماماً كما نجده في صورة العربي عامة عند الغرب،ولعل لهذه الدعاية الأثر الأكبر، وهو يراه مستعداً دائماً لكل الحلول الوسطى والخيانات اللامتناهية بل إن الندوات المزعومة علمية، والجلسات مع بعض المفكرين والجامعيين تجعل الكثيرين يتقززون من الحياة الفكرية في هذا المشرق الذي كانوا يعتبرونه قبلتهم "القدس العربي"، 3/2/1999م. وإذا كان الكاتب لا ينحاز الى المثقفين المغاربة إلا أنه يرى أن معظم سواءتهم المماثلة جاءت بتأثير السلوكيات المشرقية. وبما يتعدى تبادل الاتهام سلباً أو ايجاباً فقد كان اجتهادنا في مقاربة هذه المسألة - تحاوراً مع محمد مزالي والمثقفين المغاربة المتألمين، بحق، من هذه "المظلومية" - إن الاشكالية في اطارها الثقافي المحض ليست أساساً اشكالية مشرقٍ ضد مغرب، وانما هي ظاهرة "مركزية" ثقافية عربية انحصرت - لأسباب تاريخية نهضوية - في عاصمتين ثقافيتين في المشرق، هما القاهرة، وبيروت، حيث نتج عن هذه المركزية الثقافية ابقاء العالم العربي كله - في مشرق ومغرب على السواء - بمثابة "ريف ثقافي" للمركزين المذكورين حتى في أطراف بلديهما، وهما مصر ولبنان. فلو صح أن المسألة - حصراً وبالضرورة - مسألة إهمال مشرقي للمغرب، فكيف يمكن ان نفسر الإهمال الجزئي للحركة الثقافية في كل من العراق وسوريا وفلسطين والأردن من قبل منابر المركزين الثقافيين المذكورين ما لم يهاجر المثقف من هذه الأقطار الى أحد المركزين، كما فعل نزار قباني - مثلاً - بانتقاله من دمشق الى بيروت على قصر المسافة الجغرافية بينهما. بل كيف يمكن أن نفسر، أكثر من ذلك، الإهمال الكلي للشأن الثقافي في اليمن والجزيرة العربية وعمان وأقطار الخليج الأخرى التي يمثل اقليمها المشرق الأقصى، أو مشرق المشرق، إن شئنا مثل هذه المقارنات والمفارقات الاقليمية والجغرافية المكانية. إنه "ظلم الجغرافيا" أو "ظلم المكان" - مشرقاً ومغرباً - كما عبر عن ذلك الروائي والكاتب الأردني المعروف مؤنس الرزاز. فإذا كان كاتب بارز من "عمّان" في قلب المشرق، وعلى بُعدٍ غير شاسع من بيروت أو القاهرة، يشكو من "ظلم المكان"... فماذا ننتظر من كتّابٍ ضاعت أصواتهم في أطراف القارة العربية بمسقط وصنعاء وجدة والبحرين ومراكش وبنغازي ووهران وقسنطينة والقيروان والرباط؟ وهذا لا يعني أننا نسقط أو نغفل في معالجة هذه المسألة - عامل التحيّز القطري والإقليمي، والنظرة "النمطية"، الاستصغارية، بل التحقيرية في الغالب، التي يحملها أهل كل قطر وإقليم عربي لأهالي الأقطار والأقاليم الأخرى ومثقفيها. هذه حقيقة قائمة، وان كانت من المسكوت عنه غالباً في الخطاب العربي العلني العام، حتى تنفجر وتطفو الى السطح حين تشتد الأزمات والمواجهات الأهلية والرسمية العربية. وقد شهدنا أسوأ إفرازاتها أثناء الاحتلال العراقي للكويت. كما أثبتت وجودها مرة أخرى في المنافسة التي جرت بين مرشحين عربيين بارزين لقيادة اليونسكو اكتوبر/ تشرين الأول 1999 وما زالت تشوب الوعي العربي المتبادل وعي العربي حيال الآخر ليس بين المعسكرين العربيين المتواجهين، أو بين "عرب النفط" و"عرب الماء" بحسب تقسيم آخر فحسب، وانما بين كل قطرين عربيين متجاورين: سواء في الشطر المغاربي أو المشارقي. وهذه سمة لا تنفرد بها المجتمعات العربية، وإن كانت تلاحظ - أكثر ما تلاحظ - لدى المجتمعات المتخلفة ثقافياً