مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    محترفات التنس عندنا في الرياض!    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    الذاكرة.. وحاسة الشم    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    إرشاد مكاني بلغات في المسجد الحرام    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع "محكوم يشتهي العفو ويتقلب في اليأس" . أنسي الحاج العائد بعد غياب عشرين عاماً : اهتم كثيرون بتمردي على العمود الشعري ولم يسألوا عن مضمون قصائدي
نشر في الحياة يوم 25 - 10 - 1993

منذ صدور مجموعته الأولى "لن"، وهو في العشرين، برز أنسي الحاج في موقع "الابن الرهيب للشعر العربي الحديث"، تلك الصفة التي لم تفارقه بعد ذلك رغم دخوله عشية الحرب الاهلية اللبنانية مرحلة من الصمت والانطواء على الذات. والشاعر اللبناني الذي قلب في الستينات مفاهيم الكتابة، ودفع مشروع الحداثة في منحى اكثر جذرية، يعود اليوم الى النشر بعد عقدين من الغياب، بمجموعة "الوليمة" التي تصدر قريباً عن "دار الريس" في لندن وبيروت. أين هو اليوم صاحب "الرأس المقطوع" من تجارب الامس ومراهناته؟ "الوسط" قصدته سائلة، فكان هذا الحديث عن قصيدة النثر وجدار اللغة والمرحلة التموزية ومجلة "شعر"، وقضايا اخرى...
أنسي الحاج، صوت نادر في مسيرة الشعر العربي الحديث. ففي حين كان الرواد منشغلين في تأسيس حركة شعرية جديدة لم يمضِ على حضورها اكثر من عقد واحد، كان الشاعر اللبناني أنسي الحاج عاكفاً على كلمات غريبة ذات مذاق مغاير وخاص، كلمات لا تمت لتركيبة الشعر العربي الكلاسيكي بصلة، بيد انها كانت اقرب الى المسار الشعري المختلف الذي استحدثه الرواد.
هكذا لاقت هذه التجربة الاستثنائية أوسع ترحيب، وحيّاها على وجه الخصوص الشاعر العراقي الرائد بدر شاكر السياب. وسرعان ما وجدت قصائد انسي الحاج مكانها فوق صفحات مجلة "شعر" اللبنانية حيث احتضنها الشاعر يوسف الخال، لتسافر عبر هذا المنبر الى كل الحواضر الثقافية للبلاد العربية. ولم يلبث هذا الشعر ان شاع من خلال تسمية جديدة، هي "قصيدة النثر"، ذات الوقع الغريب تلك الايام على الأذن العربية، وكذلك على اللسان والخيال العربيين.
قبل صاحب "الرأس المقطوع"، عرف الشعر العربي محاولات خجولة، تقدمت ببطء وتحفظ على طريق "قصيدة النثر" المحفوف بالمخاطر. الا ان اغلب تلك المحاولات بقي ناقصاً، غير متمكن من أدواته ويفتقر الى النضج الكافي على مستوى الرؤيا والتعبير. وعلى الصعيد الفني والجمالي، اتسمت التجارب الأولى بأفق ضيق محدود، جعلها تبقى أسيرة ذاتيتها، أو تقف عند عتبة الشعر مترددة بين اكثر من خيار.
اما أنسي الحاج فقد جاء، منذ مجموعته الشعرية الأولى "لن" 1960، بأدوات جمالية غير مألوفة، قادرة على رفع التحدي، وعلى شحن اللغة الشعرية بقاموس وتراكيب وبنى وصور مختلفة، تقطع مع تراث كامل للقصيدة العربية، وتفتح آفاق رحبة لمغامرة غير مضمونة النتائج.
وقف الشاعر على أرصف الحرية، وعينه على اقاليم مجهولة لم تخترع بعد، سلاحه الجرأة ورغبة لا تضاهى في العصيان والمشاغبة... وراح يرتجل زمناً آخر، مستنداً في تجربته الى ثقافة شعرية واسعة، ومعرفة وافية لما وصلت اليه الحركة الشعرية في العالم. كان ذلك مطلع الستينات، وعمر الشاعر لم يتجاوز العشرين، حين ظهرت مجموعته الأولى "لن"، مؤرخة لولادة ثانية في مسار الشعر العربي الحديث.
