ها هو العنف الأعمى يضرب من جديد في الجزائر. وها هي المأساة تتكرر، حتى تكاد تتحول الى مهزلة فصولها مستعادة آلاف المرات، وأحداثها متشابهة الى حد الرتابة. شاعر يُذبح في غرفته عند الفجر، تعلو المناحات وتتكاثر مقالات الرثاء وخطب الاستنكار. ثم نعود كل الى مشاغله، أو نجلس في الصفوف الخلفية، بانتظار القتيل المقبل. يوسف سبتي الذي قضى تحت طعنات غادرة، غافلته صباح آخر ثلثاء من العام 1993، لم يكن يجلس في الصفوف الخلفية، ولم يكن يتفرّج. من الشعر السوريالي، الى السوسيولوجيا الريفية التي كان يدرّسها في "المعهد الزراعي الجزائري"، في عقر دار المتشدّدين وأحد معاقلهم، مروراً بالعمل الى جانب الطاهر وطار وعدد من المثقفين ضمن اطار جمعية "الجاحظية" التي راهنت على التعددية، وجعلت من العمل الميداني بين الناس أساساً لتوجهاتها... كان هذا الشاعر "السيناكي" نسبة الى أستاذه جان سيناك حاضراً في قلب المعمعة، متأهباً لكل الاحتمالات: فكل مثقف، أو مبدع، أو مناضل ديموقراطي اختار البقاء في الجزائر اليوم - وهم كثر! - يعرف أنه قتيل. الى تلك "المزرعة النموذجية"، نواحي الحراش، في الضاحية الشرقية للجزائر العاصمة، جاءه قتلة الفجر، كما جاؤوا سواه من قبل ترى ماذا يريدون؟. ولم يبقَ لنا الا "التلذذ" المازوشي بمشهد هذا الجسد النحيل يتخبط في دمه، ينزف أعوامه الاثنين والاربعين، فيتصفّى الرأس من الافكار الكثيرة التي ضج بها، والتي لن يمهله الوقت فرصة كتابتها أو وضعها موضع التطبيق... كأننا نتفرج بمتعة على موتنا المقبل، مكتوفي الايدي، شهود زور، لا حيلة لنا سوى أن نكتم غيظنا ماذا لو دعينا الى "الانتقام"؟ الى تشكيل فصائل عربية مضادة للارهاب، للدفاع عن المبدعين والمثقفين في الجزائر، وخارجها؟. لا حيلة لنا سوى أن نحصي عدد الضحايا: يوسف سبتي يحمل الرقم 18 في قائمة المثقفين الجزائريين الذين أسكتهم العنف الاعمى خلال العام الماضي! أكثر من موت الابرياء، من موت المواطنين العزل، الاطفال والنساء والشيوخ... يرتدي موت الشعراء طابعاً مفجعاً. فالمجتمع الذي لا يعود فيه مكان للشعراء، مجتمع عقيم لا معنى لوجوده، وليس للحياة فيه من معنى. والمجتمع الذي يقتل شعراءه، يحجب الافق ويعقّم المستقبل - فاليد الجبانة القادرة على كل هذا الحقد، كيف تراها تعد الامة بمستقبل أفضل؟ ترى لماذا يخيفهم الشعراء الى هذا الحد؟ أما زال كلام الطاهر وطار، الذي نشرناه فوق هذه الصفحات راجع "الوسط" عدد 95، ينطبق على اغتيال الشاعر يوسف سبتي؟ فالكاتب الجزائري رأى أن المثقفين الذين سقطوا في الاشهر الاخيرة، منذ الطاهر جعوط، إنما "ماتوا منتحرين". بمعنى أنهم لم يفهموا مجتمعهم، ولم يقدّروا حجم الخطر في مواجهة المتطرفين، ولم يعيروا أذناً مصغية لقهر هؤلاء... وأنهم غالباً ما لعبوا ورقة السلطة القمعية المسؤولة عن كل البؤس، وكل التطرف، ضد أكثرية الناس، وعلى حساب الديموقراطية. هل ترك سبتي كتابات عنيفة استفزازية، تدعو السلطة الى البطش بمعارضيها؟ هل انقطع عن الجماعة وتغرب عنها، وأصم أذنيه عن معاناة المجتمع المدني وأوجاعه؟ هو الذي كان ينشط في "الجاحظية" لايصال الكلمة الى ناس كل يوم، وكل حي، وكل ضاحية... هو الذي كان العمل الميداني من اختصاصه علم الاجتماع، المجتمع الزراعي، وكان الشعر ملاذه السري الحميم من "الجحيم والجنون" عنوان مجموعة شعرية له، صدرت عام 1981 عن "الشركة الوطنية الجزائرية للنشر والتوزيع". ألم يتخلّ الراحل عن "فرانكوفونيته" ليكتب في لغة الضاد، ويصبح أقرب الى تربته وناسه؟ ألم يبقَ على هامش السلطة، عندما وصل محمد بوضياف الى الحكم، مع أنه من مؤيديه، ومع أنه ناضل في صفوف حزبه المعارض - "حزب الثورة الاشتراكية" - ولعب دوراً فاعلاً فيه، أيام حكم الحزب الواحد في الجزائر، وتسلط "جبهة التحرير"؟ من قتل يوسف سبتي اذاً، وماذا قتله؟ كل واحد فينا، لم يفهم بعد أن شيئاً من مستقبله مات مع هذا الشاعر الجزائري، وأن أحلامنا هي التي ذُبحت في غرفته ذلك الصباح المشؤوم من كانون الاول ديسمبر، مسؤول بمعنى من المعاني عن تلك الجريمة البشعة. لم يعد من مجال لترف الحياد، واللامبالاة. وأيدي المثقفين العرب ملوّثة بتنازلاتهم، وتواطئهم مع أشكال التخلف والبربرية كافة. نحن قتلة يوسف سبتي الفعليون، لأننا لم نفهم، لاننا لا نتدخل. قَتَلتُهُ ونمشي في الجنازة. ندبّج المراثي وقصائد الوداع، كأننا نشهد طقساً طبيعياً، ونمارس عادات أليفة. أنا واحد من الذين باتوا يخجلون أن يعيشوا بعد موت يوسف سبتي! لكن الشعراء الذين يصرفون عمرهم في رصد التحولات الخفية للاشياء، في مواكبة آثار الزمن الاخرس، يعرفون الموت جيداً. فهم الأقرب اليه. هم خلانه وصحبه، خصوصاً في مجتمع مأزوم، ممزق، يعيش جرحه المفتوح منذ عقود. ألم يبدأ يوسف سبتي مغامرته الشعرية في حلقة الشاعر جان سيناك؟ وسيناك من فرنسيي الجزائر الذين وقفوا مع استقلال البلاد، واختاروا أن يعيشوا فيها بعد التحرير عام 1962. حوله نما عدد من الشعراء الشبان الذين ساعدهم في بلورة تجربتهم، وسهّل لهم سبل النشر. وكان السبتي أكبر هؤلاء سناً. معاً قاوموا حالة الاختناق الثقافي والسياسي التي كانت تعيشها البلاد في عهد بومدين. من "الاختناق" الى التحلل والانهيار: جان سيناك اغتيل في "ظروف غامضة" عام 1973، في الجزائر العاصمة. بعده بعقدين سيسقط تلميذه في ظروف مشابهة، ليختم برحيله عاماً دموياً من تاريخ الجزائر، قضى فيه شعراء ومثقفون كثر على مذبح الحرية الصعبة... هناك من دون شك، من يفكر في سرّه أنها لعنة التاريخ. أما أقران يوسف سبتي وصحبه ورفاقه، فيعضون على الجرح، ومن عيونهم الصامتة التي تقدح شرراً لا يهرب غير سؤال واحد. سؤال بسيط: من "الشهيد" التالي؟