وحضارياً أكثر من غيرها، وإن لم تسلم منها المجتمعات المتقدمة تماماً لترسخ الاعتداد بالذات واستصغار الآخر في سيكولوجيا الجماعات البشرية بعامة. كما أن تفسيرنا هذا لإشكالية الإهمال المشرقي الثقافي للمغرب لا يقلل - أيضاً - من خطورة غياب الوسائط والوسائل المعينة على التبادل والتواصل بين الأطراف العربية. فكل ذلك عوامل مؤثرة لا بد من أخذها في الحسبان، إلا اننا نعتقد ببساطة أن العمل الابداعي الثقافي المتميز قادر في النهاية على قطع المسافات والأبعاد والحواجز - النفسية والمادية على السواء - والوصول الى النفوس المتعطشة إليه والمهيأة للتفاعل معه في أقصى البلدان والأقاليم، إذا كان يلبّي بالفعل حاجة هذه النفوس الى ما تتطلع اليه. وطبيعي ان ينتشر ويعرف الابداع النابع من المركز قبل غيره، إلا ان ابداع الأطراف لا يمكن أن يبقى مجهولاً الى الأبد. وفي ذروة عزلة المغرب عن المشرق، انفعل المشارقة وتفاعلوا مع قصيدة شاعر تونس الرائد أبي القاسم الشابي إذا الشعب يوماً أراد الحياة وأشعاره الأخرى على رغم جميع الحواجز والمعوقات التي نعرف، لأن هذه الأشعار - ببساطة - لامست شيئاً في أعماق نفوسهم. واليوم عندما يستقبل المثقفون المشارقة أعمال العروي وأركون وغلاب والجابري وجعيط بكل هذا الاهتمام والمناقشة والاحتجاج والإعجاب، فإن معنى ذلك - وهذا ما نأمل أن يتنبه اليه مثقفو المغرب الشاكون من الإهمال المشرقي- إن هذه الأعمال الفكرية المغاربية الجديدة قد تجاوزت - ابداعاً وبحثاً وتعمقاً - مستوى النتاج الثقافي التقليدي السائد في منطقة المغرب العربي لعقود... ذلك النتاج الذي لم يتمكن من اختراق السياج الاقليمي والوصول الى المشرق، لا لشيء إلا أنه، في الغالب وعلى الأرجح، لم يكن يمتلك القدرة الإبداعية على التأثير وجذب الاهتمام ولفت الأنظار، مثلما تحقق للإبداعات المغاربية الجديدة التي صارت تفتن المثقفين المشارقة عن أنفسهم وتشغلهم اهتماماً وتقبلاً واعجاباً واحتجاجاً ورفضاً، أكثر مما تشغلهم كتابات مواطنيهم وابداعاتهم. ولو عددنا وأحصينا ذلك الحكم الهائل من المراجعات والمناقشات والردود - سلباً وايجاباً - التي يكتبها الكتاب المشارقة في نقد مشروع محمد عابد الجابري - وحده - في دراسة العقل العربي، لوجدنا أنفسنا - وبغض النظر عن القيمة الفكرية المطلقة للمشروع - أمام ظاهرة ثقافية عربية غير مسبوقة في الاهتمام المشرقي بالثقافة المغربية - بعكس الاتهام المغاربي التاريخي للمشارقة، وبما يؤشر الى أن وحدة فكرية - ثقافية عربية جديدة آخذة في التشكل بين جناحي الوطن العربي، على رغم الصراعات السياسية والايديولوجية القطرية التي سيكون من الحكمة استيعابها واحتواء تنوعها ضمن نسيج الثقافة العربية الجديدة إذا أريد لها أن تكون ثقافة تنوع ووحدة قابلة للحياة والاستمرار... كان لا بد من هذه "التوطئة" للاقتراب من المشروعات الفكرية المغاربية التي غزت عقول المثقفين الحائرين في المشرق العربي- ربما لتملأ فراغ إخفاقاتهم الفكرية والايديولوجية منذ هزيمة 1967 التي بدت في أنظارهم كما تقدم "هزيمة مشرقية" - ولتجعل من الشأن الثقافي المغاربي - لأول مرة في تاريخ العرب الحديث - شأناً من صميم الاهتمامات الفكرية المشرقية، وجزءاً لا يتجزأ من "التحولات" في الشرق العربي ذاته. وهي ظاهرة من أبرز المستجدات