واصل أنسي الحاج مغامرته الشعرية، وكان صدور مجموعة جديدة له يعتبر اكثر من حدث ثقافي: "الرأس المقطوع"، "ماضي الأيام الآتية"، "ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة"... وصولاً الى "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" 1975 وهو ديوان يضم قصيدة واحدة فائقة العذوبة، كثيفة الصور، مدهشة المناخات... جاءت، عشية الحرب الاهلية اللبنانية، لتعلن عن دخول الشاعر فترة صمت طالت أكثر من عقدين.
لماذا غرق أنسي في هذا الغياب الاختياري المتعمد؟ أهي دوامة الحرب العقيمة، ام وصول الفعل الشعري بصاحبه الى حالة من اللاجدوى واللامعنى والاستحالة؟ تصعب الاجابة على السؤال وحده المستقبل قد يكشف، على يد مؤرخي الادب ودارسيه، عن بعض خلفياته وأبعاده. اما نحن، فنكتفي اليوم بحدثين بارزين، تضج بهما بيروت العائدة الى ذاتها بعد غربة طالت. فپ"دار الجديد" تعمل حالياً على اصدار طبعة جديدة لمجموعات أنسي الحاج القديمة بأكملها... بينما تستعد "دار رياض نجيب الريس" لاصدار مجموعة جديدة للشاعر بعنوان "الوليمة".
بعد قطيعة استمرت قرابة عشرين عاماً اذاً، ها هو الشاعر يمسك ببراعته مجدداً، ليستعيد عبثه الطفولي ويخرج مجدداً من كيس الحاوي مفرداته السحرية، وصوره الغريبة، وتراكيبه المتخاصمة مع كل منطق. لكن زمناً هائلاً يفصل بين "لن" و"الوليمة"، والتجربة التي بدأت طليعية في الستينات تركت على مرّ السنوات بصماتها على اصوات كثيرة، تشترك اليوم في قصيدة النثر، وخطاب الحركة الشعرية المعاصرة.
من هنا اهمية الحوار الذي اجريناه مع الشاعر، في مكتبه في جريدة "النهار" البيروتية التي يدير تحريرها. كالخفاش يعيش أنسي الحاج ويعمل ويكتب في الليل. والليل وحده يمكن ان يحتضن أحاديث اليوم...
نبدأ من "لن"، مجموعتك الشعرية الأولى. في المجموعة مقدمة توضح المسار المغاير للقصيدة الجديدة. الآن، وبعد مضي ثلاثة وثلاثين عاماً على صدور "لن"، كيف تنظر الى سياق هذه التجربة؟
- بصرف النظر عن بعض التفاصيل لم يتغير شيء. ولو بدا لي خلاف ذلك في فترات ماضية. يجب ان اعترف لك بأني لا اعيد قراءة نفسي. ليس هو الملل بل الخوف. ولكني، قبل اسابيع، اضطررت الى اعادة القراءة بسبب طبعة جديدة سوف تصدر في الربيع لكتبي، وبعد هذه القراءة يمكنني ان اقول: لم يتغير شيء.
الشاعر الملعون
ولكن "الشاعر الملعون" في البدايات، ألم يتغير في "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"؟
- يصبو الملعون الى النعمة وهو يتخبط في اللعنة. كما يشتهي المحكوم العفو وهو يتقلب في اليأس. هذا التناوب موجود عندي دائماً. ان لعنتي معذبة، وليست مستقرة ولا مطمئنة الى وضعها. والمثال يبقى هو الخلاص، على رغم كل الانهيارات والانتحارات.
وعذاب الملعون قد يختار للتعبير عن نفسه طريق التأمل مثلما قد يختار التجديف. شكل اللفظة الخارجي مهم بالطبع، لكن الاهم منه الروح التي تغذيها: تجربتها، لغتها غير المباشرة، توقها، مراميها الحقيقية... علينا ان نحسن قراءة الشاعر لا بين سطوره كما يقال، بل في الدم الذي يسري بين حروفه وعبر الجذور التي يتفرع منها فكره وخياله.
