"كيف تريدني أن أسكن جسداً آخر غير جسدي"؟ يتساءل شوقي أبي شقرا من موقعه الاستراتيجي، في عزلة الكواليس، حيث يشارك في تحديد مسار الحركة الثقافية منذ عقود. فالشاعر اللبناني المتحدر من مغامرة "جيل الرواد"، بنى معادلته الكيميائية السحرية انطلاقاً من مقدرة عفوية فذة على الادهاش والاختزال والصمت. واليوم تتهيأ "دار رياض نجيب الريس" لاصدار مجموعة جديدة لصاحب "أكياس الفقراء" و "لا تأخذ تاج فتى الهيكل" الذي تحدث الى "الوسط" عن هواجسه ومشاغله وعلاقته بالقصيدة، وتقويمه لتجربة مجلة "شعر" حيث يعتبر انه "زرع فحصد الآخرون". للشاعر شوقي أبي شقرا اكثر من بداية، ومسيرته حافلة بالتحولات التي تختصر تجربة فيها الكثير من الغرابة والتفرد... غرابة الكلام في تفرده عن الآخرين، لإحياء صوت الاعماق، صوت الفضاءات المجهولة في الروح والمادة والاشياء. فانطلاقة الشاعر الاولى تبدأ مع انخراطه في الحركة الشعرية الحديثة التي يعتبر من روادها البارزين. والمجموعتان اللتان اصدرهما خلال تلك الحقبة تعكسان هموم ومشاغل الحركة، وتلتزمان قوانينها المرسومة آنذاك: "أكياس الفقراء" 1959 و "خطوات الملك" 1960. غير أن أبي شقرا لم يلبث ان أخذ وجهة اخرى، فكانت بدايته الثانية مع تجربة التحرر والمغامرة: التحرر من القيود والاشكال المتوارثة في الشعر العربي، ثم ركوب تيار المغامرة والتجديد، الذي بدأت تباشيره تظهر مطلع الستينات، حيث اصدر مجموعته الشعرية الثالثة "ماء لحصان العائلة" 1962. وجاءت قصيدته متحررة من الايقاع التقليدي، منتسبة الى ما أخذ يُعرف بتيار "قصيدة النثر". كما فازت هذه المجموعة حال صدورها بجائزة مجلة "شعر". ومضى الشاعر في بلورة عناصر معادلته الكيميائية السحرية، انطلاقاً من تلك المقدرة الفذة، العفوية، على الادهاش. فتوالت مجموعاته الشعرية: "ماء الى حصان العائلة"، "سنجاب يقع من البرج" 1971، "ماء الى حصان العائلة والى حديقة القديسة منمن" 1974 - طبعة ثانية مضاف اليها، "يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً" 1979، "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة" 1983 و "لا تأخذ تاج فتى الهيكل" 1992. وينتظر القراء بكثير من التشويق، صدور مجموعته الشعرية الجديدة عن "دار رياض الريس"، خلال هذا الموسم. وشوقي أبي شقرا المولود عام 1935 في بيروت، نشر اول محاولاته الأدبية في مجلة "الحكمة" البيروتية، وساهم في تأسيس حلقة "الثريا" الثقافية عام 1956. كما ساهم فيما بعد، مع زملاء بارزين، في اطلاق مجلة "شعر" التي وضعت أسس الحداثة الشعرية ووسعت مدارها. وهو يشرف منذ العام 1964 على الصفحة الثقافية في جريدة "النهار" اللبنانية... ومن هذا الموقع الذي عايش فيه الحياة الثقافية والعربية طيلة ثلاثة عقود، من مكتبه في بناية "النهار" الواقعة في بداية شارع الحمراء، التقيناه فكان هذا الحوار: غياب الأب * لننطلق من البدايات، من "ماء لحصان العائلة". كيف كان أول عهدك، في الخمسينات، بالقصيدة الحديثة؟ وهل كنت قبل هذا التاريخ تكتب الشعر الكلاسيكي؟ - في تلك الفترة، وأنا في ضياع فكري وشتات ذهني، لجأت الى الحروف العربية لأخلق منها مسافة ما وصولاً الى منزل آخر. لأنني كنت احتاج الى بعض الحنان وبعض العاطفة، وكان هناك بعض الرغبات التي يجب أن ألبّيها، أولاً حرصاً على ذاتي، وثانياً لأنني اشتاق الى لمس الواقع بيدي. إذاً في تلك الفترة، كنت أرغب في الثأر من الحياة، لأن والدي غاب عني باكراً، ولا أحد سواه كان يمكن ان يعطيني الأفق الحقيقي والمسافة الحقيقية، فأرقص عليها كما يحلو لي، وأضحك وأبكي ساعة أشاء. في غياب والدي لم اجد امامي ملاذاً سوى القصيدة، ففي هذا الملاذ كنت اجد الدفء والحرارة والحنان. وهكذا بدأت القصيدة عندي من حاجة عارمة في داخلي، وربما رحت أفعل كسائر الشعراء، لكن تفصيلاً بسيطاً كان يميزني عن الآخرين. انه هذا الرمح الخفي الذي سأستعمله في حروبي، وأقذف به صدر الحياة حتى ينفجر الدم. تسألني عن القصيدة الكلاسيكية. نعم جرّبت بعض الأبيات، وكان لي بعض المحاولات ك "حمار" في "أكياس الفقراء" وأيضاً قصيدة "قطار" وغيرهما من القصائد. ولكنني عندما نشرت الكتاب في العام 59، كنت واعياً ومدركاً انني سألجأ الى اسلوب آخر، الى قافية اخرى. كنت أحس انني سأكون خلاّقاً ولن ألبث جامداً في ذلك المكان، لذا رحت أبحث عن أفق يلبي حاجتي ويعطيني القوة والزخم اللازمين. كان لي هدف واضح، وكان لا بد ان ارضى عن القصيدة بعد كتابتها، احتراماً لمغامرتي اولاً، وطبعاً للرفاق في مجلة "شعر". وهكذا بدأت تجربة ثانية مع "خطوات الملك"، كان هناك انتقال من عالم الى آخر، وهذا الأمر يحدث مع صدور كل كتاب جديد لي. فأنا كل مرة أقفز من ناحية الى ناحية ومن ضفة الى أخرى، من "أكياس الفقراء" الى "خطوات الملك" الى "ماء لحصان العائلة"... وصولاً الى كتابي الذي سيصدر عن دار الريس في آخر هذه السنة. * عندما يسمعك المرء، يخيل اليه ان مسيرتك الشعرية تمت بهدوء ومن دون اضطرابات وآلام مخاض... - أوجزت لك نفسي، لكنني لم أوجز متاعبي، فهي كثيرة. ولست الشاعر الوحيد الذي ينفرد بهذه المتاعب والهموم، بل اشترك فيها مع كل الشعراء. * كل الشعراء؟ من مثلاً؟ - ابن الرومي الذي أحسه صديقاً لأنني لم أجد في الشعر العربي اصدق منه، ولا شاعراً يحمل ارتعاشات كالتي حملها شعره، في خضم سلوك متناثر يمتلئ بالحساسيات وبكل ما يجعله شعراً نحبه، وان كان لا يصل الينا كاملاً. بإمكاني ان احدثك عن لون آخر في حياتي، هو لون الانتقام، لون الثأر، لون الرمح، لون الأيام. كل ذلك كان بين يدي، أدخلته في طاحونتي. وكان ما كان من قدرتي على اللغة العربية، وإحاطتي بها، وما أقدمت عليه بمطرقتي وقلمي. وكنت حريصاً ان اجعل الشعاع "يشرقط" منها، كما تتطاير الشرارة من حجر الصوان. الاهتزاز الكبير * كانت منطلقاتك ذاتية اذاً في مرحلة التأسيس؟ - كنا كلنا في الخمسينات نعيش حالة غليان يمكن ان نطلق عليها تسمية "الاهتزاز الكبير". كل تأثيرات الحقبة وتساؤلاتها ورغباتها كانت تهزنا، وانطلقنا كل واحد في دربه سعياً وراء الهدف البعيد نفسه، أعني القطيعة مع القصيدة القديمة، او القصيدة الكلاسيكية بصورة عامة. من هنا انطلقت شخصياً في "أكياس الفقراء"، ومن الفقراء والمعذبين ومن الفلاحين ومن الطبقة التي انتمي اليها. كنت الصادق، ولا استطيع ان أكون العكس، وتباً للذين يزعمون ان القصيدة كذب في كذب، إلا في بعض الاحيان، حين يقرر الشاعر أن يكذب. ولكنه كذب في معرض المخاتلة. فالشاعر يستطيع ان يجبل جبلة اخرى حتى من أوجاعه. وأن يرفع هذه الاوجاع الى ذروتها الانسانية. ويستطيع ان يكون متكلماً باسم الكافة حتى وهو يتكلم عن ذاته فقط. هذا لا يدعى كذباً عندي، ان ارتفع انطلاقاً من مخاوفي الى حيث تصير هذه المخاوف في ملء فوضاها، لا في ملء كذبها. وهكذا ينتهي الشاعر الى ان يكون للناس، لا لذاته فقط مقفلاً عليه الباب وبعيداً عن اي نسمة او اي ضوء وعن اي حزن يحدث في العالم. كتبتَ القصيدة الموزونة في اكثر من مجموعة. فمتى تم تحولك لصالح القصيدة الحرة غير الموزونة؟ وما هي المؤثرات والعوامل التي أثّرت في هذا التحول؟ - أجيبك عن هذا السؤال والزمن مر والقصائد ما زالت في مكانها الصحيح. لأني لم أكتب قصيدة ذات عمر واحد فقط، وذات مصير واحد لا غير، بل انني اكتشفت وأنا في الستين ان هناك من يشتاق ان يقرأني في ثوبي الاول، ذلك الثوب الذي كان انيقاً وأوصلني الى الخارج عبر الترجمات. اذاً اقول لك ان ذلك الثوب كان مريحاً، وهو الذي جلب لي الاحترام بين الشعراء في بلادي وفي العالم العربي. لا بد من معرفة الاصول، وما يجب ان يكون عليه الشاعر ليستطيع ان يتقدم الى اي أفق او ضفة. كان المرحوم يوسف الخال يطرب لمجموعة "خطوات الملك"، ولعل كتابي هذا شكّل بالنسبة اليه "فشة الخلق" المطلوبة. فعبر القصائد - الديوان أبلغت رسالتي الى القارئ، وهي الرسالة الحديثة المتعددة المستويات، التي تنطوي على اكثر من معنى، وسحرها اكثر من السحر، وفيها جواهر اكثر مما عند الصائغ. لا بد أن يوسف أعجب بالقفزة من "أكياس الفقراء" الى "خطوات الملك" وكلاهما حافظ على التفعيلة، من دون المحافظة على المضمون الذي أعلنا تمردنا عليه، ولذلك كان يوسف مسروراً، وأبدى سروره علناً، وكان ان فزت بثقته تلك. فالمضمون بات هنا غنياً واسع الأفق، واستطاع الوزن في أجزاء منه ان يحمل كل الاتساع وكل الرحابة الممكنة، لذا انتقل شعري الى الخارج مترجماً من خلال "خطوات الملك". وما زال هذا الكتاب يحفل بالعلامات التي لا صمت فيها ولا كذب، بل ان الارتفاع فيها، ارتفاع فوق العادي. وهنا، عند هذه النقطة، تجاوزت عتبة اخرى منتقلاً الى ما يدعى الشعر المفتوح او الشعر الحر، حيث النثر يحمل القصيدة. وكان "ماء لحصان العائلة" الفائز بجائزة مجلة "شعر" عام 1962. وتجدر الاشارة هنا، الى ان تجاربي في عامي 1959 - 1960 كانت تجري مرتاحة، وتتوافق مع التجربة الحديثة القائمة من حولنا. والوحي في مجموعتي الاولى والثانية، غير الوحي الذي كان في سواهما وحولهما. تقوقع لبناني؟ * هناك من يرى ان تجربتك كانت محصورة في الاطار اللبناني... - كانت تجربتي لبنانية صرفة هذا صحيح، بينما كانت عند سواي تجربة تطلب القضية الجلى، وتجعل القصيدة نوعاً من البحث، او نوعاً من الفكر، وأين الشعر هنا، وأين الحداثة وأين الاسئلة؟ كنا في مستهل المغامرة، وكان على كل شاعر ان ينزل الى منجمه، في هيكله الشخصي، في الموت والحياة وفي القضايا كلها. كانت مؤثرات كثيرة والأفكار اكثر منها، ولكنني فعلت ما استطيع ان افعله، وفي النهاية فعلت ما أريده، ما أنا مقتنع به. كيف تريدني ان اكون من بيئة غير بيئتي ووطن هو غير وطني وان أسكن جسداً غير جسدي؟ انا انطلقت من ذاتي وليس من ذات اخرى، انطلقت من خيالي وليس من خيال آخر. ولكنني بهذا السلوك اعطيت للمضمون العادي البسيط أبعاداً خصبة، وحوّلت المادة الجامدة الى حركة مرهفة، وبرهنت من خلال هذه المغامرة ان لبنان وطن شعري. ولعلني اول الذين غرقوا في لبنان هذا الغرق، ثم صعدوا من قاعه باللؤلؤ والمحار. كنت صادقاً، كما البحتري في وصف أيوان كسرى، وكما ابن الرومي في وصف ذاته، مع انني لست منتسباً الى أي منهما، كما لا أنتسب الى اي شاعر آخر. انا أناني جداً، وأعتمد على نفسي التي إرتوت من بلاد تختصر كل البلدان وترشح بكل القضايا. * ماذا تذكر من معاصرتك لشعراء كالسياب؟ - السياب مر في حياتي من خلال مجلة "شعر"، حين كان يأتي زائراً الى بيروت. كان في منتهى العفوية، صديقاً محباً، وانساناً ليّناً ناعماً، قصبته تكاد تنكسر في الهواء... انا عرفته من الجانب الأضعف، لا من قصائده، بل عبر جسده العليل وعينيه الرائيتين على اتساعهما ونتوئهما، وشاربيه الصغيرين الجالسين فوق فمه. كان السياب غزير القول، عنده السليقة التي يمتاز بها الشعراء العراقيون، السليقة المرتبطة بالشعر التراثي وبالقصيدة العربية الكلاسيكية. لكنه لم يقف عندها هو، ولا وقع في أسرها، ولذلك يغزر عنده القول في القصيدة حيث الكلمة تقارع الكلمة والألفاظ تتوالى من مخزونها التراثي ومن مخزونها الذاتي المتميز. وهنا أظن ان السياب بالغ في زخرفة اللغة حتى اصبحت ثقيلة عليه وزائدة على رؤيته. ولذلك يشكو شعر السياب من بعض التطويل ومن نثرية مسرفة، على الرغم من اعتماده الوزن، إذ لا يستطيع شعر السياب إلا ان يكون موزوناً. ولا أجد غضاضة في ذلك، ولا أجد عيباً سوى ان الشاعر لم ينظر ثانية في قصائده، ربما لأنه كان متعباً وربما لأنه كان يشعر بدنو الأجل. ولذلك كان يرتمي كلياً في القصيدة، ويحرص على الغزارة في النص وعلى ان تكون الغنائية هي المصدر والاساس. وهو أمر نراه في شعره ونلمسه - على الرغم من بعض اللفظية الدبقة - نتقبله وننسى اننا في حضرة شاعر ينتمي الى التراث، كما ينتمي الى الحاضر. وهذا المزيج هو الذي كان يعجبنا. أما عن قيمة السياب والآخرين، فان الزمن وحده يمكن ان يحددها. علينا ان ننتظر، فاما ان نعيش او نختفي، وإما ان نكون شعراء عاديين في سلسلة طويلة، او نحتل موقع الصدارة، والاحتمال الاول لا أرتضيه لنفسي، لأن لنا الصدر دون العالمين او القبر. * هنالك اكثر من قطب ساهم في تأسيس الكتابة الشعرية الجديدة التي عرفت فيما بعد ب "قصيدة النثر"، كأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط... كيف تحدد تجربتك الشعرية ضمن هذا الاطار؟ - إن كتابتي النثرية آتية مني، وهي كتابة عربية تقترب من العامية، لتأخذ منها الجمال والحركة والابداع، كما تقترب من اللغة الفصحى وتأخذ منها الكلمة الأجلى والاجل. وهذه الكلمة مهملة ومتروكة عادة عند غيري، أما عندي فمدموغة بالحبر الذي أدهن به اللغة فيغطي الجو، كما يفعل "الصبيدج" حين يقترب منه الصياد. انني من جماعة الحبر الذين يدلقون محبرتهم كلياً على النص. فهل ان لغتي وشعري يجعلان مني "قطباً" كما تقول؟ أكرر لك ان الزمن سيكون السياف كما عند هارون الرشيد: فإما ان يقطع عنق هذا النثر، وإما ان يطرب الخليفة ويرمي الى الشاعر بكيس الدنانير. قصور على الرمال! * تيار مجلة "شعر" غيّر الكثير من ملامح الشعر العربي وأخرجه من السياق النمطي الى فضاءات التجريب والحرية... هل يمكن استعادة تلك الاجواء ودور الفاعلين فيها؟ - انني امام مجلة "شعر" لا استطيع السكوت، لكنني لا استطيع الكلام ايضاً. لأنه كلام سيكون عني وعن بعض الرفاق تحديداً. ذلك ان "شعر" كانت مجلة كالمجلات، اما الشعراء الذين تحلقوا حولها فلم يكونوا كسائر الشعراء. واذا كانت اخذت مجدها فيما بعد واعتبرت مرجعاً، فذلك يعود الى ان الذين اطلقوها كانوا شعراء مميزين، وتركوا اثراً على معاصريهم فهل ستبقى صورتهم غداً كما هي الآن؟ "شعر" عنوان تجربة رائدة وفريدة، كانت للشعر فقط ولقضية هذا الشعر المختلف بالضرورة. وكنا نحن اضافة بسيطة الى السلسلة السابقة واللاحقة، غير قادرين على مساواة أنفسنا بالآخرين. كنا أقل مما يجب ان نكون، كما أثبتت الايام، وكان الأجدر بنا ان نبكي على انفسنا قبل غيرنا. عزاؤنا الوحيد اننا حاولنا، مع انا لم نستطع ان نبني شيئاً ثابتاً، فالقصر الذي بنيناه على الرمال سيسقط، ويكون سقوطه عظيماً. بلى اننا شعراء حاولوا، وكان ما حاولوه مشكوراً. وأظن ان حركتنا في مجلة "شعر" كانت مثمرة، فهي غيرت القصيدة ونقلتها من الساحة القديمة الى الساحة المعاصرة، حيث الجلبة وحيث العمل الذي يجب ان يكون جديراً بأولئك الشعراء. وإلا كنا سنذهب الى بيوتنا بكل بساطة، حتى من دون خفي حنين، حتى بلا اقلامنا ورؤوسنا وعيوننا. وكاد الامر ان يكون كذلك، لكن الرواد لم يتخاذلوا، ولم يتراجعوا امام الهجمات الشرسة عليهم، ولم يصدقوا انهم "منحرفون"! وهذا ما يشرّفهم. أتمنى لهؤلاء، كما أتمنى لنفسي، ان ينالوا جزاءهم بين اهلهم وبين الآخرين، وان يكون مصيرهم غير المصير الذي يلاقيه عندنا الشعراء. أرجو لهم مصيراً اوسع من صفحة في كتاب القراءة او من منبر صغير. * ما هو الدور الذي كنت تقوم به في مجلة "شعر"؟ - كنت في مجلة "شعر" مثل النملة، دائماً في حالة تأهب، ودائماً في حالة عمل. أنكب على القصائد وأحاول التمييز فيها بين القمح والزؤان، لأختار ما يصلح مؤونة لنا في الشتاء وفي كل الفصول. كنت صحافياً، أحرص على وصول ما ننشر الى القارئ بأفضل الشروط. وكنت كذلك شاعراً مثل الزملاء، لكنني تميزت عنهم بأن يوسف الخال كان يعتمد علي في تزويده بالمادة الثقافية من اخبار ونصوص نضعها في متناول القارئ. وكل مشروع صحافي يقتضي نصوصاً تلائمه، ويفترض مراعاة خصائص يضيع العمل من دونها وتضيع الهوية. ومن هنا ان اسمي ورد كسكرتير تحرير. كنت ايضاً بحكم اشرافي على النصوص أتدخل في تنقيتها، وصار يوسف الخال يعتمد علي ويعطيني صلاحيات كاملة في التشذيب وطرد النافل والابقاء على ما يعتبر انه الصواب في الشعر. دوري في مجلة "شعر" * ألا تشعر ان هذا الاعتراف ينطوي على شيء من الخطورة؟ - كان لا بد من ذلك، ولولاه لوقعنا في الفراغ ولعرّضنا انفسنا للهشاشة، ولكان القارئ ضحك علينا ومنا لأننا نعطيه نصوصاً لا تنتمي الى الشعر. ولذلك كانت قسوتي كبيرة! وازدادت ثقة يوسف الخال بي، وكذلك ثقة الناس بنا. وصار بين أيدينا زاد من المعرفة نفاخر به، وزاد من التقنية التي من شأنها ان ترقى بالقصائد من حالتها الرخوة الى حالتها المصقولة والراقية والأكيدة. واغتنت المجلة بالقصائد التي نستطيع ان نرجع اليها اليوم، من دون ان نشعر بأي وهن او هزال. همنا الاوحد كان رقي الشعر وقدرته على العيش اكثر من عيش الوردة. حرصنا ذلك الوقت على تحاشي الاصطدام بالفراغ الذي يجعل مغامرتنا تفضي الى الخيبة والفشل. كان ينبغي ان نفعل ذلك وان نحسّن الاداء الشعري، فنصل الى قصيدة سليمة تكتب لها الحياة، بدل ان تضيع في العدم بلا قارئ يتفاعل معها، ولا ناقد يشرّحها، ولا جمهور يمشي في موكبها. انا اعتز بدوري في مجلة "شعر". لقد انقذت بعض النصوص الشعرية من فوضاها، وتدخلت في نصوص اخرى فصقلتها وغربلتها ولم يبق منها إلا ما هو جدير بالبقاء. ولن اطيل هنا، فالزمن سيأتي وتأتي الساعة، وأظن ان الكثيرين صاروا يعرفون ما فعلته في الكواليس، وكيف زرعت وحصد غيري! ولست نادماً ابداً، لأن ما فعلت آنذاك كان يصب في مصلحتنا جميعاً، فالرهان كان ان ننجح كلنا، او ان نسقط كلنا. ولو فشلنا كلنا إلا واحداً، لكان الفشل اصاب هذا الناجح ايضاً ورماه في الظل. لكننا نجحنا كلنا، وصار لكل شاعر مجده ولونه وقصيدته... أدونيس والقمباز * كيف تقوّم دور أنسي الحاج وأدونيس في هذا التيار... تيار الحداثة ومجلة "شعر" بالتحديد؟ ويوسف الخال هل كان قائداً، معلماً، موجهاً وممولاً لتيار مجلة "شعر"؟ وكيف تقوّمه الآن من الناحية الشعرية؟ - لأول مرة أحكي عن أدونيس. ليس من الضروري ان نعتبره شاعراً كبيراً، كما انه ليس بالضرورة شاعراً صغيراً. انه في رأيي انقلب انقلاباً كبيراً منذ تعرف الى قصيدة سان جون بيرس، فتأثر بها. ولا اقول ان هذا التأثير هو وحده الذي سقط على أدونيس ولفه بعباءته. فأدونيس قبل ان يتأثر بأحد، مشبع بالتراث العربي وبالشعر تحديداً. ولأنه مدرك لهذا التراث وابن هذا التراث، عمل على تجاوزه وعلى تقديم ما هو اوسع منه وأخطر. كان يلعب بالكلمة العربية، باللسان العربي ويعتمد كثيراًعلى هذه الغزارة العربية، حيث الكلمة لها القوة وحيث الكثافة اللغوية هي حجر الاساس. وأمعن ادونيس في استغلال التراكم اللغوي واستغلال قدرات اللغة بما تتيحه من فيضان لفظي، حتى بدا وكأنه يلبس قمبازاً اطول منه. لأن اللغة ملأته وتساقطت عليه ورشت عليه كل ثمارها. ويكاد أدونيس يبدو لي من هنا، تحت هذه الخيمة، لكنه غير حر، وهو لا يدري، وكذلك هو أسير هذه المتناقضات الى النهاية. وأرجو له حتى في هذه المرحلة من الشعر، وكل شاعر وصل الى ما وصل اليه، أرجو له ان يعي فقط ماذا فعل باللغة، بل ماذا فعلت اللغة به. هذه الحالة لا تنطبق على أنسي الحاج مثلاً. فهو على ارتباط باللغة العربية، لكنه صقلها وقولبها في نصه لتكون له أداة مطواعة. واذا به يربح موقعين: موقع اللغة وموقع الشعر. ولعله بهذا، يكمل الحالة اللبنانية التي تحدر منها شعراء وكتّاب مجيدون لعبوا دوراً رائداً في الثقافة العربية. اما يوسف الخال - طيّب الله ثراه - فكان الصديق اولاً، وكان الداعية النظري. ولا أستطيع ان اقول انه كان قائداً او ما شابه ذلك. الشيء المؤكد هو انه كان اكثر المتحمسين للعمل. فهو في لحظة مثل دون كيشوت، وفي لحظة اخرى مثل عزرا باوند، وفي لحظة ما مثل يوسف الخال نفسه... ولولاه لما كانت الحلقة اكتملت، ولا انفتح المجال امام الشعراء اقرانه ليلعبوا الدور الحاسم الذي لعبوه. فهو بحق من شق الطريق، لكنه بدا مقصراً بعض الشيء عن اللحاق بنا شعرياً. هنا يختل التوازن، في صورة يوسف الخال بين صاحب القيادة النظرية من جهة، والشاعر من جهة ثانية. فعطاؤه الشعري ينقسم على مرحلتين، الاولى كلاسيكية والثانية معاصرة، وفي كلتيهما له اثر ضعيف ثم اثر قوي. لكن لنترك يوسف في سكينته الأبدية، فأنا لن أظلمه ابداً وسوف اظل احبه الى آخر الايام. وما زلت اذكر كيف انزل الى حفرة بجوار الكنيسة في غزير، وراح صديقه فؤاد رفقة يهيل عليه التراب حتى غاب النعش في العمق وصار التراب على مستوى التراب. * لماذا لم تتكرر في تاريخنا الشعري، مثل تلك الجماعة او مثل ذاك التيار؟ - يا صديقي لن يتكرر اولئك الشعراء، ولا ذاك الجو الذي كانوا فيه. وأنت تعلم السبب. نحن فاكهة وثمار، لا من شجرة واحدة ولا من جذع واحد، بل من جذوع واشجار وحدائق مختلفة. ولعلنا تطلعنا الى العالم تطلعاً مدهوشاً، فيه نهم الى الضوء. ولا تنسى اننا كنا في بيروتالمدينة والزمن الاستثنائيين، وان الايام كانت احلى والشوارع مفتوحة والعقول مشرعة، وكان كل شيء يدفعنا صوب المغامرة، ويدعونا الى كتابة قصيدة مشتعلة بالرغبات وبالجمرات المتقدة. كانت بيروت هي بيروت، وكان لبنان هو لبنان، وكنا في حالة تأهب امام العالم الشعري، هنا وفي الخارج، في يقظة تامة، لكي نسمع ونقرأ ونكتب. ببضع ليرات، كنا نجوب لبنان ونسهر في أرجائه، ونأكل ونضحك، والشعر كالضحكة لا يفارقنا ابداً. نحن الثمار الجيدة التي حبل بها ذاك الزمن، والنسغ الذي سقانا هو نسغ غريب، وكانت التربة مهيأة، وعلى هذه التربة بنينا وعمّرنا وصغنا القصائد، ورحنا نمد جذورنا الى غير حقل ومجال، حتى لكأننا من طينة اخرى، ونحن نعلم اننا لسنا كذلك، بل جماعة من الشعراء، فقراء او لا، اغنياء او لا، مساكين وكفى. وكانت الحرب وكان الصداع، فكيف لشعراء مثلنا او ينبتوا اليوم من هذه الارض التي اندثرت وتغيرت وتبدلت؟ الارض عقمت، والأبواب اغلقت، وصار كل ينجو بنفسه، والوقت ضاق والايام قصرت والاعمار كذلك. احياناً اشعر بالظلم حين انظر حولي فلا ارى ما يذكّر بتلك التجربة. ومع ذلك هناك شعراء طيبون وقادرون، وهناك اجيال تنمو ونحن في المرصاد والانتظار. * في شعرك تشيع المفردات العامية، وخصوصاً في مجموعتيك الاخيرتين "حيرتي تفاحة جالسة على الطاولة" و "لا تأخذ تاج فتى الهيكل". ما خلفية هذا الخيار؟ - مياه طاحونتي من منبعين: الفصحى والعامية. وآخذ من كلا المصدرين. وعندي الشجاعة الكاملة لهذا الأخذ، أصطفي الكلمات ثم اصنع منها قلادات وأساور. * شعرك غريب على الشعر العربي، لأي شيء ترد هذه الغرابة؟ - سوف يتعود الناس علي. أحسبني كوكباً او قمراً او شجرة. لا شك سيأتي رواد فضاء الى حيث انا وستأتي عصافير الى اغصاني. * في مجموعتك الاخيرة "لا تأخذ تاج فتى الهيكل" هناك تدمير لبناء القصيدة... وتفكيك للمنطق وللتسلسل العضوي، وثمة تشويش وخلخلة، وغياب لأي ترابط وحبكة وبناء. لماذا؟ - لأن ذلك ما شئت، وذلك ما قصدت. ورأى عكس ما تقول انني جد مترابط، وأن قصائدي تلك في منتهى التماسك... حتى وإن خُيّل للآخرين ان الامر غير ذلك! * ماذا عن تجربتك في الصحافة الثقافية اليومية طوال ثلاثة عقود؟ ماذا قدمت للشعر من خلال هذا الموقع؟ - اردتها الصفحة الثقافية امتداداً حقيقياً لمغامرة مجلة "شعر"، وأنا احمل كل تلك المؤثرات وكل تلك العوامل، وما زلت أزرع ثقافياً على قدر استطاعتي وعلى قدر إمكاناتي. وأحس انني، مع مضي السنوات بمآسيها وفواجعها، قمت بالعمل وخلقت الجو انا والرفاق، ولكل انسان ان يتحرك في هذا الجو وان يمضي الى حيث يريد. * كيف تنظر الى الشباب الذين خرجوا من ذلك المنبر؟ - هناك سرب من الشعراء التجأوا الي، الى الاغصان التي اتحتها لهم، ثم انطلقوا. وهم أحرار الآن، ولهم كل القدرة كي يحلقوا في سماء الشعر، او ان يتساقطوا في الهاوية.