والمتغيرات الثقافية العربية التي لم يعتدها المثقفون العرب منذ عصور ابن رشد وابن عربي وابن حزم وابن خلدون، عندما كان المغرب العربي لم يزل قادراً على انجاب مثل هذه الأسماء الكبيرة، القادرة على قطع المسافات البعيدة واختراق العقول في أقاصي المشرق. كان الدكتور عبدالله العروي من أوائل الكتاب المغاربة الذين لفتوا مثقفي المشرق الى تميزهم الفكري، وذلك ببحثه النقدي المبكر الايديولوجيا العربية المعاصرة المكتوب أصلاً بالفرنسية، والتي قللت ترجمته العربية الأولى بسبب ركاكتها اللغوية من درجة الانتشار التي يستحقها في الوسط الفكري العربي. ويمثل العروي نموذج المفكر والباحث المعرفي الذي يهتم بتأصيل المفاهيم الجديدة واجلائها وتحليلها قبل أدلجتها وهذا ما يميزه - بحثياً ومعرفياً عن محمد عابد الجابري - الذي على رغم دعوته النظرية الى تأسيس المعرفة قبل الايديولوجيا، فإنه ظل يمارس الخلط الملتبس بينهما في الكثير من كتاباته وخصوصاً نقد العقل العربي. وإذا كان هذا المزج بين المعرفي والايديولوجي يستهوي جمهرة المثقفين العرب، لضعف تأسيسهم العلمي ولحاجتهم الى عزاء ايديولوجي عقائدي، فإن ما بذله العروي من جهد تنويري في شأن المفاهيم الأساسية في العلوم الاجتماعية والانسانية مفهوم الدولة - مفهوم الحرية - مفهوم العقل - مفهوم الايديولوجيا - مفهوم التاريخ... الخ هو الذي يمثل الأولوية الفكرية التنويرية في اللحظة الراهنة من حاضر العرب، وهو دور لا يقل عن دور التنويرين الموسوعيين في التاريخ الأوروبي الحديث قبل بدء الحركات والتحولات السياسية الكبرى - من ليبرالية وماركسية - في أوروبا الحديثة. وعلى صعيد تثوير البحث التاريخي الإسلامي، تأتي كتابات المفكر التونسي هشام جعيط وخصوصاً كتابه "الفتنة" المكتوب أصلاً بالفرنسية ترجمه الى العربية د. خليل أحمد خليل/ لبنان لتخالف طروحات جيل المؤرخين القوميين المشارقة وعلى رأسهم المؤرخ العراقي الدكتور عبدالعزيز الدوري الذي تتلمذ على يديه عدد كبير من المثقفين العرب في تكوين وعيهم التاريخي بالأمة. ولعل من أكثر طروحات هشام جعيط إثارة تفسيره لمقتل الخليفة عثمان بن عفان، بأنها "انتصار" للخط الإسلامي الصحيح ضد الخط القبلي المتمثل في قريش الأمويين بزعامة عثمان. وعلى رغم استقلالية فكر جعيط فإنه يلتقي في هذا التفسير ضمناً مع خط الثورة الايرانية الاسلامية المعادي بطبيعته القومية لعروبة الأمويين الذين ينسب اليهم في تحليله الطابع البدوي، على رغم كونهم بناة الدولة والحضارة في صدر الإسلام كمعاوية وعبدالملك والوليد، بما يتعدى الادانات الاخلاقية. ونرى أن تحليله على رغم علميته لا يخلو من أدلجة. فمن وجهة المثالية الدينية يبدو الأمويون بعيدين عن الروح الإسلامية أما من الناحية السوسيولوجية التاريخية فإن وصفهم بالبداوة لا يتفق والواقع التاريخي. أما في ما يتعلق بمشروع الجابري، فإنه على رغم الذيوع الذي حققه كتابه نقد العقل العربي بين جمهور القراء وعامة المثقفين، فإن أهم اسهاماته البحثية الفكرية تتمثل في كتابه الأسبق العصبية والدولة في فكر ابن خلدون. ففي هذا الكتاب كان الجابري رائداً في نهجه وتحليله حيث مثل اعادة نظر مهمة في سوسيولوجيا التاريخ والحاضر في واقع العرب من منطلق ابن خلدون، بنظرة معاصرة لا تفتقر الى التجديد والابتكار. ومن دون التقليل