وعلى الصعيد التقني، كيف تنظر الى تجربة قصيدة النثر بعد مرور كل هذه السنوات؟
- عبّرت عن نفسي، ولا ازال، بأشكال متعددة في اطار قصيدة النثر. "الحدود" التي رسمتها في مقدمة "لن" لم التزمها، لحسن الحظ! وهذا طبيعي. وقد نبهت اليه في المقدمة ذاتها. تسألني عن الجانب التقني؟ لا احب ان اتحدث في الامر. الشعر ليس عملية تقنية. لقد اخذ الكثيرون بتمردي على العمود الشعري، على الوزن والقافية، بل وعلى الاساليب الشعرية العربية عموماً، ولم يكد احد يسأل عن مضمون قصائدي. حين افكر ما رآه الناس في التمرد الشكلي من ثورة ومن جنون مرفوض، فاني اخاف ان اتخيل ما كانوا ليرونه لو توقفوا عند معنى هذا الشعر، والتجربة الانسانية التي ينطوي عليها.
هل تعتبر ان تجربتك الشعرية في قصيدة النثر انجبت سلالة قابلة للعيش والتناسل؟
- ليست تجربتي وحدها، بل تجارب العديدين قبلي ومعي وبعدي. انجبت وستنجب.
"قصيدة النثر" بين ادونيس والماغوط
ثمة من يقول ان البادئ في قصيدة النثر هو أنسي الحاج، وثمة من يقول بدور أدونيس ومن ثم محمد الماغوط. وأنت ماذا تقول؟
- أدونيس هو المنظر الأول لقصيدة النثر في اللغة العربية. ومجموعة الماغوط "حزن في ضوء القمر" صدرت قبل "لن" بعام كامل. لكن "لن" هي اول مجموعة ضمت قصائد نثر عرّفت عن نفسها علناً بهذا الاسم، وبشكل هجومي، ورافقتها مقدمة جاءت بمثابة بيان. وقصائد "لن" تفادت اي خلط بين الشعر الحر والنثر الشعري.
وبالنسبة الى محمد الماغوط، اريد أن الاحظ تفصيلاً معبراً. فهو لم يهتم يوماً بكيفية تصنيف شعره، وبالتسمية التي تطلق على هذا الشعر. وهذا ما يستحق الاعجاب. كان يكتب بلا هواجس "ثقافية". ويقيناً، هذا هو الموقف الشعري المثالي.
ولماذا حرصت انت على خوض معركة قصيدة النثر، وأخذها على عاتقك؟ لماذا لم تكتب شعرك من دون تحمل هموم ثقافية اخرى؟
- لأن قصيدة النثر لم يكن لها مكان، وأردت ان اقتطع لها مكاناً. وأردت لها مكاناً لا كالنسيب الفقير في العائلة الغنية، بل كعضو كامل الحقوق. اعتقد ان ذلك كان ضرورياً. فرسم الحدود، او بالاحرى تأكيد الخصوصيات مرحلة لا بد منها. ولو من باب الترتيب الذي قد يسبق عملية الغاء كل الحدود، وخلط كل الهويات بعضها ببعض. لم آخذ على عاتقي قصيدة النثر لأحارب القافية والوزن، بل لأعلن ولادة عهد جديد تحتل فيه القصيدة ابعاداً اخرى، عبر ايقاع مغاير وزخم شعري آخر، وذلك من خلال النثر.
هل تشكل مناخك ضمن مناخ شعراء ما سمي بپ"المرحلة التموزية"؟
- لا. لم افهم يوماً هذه التسمية، وأنا لا احبها. فيها شيء من الحزبية، من العقائدية. ما هي اسطورة تموز؟ انها حكاية التجدد والانبعاث. حكاية مبثوثة في كل المعتقدات، تحمل في كل زمن اسماً.
قد يكون في شعري تعلق بمعنى التجدد، لكنني اكره استعمال الاساطير. كل "موضوع" من خارج الشعر، يبقى خارجه.
يوسف الخال و"جدار اللغة"
الانبعاث والسيرورة الوجودية ورموز القيامة... من المفاهيم والرموز التي كانت مشتركة بين افراد جماعة مجلة "شعر". إلام تعزو انحسار مثل هذه المفاتيح لدى شعراء الاجيال اللاحقة للرواد؟
- الى فضيلة عدم التقليد.
