استجابت احزاب المعارضة وقوى المجتمع المصري الحية في النقابات المهنية والعمالية ومراكز الدراسات وجماعات المثقفين والمبدعين، لدعوة حسني مبارك رئيس الجمهورية التي اطلقها في خطابه الذي استهل به الفترة الثالثة من ولايته في تشرين الاول اكتوبر 1993، لتنظيم حوار وطني شامل حول القضايا والمشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك بهدف الوصول الى وفاق وطني، يحكم حركة المجتمع والدولة، وما يثور - بالضرورة - من صراعات وخلافات، خلال عملية الانتقال المعقدة من القرن العشرين الى القرن الواحد والعشرين. ويبدو ان ظواهر ادارة حوار وطني شامل حول هموم وطموحات المواطن والوطن والدولة، اخذت تطرق العالم العربي - باشكال مختلفة كاسلوب حياة وممارسة للمسؤولية، في اكثر من بلد عربي، وذلك منذ ما يقرب من ست سنوات. نلحظ ذلك في تونسولبنانوالجزائر واليمن.. وأخيرا.. وليس آخرا - في تقديري - مصر. وفي الوقت الراهن تتصاعد المطالبة بالحوار الوطني في الساحة الفلسطينية التي لم تتبلور الدولة فيها بعد، اثر توقيع الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي حول مبادىء التسوية. وبغض النظر عن طبيعة الظروف الخاصة بكل بلد ونظام حكم، التي تنبثق منها الحاجة الى تنظيم مثل هذا الحوار الشامل، باعتبار انه يمكن ان يشكل طريق الرضى الوطني العام للخروج من اسر الازمات، او على الاقل استيعابها واختيار افضل الحلول المقبولة من اغلبية الشعب باقل تكلفة ممكنة، الا انه يلاحظ - في الوقت نفسه - تراكم ظروف عربية عامة مشتركة، متداخلة مع ابعاد دولية واقليمية جديدة، دفعت الى ترجيح الحوار الوطني على غيره من الاساليب، الدستورية والسياسية، ان وجدت من اجل تحديث البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب والمجتمع والدولة. ربما يكون من نافلة القول، الاشارة الى قوة تأثير المتغيرات الدولية الهائلة، منذ اواسط الثمانينات مع تفجر البريستوريكا في الاتحاد السوفياتي وتفكك البلدان الاشتراكية والاتجاه المتزايد نحو خليط، لم ينضج بعد - لنوع من الليبرالية الديموقراطية واقتصاد السوق العالمي وحقوق الانسان. لم يعد متاحا لاقليم ما او بلد ما في العالم اليوم، ايا كان موقعه الجغرافي وطبيعة نظامه السياسي والاجتماعي، ان يغلق ابوابه ويعزل شعبه ومجتمعه ودولته عن هذه المتغيرات ذلك ان ثورة العلم والتكنولوجيا في مجالات المواصلات والاتصالات المرئية والمسموعة بالخصوص، راحت تختصر المسافات، وتتخطى الحدود، وتخترق حواجز الامن واستار الرقابة، في لحظات، حاملة للمواطن العربي، على سريره في غرفة نومه، كل احداث وافكار هذه المتغيرات، وهناك تأثيرات فكرية واجتماعية، لم يعد في وسع اي نظام ان يتهرب من الاجابة على ما تطرحه من علامات استفهام. ومهما قيل من ان التراث العربي والظروف العربية مختلفة عن تراث وظروف بقية العالم بالنسبة لهذه المتغيرات، فان ذلك بات حديثا مستهلكا، او على الاقل يصطدم بمعارضات ذاتية وموضوعية متنامية، ليس فقط وسط جماعات المثقفين وانما - ايضا - في اوساط البيروقراطيين والتكنوقراط وجمهور الموظفين الذين يديرون ويشغلون مختلف اجهزة ومؤسسات الدولة نفسها. بتعبير اخر، لم تعد الديموقراطية موضع جدل في بلدان العالم العربي، وانما ما هي الصياغة الممكنة والملائمة للديموقراطية في اطار الحالة الراهنة من درجة التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي في هذا البلد او ذاك؟ كذلك الامر بالنسبة لحقوق الانسان، واقتصاد السوق. ولما كان الامر فيه الكثير من الجدة والحيوية ويفرض نفسه فجأة ودون تحضير واعداد مسبقين، فان قوة اجتماعية واحدة، في الحكم او في المعارضة، ليست قادرة بمفردها على ان تقدم الاجابات الواقعية والممكنة التي تستقطب غالبية المواطنين دون هزات عنيفة، ولذلك فان الحوار الوطني بين مختلف القوى، اصبح هو الخيار الوحيدة المجدي والاكثر امنا. في خصوص العالم العربي، يبرز خلال السنوات الست الماضية، اكثر من حدث عالمي - اقليمي عميق الاثر، يكتسي درجة غير مسبوقة في التاريخ الحديث من نوعية "الخارق للعادة" - على حد التعبير السياسي في المغرب العربي - صدم العديد من المسلمات الايدلوجية والفكرية والمؤسسية السياسية والاجتماعية، التي كانت قد استقرت. في مقدم هذه الاحداث، ازمة الخليج الثانية التي تولدت عن اجتياح العراق للكويت في اب اغسطس 1990، إن هذا الحادث، لم يوقع الانقسام العميق الجارح بين البلدان العربية بعضها وبعض، دولا وشعوبا، وحسب، بل اودى بالبقية الباقية من النظام العربي المتواضع في بنيته وميثاقه وحركته منذ قيامه في عام 1945 ونشأ - على الرغم من استمرار الجامعة العربية كتجمع شكلي بلا فاعلية تذكر - فراغ موحش في العلاقات العربية - العربية. ثارت معه بقوة اتجاهات الدولة - القطرية في معاداة لاتجاهات الوحدة والمصير العربي المشترك التي سادت من قبل نحو مجاهل خصوصيات الواقع وسماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، منذ منتصف الخمسينات، وبالتالي طرحت على نطاق واسع مسألة الجدوى والواقعية في العروبة والقومية العربية، وذلك على اساس ان مسار العروبة والقومية - في مفهوم هذه الاتجاهات - كشف اكثر من مرة، حالة التربص العدائي من هذه الدولة او تلك ضد اخريات، واصبح العدو كامنا ومختفيا تحت جلد العروبة يتحفز، عندما تتاح له فرصة، للانقضاض على "الشقيق العربي". يتصل بذلك النزوع في العالم العربي ازاء ترهل النظام العربي وسيادة روحية "الاخوة الاعداء" الى تكوين تجمعات اقليمية تضم دولا تعتبر نفسها في حالة تجانس بشري وسياسي واقتصادي واجتماعي يميزها عن بقية البلدان العربية، وذلك مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست، والاتحاد المغاربي لدول المغرب الخمس. ومجلس التعاون العربي الذي تكوّن في اواخر الثمانينات من مصر والعراقوالاردن واليمن، والذي ما لبث ان انهار تحت صدمة ازمة الخليج الثانية وردود افعالها، وقد ظل - ومايزال - هذا النزوع يطرح العديد من علامات الاستفهام الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية على كل بلد عربي على حدة، ومصيره على المدى المتوسط والبعيد، دون اجابات معقولة واضحة وقابلة للنقاش العلني المفتوح. وقد ضاعف من ازمة هذا الوضع، حالة التعثر التي انتهى اليها ما سمي بمشروع "اعلان دمشق" الذي نشأ بعد حرب الخليج الثانية، متآلفا من مصر وسورية ودول مجلس التعاون الخليجي الست، وكان المفترض فيه ان يكون المدخل - في عقد التسعينات - الى بناء نظام عربي جديد. من الاحداث الاخرى الخارقة للعادة التي اصطدمت بالمسلمات العربية، ما توصلت اليه منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل من اتفاق حول المبادىء التي تحكم الوصول الى تسوية على مرحلتين للصراع القومي - الوطني مع اسرائيل على امتداد ما يقرب من نصف قرن. يأتي هذا الاتفاق، الذي وقع فجأة، مواكبا لاتفاق اخر مع الاردن مع ما سبقه من معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، وما هو مرجح لاحقا من معاهدة سلام مع سورية ولبنان، ليضع العرب ككل، وكل بلد على حدة - في آن - امام معضلة تغير العلاقة العدائية مع اسرائيل، عدو النصف قرن الماضي، الى علاقة تعاون او على الاقل علاقة حسن جوار في مناخ سلمي. بمعنى انه اذا كان مضمون العروبة والقومية العربية، دار - اساساً - من الناحية العملية، من حول التحرير الكامل لفلسطين وانهاء الوجود الصهيوني المتمثل في اسرائيل، فماذا يكون العربي والعروبة والقومية، في اطار التصالح مع اسرائيل والاعتراف بوجودها؟ وذلك في الوقت الذي ماتزال الصراعات العربية - العربية مشتعلة تحت رماد ازمة الخليج وغيرها من الازمات. يندرج، في اطار الاحداث الخارقة للعادة - ايضاً - ما اصبح يسمى عند البعض بالصحوة الاسلامية وعند البعض الآخر بالسلفية الدينية التي تسعى للعودة بالمجتمع والدولة الى الصياغات التي كانت معروفة في صدر الاسلام، متجاوزة اربعة عشر قرنا من الزمن والتطور والمستجدات والمستحدثات الانسانية.. وذلك لانقاذ العباد، طبقا لمفاهيمها، من مهاوي الفشل والاحباط التي تسببت فيه - بقدر أو بآخر، تجارب الليبرالية والقومية والاشتراكية، التي زرعت العداوة والبغضاء والانقلابات في العالمين العربي والاسلامي، وما بات يصاحب ذلك من استخدام العنف الدموي في اساليب ارهابية، تقتل وتنسف وتدمر مؤسسات الدولة واستقرار المجتمع وامن المواطن. هذا في الوقت، الذي تبدو فيه المسافة شاسعة الى درجة مفجعة بين التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي للدول الصناعية في الغرب، وبين التخلف المزري على جميع الاصعدة للدول العربية، بدرجات متفاوتة. ويبدو فيه، ايضا، الغرب مهيمنا ومسيطرا ويتجه الى تكوين الاسواق الضخمة العابرة لحدود بلدانه، في حين تظل البلاد العربية حبيسة اسواق الحدود الوطنية الضيقة، والمرتعبة من مؤامرات بعضها ضد بعض. هذه الاحداث الدولية - الاقليمية الخارقة للعادة، استفزت، وكان لامفر من ان تستفز، عددا من الدول والمجتمعات العربية للحوار الوطني حول: اين نحن من كل ما يجري؟ وما هو مستقبلنا ومصيرنا؟ اليست نقطة البدء ان نتفاهم وطنيا حول ما يجب علينا، بغض النظر عن اختلافاتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية، عمله بجهد جماعي؟. واذا كان المناخ الدولي - الاقليمي، هو القاسم المشترك الاعظم في الحوارات الوطنية داخل الوعاء الاجتماعي - السياسي - الاقتصادي لكل بلد عربي، فان تباين الظروف ودرجات التطور وطاقات الموارد ومصادر القوة المادية والمعنوية ونوعية المشاكل ذات الاولوية في الاهتمام الشعبي والرسمي هي التي سوف تحدد السمة الخاصة للحوار الوطني، في البلد العربي المعني، وجدول اعماله ولغته ووسائله. في لبنان - على سبيل المثال - ينطلق الحوار الوطني كبديل حتمي للحرب الاهلية. والخروج بالوطن من مأزق الطائفية وميليشياتها، سالما موحدا لكل بنيه من دون استثناء. هذا يعني ان الحوار وجدول اعماله ولغته تنصب في وحدة الوطن وسيادته وبناء الدولة المركزية القوية الديموقراطية والبنى التحتية، باختصار، استعادة الوطن للبنانيين من لبنانيين. في تونس، كان الحوار ولا يزال، حول الانتقال من نظام الحكم الذي يستند الى حزب واحد مهيمن بزعامة ابوية تاريخية جسدها شخص بورقيبة، الى نظام تعدد احزاب حقيقي. في الوقت نفسه العودة للروح الاسلامية التي "تغربت" عنها البلاد فترة طويلة بعد الاستقلال. ولكن دون الوقوع في قبضة سلفية دينية تستخدم الوسائل الارهابية في فرض تصوراتها على المجتمع والدول وحياة المواطنين. في الجزائر، الحوار الوطني اكثر تعقيدا. ذلك انه يجري في مناخ تنشط باجوائه حركة العنف والعنف المضاد بين جماعات تنضوي في جبهة الانقاذ الاسلامي، وخارجها ايضا، وبين الدولة وقطاعات واسعة من المثقفين الذين يتعرضون لعمليات اغتيال متلاحقة من الجماعات الاسلامية. وتتردد احزاب المعارضة، بما فيها حزب جبهة التحرير الذي حكم الجزائر منذ الاستقلال، بين المشاركة في الحوار والاحجام عنه. بحيث اصبح هذا الموضوع، المشاركة او المقاطعة، اول نقطة في جدول اعمال الحوار الوطني. لكل طرف شروطه التي تتناقض مع شروط الاطراف الاخرى. ذلك ان الجبهة الاسلامية تعتبر نفسها السلطة الشرعية التي كاد الشعب يسلم لها مقاليد الحكم من خلال الانتخابات. وان عناصر من الدولة والقوات المسلحة