من أهمية كتابه الأكثر ذيوعاً نقد العقل العربي بأجزائه المتعددة ولا من الجهد البحثي والفكري الذي بذله فيه، فإن نقد العقل العربي أشبه ما يكون ببناء معماري فسيح له واجهة زخرفية جذابة وأروقة تبهر القادمين إليه، لكنه من الداخل لا يضم إلا القليل من الغرف الصالحة للسكن. أعني ان مقدماته وتحليلاته جذابة وشائقة، أما نتائجه الحقيقة فهي موضع نظر ويتصف بعضها بالهشاشة المعرفية والتنظيرية التي لا تمثل بناءً يذكر في الفكر العربي. وهي إذا اجتذبت المثقفين العرب غير المختصين في الفلسفة الإسلامية، فإنها لا تمثل في الغالب جديداً للمتخصصين فيها، إلا باعادة الصياغة واختراع المصطلحات التي يجيد الجابري عرضها، وهي التي تفسر في تقديرنا ظاهرة شيوعه بين عامة المثقفين غير المختصين وغير المتعمقين في أصول الفلسفة الإسلامية والفكر العربي. وصنيعه في مجال الفكر يشبه صنيع أدونيس - مع المفتونين به من غير المختصين - في النقد الأدبي والإبداع الفني والكتابي. والفارق أن أدونيس مبدع كبير في الشعر - خصوصاً في مراحله الأولى قبل قصيدة النثر الفجة - أما في الكتابة النقدية والفكرية فإنه تبسيطي واختزالي - مثل الجابري - ويمتلك مثله - قدرة على الإبهار والتأثير، وإن قفز فوق المعطيات الموضوعية للقضايا التي يطرحها. ونرى أن سكوت الجابري عن الرد على المآخذ العلمية البحثية في النقد الموثق والمسهب لجورج طرابيشي في شأن مشروعه، وتجاهله المتعمد لهذا النقد، لا يمثل إشكالاً اخلاقياً في موقفه فحسب، وانما يمثل أيضاً تهرباً علمياً لا يليق بمفكر في مستواه. وهو ما ينسحب على موقفه من الاعتراضات العلمية الأخرى على مشروعه التي صدرت عن عدد من المفكرين العرب الجادين في المغرب والمشرق. إذ عندما يفاجأ المثقفون العرب بعبارته الاستصغارية المنفعلة: "لم أقرأ طرابيشي..." هكذا باستعلاء غريزي، فمن حقهم طرح أكثر من سؤال حول صدقيته كمفكر قالها ضمن مقابلة أجراها معه محمد بركات، أنظر مجلة "الوطن العربي"، 18/12/1998م. أما سر ذيوع كتابه هذا، فمرده في تقديرنا - كما سبق - الى قدرته على تبسيط القضايا الفلسفية والفكرية لجمهور عربي من عامة المثقفين والمتعلمين الذي لم يلموا بتاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، أو وجدوا صعوبة في قراءة أصولها والدراسات البحثية الدقيقة بشأنها، فوجدوا في تبسيط الجابري لها غذاءً ثقافياً سائغاً لهم ولمستواهم المعرفي، أوحى اليهم بأنهم قادرون على التعمق في فهم مادة فلسفية شائكة ظلت محجوبة عنهم في مرحلة تأسيسهم العلمي. وحيث ان مثقفي المشرق كانوا أكثر جهلاً بقضايا الفلسفة الاسلامية من نظائرهم في المغرب الأكثر انفتاحاً في عصرنا على الفلسفة، فقد كانوا أكثر افتتاناً بما جاء به الجابري من تنظيرات في شأنها وذلك ما يفسر محدودية انتشاره في منطقة المغرب العربي مقابل شيوعه في المشرق وعلى الأخص لدى الأوساط والدوائر التي يشايعها ايديولوجياً. وعليه، فإن ذيوع كتابه "نقد العقل العربي" لا يعود الى قوته العلمية وإنما الى "الضعف" المعرفي لدى متلقيه من المثقفين العرب من ذوي الاختصاصات الأخرى الذين ظلت الفلسفة العربية الإسلامية أضعف جوانب تأسيسهم التعليمي منذ الصغر، لما أحاط بدراسة وتدريس الفلسفة في العالم العربي بعامة من محاذير وموانع ما تزال قائمة. أما المختصون