هل اصطدمت مجلة "شعر" حقاً بجدار اللغة؟
- يوسف الخال هو الذي اصطدم بپ"جدار اللغة". والمقالة الافتتاحية التي يتناول فيها هذه المسألة في العدد الاخير من المجلة السلسلة الأولى، موقع باسمه. كتب يومها الخال: "وجدار اللغة هذا هو كونها تكتب ولا تحكى...". انه بالاحرى جدار اللسان. وهي مشكلة خطيرة دون شك. ويوسف الخال، بعد سعيد عقل، كان رائداً في وعيها وفي محاولة ايجاد حل لها. وهكذا كانت لغته العربية الحديثة التي كتب بها "الولادة الثانية".
لكنها، كما قلت، مشكلة لسان اكثر مما هي مشكلة لغة. لذلك كان المجال متسعاً، وما زال، للتعبير شعراً باللسان "القديم"، الذي تكتب به الآن هذه المقابلة، في انتظار ان نحسم امرنا بين اللسانين. على كل حال فان المشكلة لم تكن مطروحة على سائر اركان مجلة "شعر". اما أنا، فعندما احسست ذات يوم بالرغبة في الكتابة بپ"العامية" كما يسمونها، فلم اقاوم رغبتي كتبت، وكانت تجربة مهمة، تجربة الدخول في "روح" جديدة لا في شكل جديد.
لكن لنرجع الى حكاية توقف مجلة "شعر". لقد توقفت لأنها عاشت عمرها، ولأن كلاً من اعضاء هيئة تحريرها انصرف الى عالمه، وغرق في مشاغله واهتماماته...
"الوليمة" امتداد لتجربتي الشعرية
أنت وأدونيس كنتما معاً. الآن أين هي تلك الصلة الوثقى؟
- في البال، دائماً.
"الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" كان آخر اعمالك الشعرية في اواسط السبعينات، لماذا غبت عن الساحة الشعرية منذ ذلك الحين؟
- لأنني قلما كتبت، ولم انشر الا في ما ندر. وها انا اجمع ما كتبت من القصائد، منذ ذلك الحين الى اليوم، في ديوان سيصدر قريباً عن "دار رياض نجيب الريس" بعنوان "الوليمة".
وأي الاجواء يغلب عليه؟ هل يشبه في مناخاته ولغته اياً من مجموعاتك الخمس السابقة؟
- وهل من حقي انا ان اصنفه؟ بعض القصائد يذكر بالماضي ربما، وبعض الآخر قد يشكل قطيعة من يدري؟! ولكن انطباعي هو ان "الوليمة" امتداد لتجربتي الشعرية، ولمعاناتي البشرية... وهو في الوقت نفسه كتاب مختلف عن اعمالي السابقة.
مقالاتك المنشورة تحت راية العبارة الهاملتية الشهيرة "كلمات... كلمات... كلمات..." أرّخت لزمن خصب ولمرحلة كاملة من تاريخ الثقافة العربية. كما واكبت من الداخل تلك الحقبة الذهبية من تاريخ لبنان الادبي والفني والسياسي. لمَ تستعيد تلك الكتابة؟ ألا ترى في المرحلة الراهنة ما يستحق؟
- أكره التكرار والنمطية. لا يعاد الامر مرتين.
نراك في "خواتم"، مقالتك الشهرية في مجلة "الناقد"، تضيع الشعر في النثر... هل ستستمر على هذا النحو؟
- لعل اجمل ما في الشعر، ان نضيّعه هكذا، كما تقول، بدل أن نصنعه.
منذ مطلع السبعينات وأحفادك يتكاثرون، ما رأيك بهذه الكثرة؟ وهل فيها تجارب قادرة على فرز اتجاهات جمالية وأنساق فنية؟
- جماليات وأنساق فنية؟ هناك ما هو اهم، اقصد التجاوز القاطع لما ليس شعراً، لما لم يكن يوماً على علاقة بالشعر، لما لن يقترب يوماً من فضاء الشعر.