قطعت عليها الطريق، وذلك بعدم الاعتداد بارادة الشعب التي عبر عنها خلال الانتخابات، واغتصبت السلطة. وان الحوار الوطني، لا محل ولا جدوى منه، الا بالعودة الى احترام ارادة الناخبين قبل عامين وقبل انهار الدماء التي سالت. الدولة الجزائرية، في صياغتها الراهنة، تصر على ان الحوار مقصود به ضمان النظام الديموقراطي المتعدد الاحزاب كصياغة لحكم البلاد. وان جبهة الانقاذ الاسلامي غير مؤهلة للاشتراك في الحوار، ما دامت لا تعترف بأسس النظام الديموقراطي وضمان استمراره في كل الظروف، وتمارس العمل الارهابي. واحزاب المعارضة - المتفاوتة الاحجام في اطار الاقلية - تخشى بدرجات متباينة من ان تستفرد بها الدولة. ولهذا تسعى الى تقوية مركزها بالمطالبة باشراك جبهة الانقاذ الاسلامية، والتفاوض معها على تخفيف الشروط. من هنا يبدو الحوار سجين دائرة مفرغة، والارجح ان لا لحلحة لهذا الموقف الا باسقاط جميع الاطراف، الدولة وجبهة الانقاذ الاسلامية واحزاب المعارضة، شروطها المسبقة لادارة الحوار. وربما تكون جميع التيارات قد بدأت تتحرك في هذا الاتجاه، مع بروز جماعات اسلامية جديدة متطرفة الى اقصى حد في استخدام العنف ضد كل الاطراف في المجتمع والدولة بما في ذلك جبهة الانقاذ الاسلامي ذاتها. في مصر، الحوار الوطني مفتوح امام جميع القوى والاحزاب، من الاخوان المسلمين الى الشيوعيين ومن الحزب الحاكم الى كل احزاب المعارضة دون استثناء، ما دامت تقبل قواعد اللعبة الديموقراطية، والتغيير السلمي. من هنا فان اطراف الحوار، على اختلاف اتجاهاتها، تتفق على اقصاء جماعات الارهاب من دائرة الحوار. كما انها تتفق على عدم مشروعية فرض شروط مسبقة من هذا الطرف او ذاك بما في ذلك الحكومة وحزبها. وهناك نقطة انطلاق مشتركة لكل الاطراف في الحوار، وهي انه لم يعد ممكنا لمصر ان تظل على ما هي عليه من اوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية. وبالتالي فان التغيير حتمي. والتغيير لا يعني القفز على الواقع قفزات مغامرة. والمشكلة اذاً ما هي نوعية التغيير المطلوبة وصياغاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ووسائله. وبماذا يبدأ التغيير؟ حول هذه التساؤلات شرعت حلقات نقاش تمهيدية ثنائية بين الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم وبين كل من احزاب المعارضة. وذلك بهدف الوصول الى مشروع ورقة عمل للحوار تتضمن جدول الاولويات وترتيبات ادارة الحوار. ايا ما كان الامر، فان ظاهرة الحوار الوطني في العالم العربي، تثير عددا من الملاحظات الأولية. الملاحظة الاولى، ان ارهاصات القلق وضرورة التغيير، تبدو اخطر واوسع من ان تترك لحلقات السياسيين والمفكرين او للهيئات الدستورية من برلمان ومؤسسة رئاسة وحكومة واحزاب. وبالتالي تدفع حركة الاحداث الدولية والاقليمية والمحلية، الى حوار كل الشعب. الملاحظة الثانية، ان الحوار يواجه طريقا مسدودا، اذا لم يشمل كل القوى الحية في المجتمع. او اثقلته شروط مسبقة، من هذا الطرف او ذاك من اطراف الحوار، ايا كانت الخلافات بينها. الملاحظة الثالثة، ان الحوار اذا كان في خطوته الاولى يعني تعرف كل طرف على تحليل ورأي الاطراف الاخرى، في مشاكل الواقع واساليب حلها واستشراف آفاق المستقبل والانتقال الى القرن الواحد والعشرين وتحدياته، فان عليه في خطواته التالية ان يسعى الى ايجاد تفاعل عضوي خلاق بين كل هذه التحليلات والاراء والمواقف، للوصول الى وفاق وطني لمرحلة معينة حول مفاتيح التغيير في عدد من القضايا الرئيسية دون ان يغلق الباب على نقاط الاختلاف والصراع حول القضايا الاخرى، والا افتقد الحوار مناخه الصحي وقدرته على الاستمرار واحكام اليد على عصفور حقيقي، بدل العشرة عصافير التي تتصايح على الشجرة البعيدة. * كاتب وسياسي مصري