في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية فإن ما جاء به الجابري لم يكن جديداً عليهم إلا في بعض المفردات والمصطلحات. وعلى سبيل المثال فإن التقسيم التبسيطي والاختزالي الذي جاء به الجابري لخارطة الفكر العربي بين "بيان" و"برهان" و"عرفان" لم يكن سوى تسميات اخرى لما أطلق عليه "المنحى الفقهي" و"المنحى الفلسفي" و"المنحى الصوفي" في تاريخ الفلسفة الاسلامية منذ أمد بعيد. أنظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب "تاريخ الفلسفة العربية" لكمال اليازجي وأنطون كرم، بيروت، 1965. هذا فضلاً عن وقوعه - نظير بعض مفكري الغرب في القرن التاسع عشر - في طروحات "عرقية" بين غرب عقلاني ومشرق صوفي مناهض للعقل جدعان - الطريق الى المستقبل، ص28. وكما لاحظ مفكر مشرقي طويل الباع في الفلسفة الاسلامية وهو طيب تيزيني، فإن الجابري أخرج المفكر المعتزلي والكاتب المعرفي البارز الجاحظ من المدرسة العقلية العلمية التي كان من أوائل مؤسسيها، ليلحقه بخفة بمدرسة البيان ضمن تعميماته الاختزالية أنظر: طيب تيزيني، من الاستشراق الغربي الى الاستغراب المغربي. وبالنظر إلى "الأمية" الفلسفية السائدة في قطاعات واسعة من المثقفين العرب المعاصرين، فقد غاب عنهم ان أول مشروع جدير بالالتفات لدراسة العقل العربي في العصر الحديث قد تمثل في مؤلفات الباحث المصري الرائد أحمد أمين الموسومة: "فجر الإسلام" وضحى الإسلام" و"ظهر الإسلام" بأجزائه المتعددة وذلك منذ عام 1929، أي قبل سبعين عاماً. والفرق أن أحمد أمين كتب دراساته في العقل العربي بلغة علمية مباشرة ومجردة، بينما كتبها الجابري بأسلوب لا يخلو من جاذبية - تفكيراً وتعبيراً - وفي ذهنه مخاطبة المثقفين العرب المؤدلجين والحائرين منذ هزيمة 1967 وهم بانتظار من يعيد لهم تأسيس قناعاتهم الفكرية. واللافت للنظر ان الجابري يغفل ذكر أحمد أمين ولا يشير الى دراساته التأسيسية السابقة بما لا يقل عن نصف قرن لظهور مشروعه، بما يثير التساؤل عن مدى الالتزام بالوفاء العلمي بين أجيال المفكرين العرب. ولم يقف تغافل الجابري عند حد إغماط حق المفكرين السابقين نظير أحمد أمين، فقد نقل عن فهمي جدعان - أحد المفكرين العرب المعاصرين - مادة أساسية "حذو النعل بالنعل" من كتابه "المحنة" في شأن محنة ابن حنبل والمعتزلة، ولم يشر اليه إلا اشارة جزئية عابرة لا تتناسب مع ما نقله عنه بما يخالف المتعارف عليه "في الدوائر العلمية الجادة" بحسب تعبير جدعان أنظر النص الكامل لشهادته في: "العلمانية والممانعة الإسلامية" لعلي العميم، ص 123 وما بعدها. وكان جدعان قد حذّر من الانبهار بأصحاب "مشاريع العقل العربي" التي صدرت في "مجلدات مهيبة لكنها جاءت حافلة بالمسائل الخلافية وبالتأويلات الشاردة أو المبتسرة... وتلقفتها وسائل البث الإعلامي الايديولوجي "الموازية" وسعت الى توظيفها في غايات سياسية أو ايديولوجية" - جدعان، الطريق الى المستقبل، ص92. ومن جانب آخر، لفت جدعان الى أن "وقائع السنوات الأخيرة، مثلاً قد أبانت عن أن ثلة مرموقة من كبار العقلانية ونقاد العقل قد تخلت تماماً... عن جميع أسلحتها العقلانية حيث كانت تفرض عليها هذه الوقائع وضع عقلانيتها موضع التنفيذ، فلم يكن إلا أن وضعتها بين قوسين وذهبت في الطريق المضاد لأحكام العقل..." - جدعان، المصدر السابق