هؤلاء الذين تسميهم "احفادي" وأنا متأكد ان كثيرين منهم ليسوا مدينين لي بشيء، ولعلهم لا يعرفونني كثيراً - هؤلاء معظمهم اكثر ارتياحاً مني في التعاطي مع الشعر. لقد خلقوا للعرب "حداثة" قد تشكو عللاً كما يقال، ولكنها ادارت ظهرها نهائياً لما لم يعد يطاق في العقلية التقليدية والسلفية.
هذه الحداثة مهمة تاريخياً، ومهمة جداً. وهي لم تكن لتخطر في بال احد قبل ثلاثة عقود. لا تسل الآن كثيراً عن الجماليات والأنساق الفنية - مع انها واردة على اكثر من صعيد ولا تحتاج الا الى جهد نقدي لابرازها. سل عن ذلك الباب الذي أوصده شعراء الحداثة نهائياً بوجه المحافظة والتحجر. سل عن الافق الذي شرعوه على الحياة، على المستقبل و... على المجهول.
مقتطفات من مقدمة "لن": "اختراع متواصل للّغة..."
... في كل قصيدة نثر تلتقي معاً دفعة فوضوية هدّامة، وقوة تنظيم هندسي. لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضاً على الصرامة والقيد، أليست هي وحتى الآن تلك التي طالب بها رمبو حين أراد "العثور على لغة ... تختصر كل شيء. العطور، الأصوات والألوان"، وبودلير عندما قال انه من الضروري استعمال شكل "مَرِن ومتلاطم بحيث يتوافق وتحركات النفس الغنائية، وتموجات الحلم، وانتفاضات الوجدان"؟ انها الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع، والغلّ. انتفاضة فتيَّة ووجدانية معاً، أو، إذا صح، فيزيقية وميتافيزيقية معاً. لكن هذه الفوضوية كانت لتبقى بجناح واحد عند رمبو لو لم يعطها الجناح الآخر: النيكل. ومن الجمع بين الفوضوية لجهة والتنظيم الفني لجهة أخرى، من الوحدة بين النقيضين تنفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة ....
***
لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى ولا ننعى التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه. كل مرادنا اعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل. فكما أن هناك رواية، وحكاية، وقصيدة وزن تقليدي، وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر. لا نريد ولا يمكن أن نقيّد قصيدة النثر بتحديدات محنطة. إن أهميتها لا بالقياس الى الأنظمة المحافظة في الشعر وحسب بل بالقياس الى اخواتها من الانتفاضات الشعرية كالوزن الحر، انها أرحب ما توصل اليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى في آن واحد. لقد خذلت كل ما لا يعني الشاعر، واستغنت عن المظاهر والانهماكات الثانوية والسطحية والمضيّعة لقوة القصيدة. رفضت ما يحوّل الشاعر عن شعره لتضع الشاعر أمام تجربته مسؤولاً وحده وكل المسؤولية عن عطائه ....
شاعر قصيدة النثر شاعر حر، وبمقدار ما يكون إنساناً حراً، أيضاً، تعظم حاجته الى اختراع متواصل للغة تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشوش والنظام معاً. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي.
***
نحن في زمن السرطان : نثراً وشعراً وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره.
أنسي الحاج
خريف 1960
قصيدة غير منشورة
النجمتان
كل شيء توقف.
في هذه الساعة الجداول تصغي
والثلج سهران.
كل شيء توقف. والهزء المعتاد،
عُلِّق.
فثمة نجمتان حطمتا النظام
وتنطلقان للاتحاد
بعد لهيب المسافة وأوجاع الحرية.
***
ها هما
واحدة ترمي عنها الاسماء
وأخرى الأعشاب والصخور
فتلبسان اللهفة
وظلال الصلبان
وخوف العيون.
***
تشد النجمة الى النجمة
تتراكضان
تقطعان ملايين السنين في لحظة.
وترتمي الواحدة في الأخرى
انهياراً واحداً.
وفي الفسحة الصغيرة
بين اليد واليد
بين لحظة ولحظة
تعود تمر
ناعمةً كالأفعى
ملايينُ السنين...
أنسي الحاج
من مجموعة "الوليمة" التي تصدر قريباً عن "دار رياض نجيب الريس"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.