ذاته،ص58، ملمحاً بذلك الى ديماغوجية موقف الجابري من فتنة احتلال الكويت وتدمير العراق 1990-1991. إلا انه يبقى أن مجمل الاسهام الفكري المغاربي الراهن في ثقافتنا العربية المعاصرة، اسهام ايجابي، ومخصب للفكر العربي والإسلامي، خصوصاً اذا تحررت نظرتنا من تأثير كاتب اشكالي بعينه وأحطنا باسهامات المفكرين المغاربيين المعاصرين كافة، كما ينبغي لأي تأسيس معرفي أن يكون. غير أن مراجعتنا هذه ل"ثقافة المراجعة في زمن التراجع" لن تكتمل، بل ستبقى ناقصة، إذا لم نستدر استدارة كاملة من أقصى المغرب الى أقصى الشرق العربي في منطقة الجزيرة العربية والخليج، لنرى أن الجسم الثقافي العربي كله يقترب من حالة النهوض المتجدد بنهوض أقصى جناحيه - غرباً وشرقاً - مع استعادة مراكزه الأولى بمصر ولبنان وسورية بعض حيويتها النهضوية. ولا يسمح لنا هذا الحيّز باعطاء صورة وافية عن الحركة الثقافية والفكرية الجديدة في منطقة الجزيرة والخليج، وليعذرنا مبدعو هذه الحركة لعدم تمكننا هنا من انصافهم على رغم حاجتهم الى الانصاف أكثر من غيرهم من المبدعين العرب الذين يثلم بعضهم صدق ابداعه بانكار ما لنظرائهم في الجزيرة والخليج من ابداع حقيقي وأنا لا أتحدث هنا عن أولئك الذين يستكتبون غيرهم بالمال وينسبونه الى أنفسهم، فمثل هؤلاء لن نختلف على "قيمتهم" أينما كانوا... في عالمنا العربي كله.... ولكننا نكتفي في هذه الوقفة الختامية - ونحن نستدير بالقارئ الى أقصى الشرق العربي- بالاشارة الموجزة الى العمل الفكري والثقافي الخطير المتمثل في "الكتاب - الوثيقة" الذي أصدره غازي عبدالرحمن القصيبي عام 1996 بعنوان العصفورية، الذي سيخطئ أي ناقد أو قارئ إذا اعتبره "رواية" أو "رواية فانتازية" بالأخص، وذلك لأسباب تتعلق بالتقنيات السردية التي لجأ اليها هذا المبدع - والذي تمخض هنا عن مفكر كبير - من أجل "تمرير" ما أراد قوله بصدق جارح لذيذ جارح في حقيقته العارية ولذيذ في سخريته العميقة وفكاهته العفوية النادرة عن مجمل الواقع العربي بتشابكه وتعقيده في الحقبة الحزيرانية بخاصة والحقبة المعاصرة بشكل أعم: هذا إضافة الى نظرات في الشأن الإنساني والعالمي جديرة بالتمعن، تخرج بهذا الكتاب من محليته القومية الى ما هو أوسع... وأرحب... وان كنت أشك في قدرة أي مترجم على ترجمته لأن نكهة وخصوصية أسلوبه العربي تستعصي على أية ترجمة! إن "العصفورية" في عنوان كتاب القصيبي ليست مستشفى الأمراض العقلية الشهير بلبنان، وانما هي البيت العربي بين محيطٍ وخليج، في عصر اللامعقول السياسي والفكري والاجتماعي والإنساني الذي يعانيه العرب ويعصف بوعيهم الغائم. وعليه، فإن مقاربة هذا الكتاب على انه "رواية" أو قصة أو أي شكل أدبي محدد تغيّب حقيقته الفكرية البالغة الخطر التي ينبغي إدراجها في لوحة الثقافة العربية المعاصرة... بمنعطف القرن. ف "العصفورية" مغامرة فكرية خطيرة - وبراعتها الفنية الرفيعة ينبغي ألا تحجب عمقها الفكري ولا شجاعتها الأدبية. فقد جرب كاتبها مختلف أشكال التعبير ليجسد مزيج تجربته بمزيج أسلوبه السهل الممتنع غير القابل للتكرار... انها مرآة متعددة الزوايا والأبعاد لتصيد اللامعقول القومي "بالجرم المشهود" - أعني في حقائقه العارية - و"عقلنته" من أجل سبره وتشخيصه. * كاتب بحريني، والنص يدرس جديد الثقافة العربية حتى سنة 0002.