في الحلقة الأولى روى تيري وايت كيف أخذه حراسه الدروز من الفندق الى حيث قابل الدكتور عدنان مروة في عيادته. ومن هناك اقتاده شخص الى حيث كان يُفترض، على أساس وعد تلقاه، ان يُسمح له برؤية الرهينتين تيري اندرسون وتوم ساذرلاند اللذين كانا "منهارين ومريضين" على حدّ قول محتجزيهما. وخلال ذلك نُقل وايت من سيارة الى أخرى وعصبت عيناه... وبدأ يعد نفسه للاحتجاز. وكان يعلم في الواقع انه عندما وافق على زيارة الرهائن انما كان يقدم على مجازفة كبيرة. وقد وُضع في مرحلة أولى في زنزانة تحت مرأب أرضي. ورجَّح أنه كان ثمة سجناء آخرون في الزنزانات الموجودة في المكان. وحاول اقامة اتصال معهم بالطرق على جدران زنزانته ولكن من دون جدوى. وكان أحد أسوأ الأمور بالنسبة اليه عدم قدرته على تحديد الوقت. لكنه قرر مقاومة الغرق في اليأس. وظل يأمل أن يطلقه محتجزوه بعد وقت قصير لمعرفتهم من يكون والأشخاص الذين له صلات معهم، لكنه كان مخطئاً في ذلك... وهنا الحلقة الثانية. عادت بي ذاكرتي الى عام 1984. بعد ظهر ذات يوم من أيلول سبتمبر كنت جالساً وراء مكتبي في قصر لامبث، المقر الرسمي لرئيس أساقفة كانتربري في لندن... كان نور الشمس من القوة حتى انني أغلقت نصفياً نافذة مصنوعة من الخشب السميك لأوفر لنفسي بعض الظل. كانت أمامي ملفات كبيرة عدة: تفاصيل عن رحلات قام بها أو سيقوم بها رئيس الأساقفة الى الصين واستراليا ونيوزيلاندا وسنغافورة. وهي كانت تشكل خلفية عمل قام به موظفو قصر لامبث. اخترت ملفاً آخر عنوانه "ليبيا". كان هناك أربعة مواطنين بريطانيين محتجزين في هذا البلد. وعلى مدى أشهر قمت بجهود كبيرة من أجل اطلاقهم. كنت متعباً من كثرة السفر ومن التعقيدات السياسية المحيِّرة لليبيا ومن محاولة الجمع بين عملي لرئيس الأساقفة والعمل من أجل اطلاق الرهائن في آن. قُرع بابي ودخلت مساعدتي ستيلا تيلور حاملة مجموعة من الملفات. اخترت أحد الملفات وبدأت أتصفحه. رن جرس الهاتف وقالت ستيلا: "مخابرة لك من الولاياتالمتحدة. الأب فريد ولسون يريد التحدث شخصياً الى الأب تيري وايت". ابتسمت، اذ غالباً ما كنت أُعتبر رجل دين من جانب الذين يفترضون ان وحدهم الذين سميوا كهنة يمكنهم العمل لرئيس الأساقفة. سألت مساعدتي: "هل أعرفه؟" أي ولسون. أجابت: "كلا، انه يقول انه لم يقابلك أبداً، لكنه يرغب في التحدث اليك شخصياً". جاءني صوت أميركي خفيض عبر الهاتف: "أنا فريد ولسون من الكنيسة البرسبيتارية في أميركا. نود أن نأتي الى لندن لمقابلتك للبحث في قضية بن وير". كان وير قساً برسبيتارياً في لبنان واختفى في أيار مايو 1984. قال ولسون: "نعرف انك تعمل في موضوع الرهائن. ونتساءل هل تستطيع مساعدتنا في قضية بن؟" غاص قلبي. كنت أريد أن أقول لا، اذ كان لدي عمل كثير، كثير جداً. قلت: "في الحقيقة هذا صعب جداً، سيد ولسون. انني حالياً غارق كلياً في قضية الرهائن في ليبيا. على الكنيسة أن تكون متورطة في هذه القضايا من منطلق انساني، لكن وسائلنا ضئيلة جداً". تابعنا حديثنا. وأخيراً وافقت على أنه إذا حضر شخص من كنيسته الى لندن فانني سأبحث في القضية. وضعت سماعة الهاتف وعُدت الى أوراقي غير مدرك للطريق الذي فتحته لنفسي. معتقلو الكويت هل جاء فريد ولسون الى لندن بعدما اتصل هاتفياً أو أنه أوفد ممثلاً من مكتبه؟ أعتقد ان شخصاً يدعى بوب لودفيك هو الذي جاء. بحثنا في وضع بن وير. لا أعتقد أنه كان لدي أمل كبير. في الواقع، لم يكن لدي أي أمل. هل كان الوضع بمثابة صيغة لانقاذ ماء الوجه؟ أشك في ذلك. لقد بدا لي مليئاً باشد التعقيدات السياسية غموضاً. بحثنا في قضية المسلمين الشيعة ال 17 الذين كانوا معتقلين في الكويت باتهامات متنوعة. كان أقل ما يمكن قوله بالنسبة الى معلوماتي عن الشرق الأوسط أنها كانت محدودة. ولكن كان واضحاً ان الكنيسة البرسبيتارية كانت على اطلاع جيد على الوضع. علمت ان المعتقلين ينتمون الى جماعة شيعية متطرفة تعرف باسم "الدعوة الاسلامية". وكانوا زرعوا ست قنابل في الكويت يعتقد أنها جاءت بمثابة رد انتقامي على الدعم الذي قدمه هذا البلد الى العراق أثناء الحرب الايرانية - العراقية. وكانت اثنتان من هذه القنابل في شكل سيارتين مفخختين وضعتا خارج السفارتين الأميركية والفرنسية. وقتل عدد من الأشخاص وجرح كثيرون. ومطلع عام 1984 جرت محاكمة 21 مشتبهاً من جماعة الدعوة، أربعة منهم غيابياً. وكان بين هؤلاء ثلاثة لبنانيين شيعة من "منظمة الجهاد الاسلامي". ولم تحاكم الكويت المشتبه فيهم بتهمة القيام بأعمال ارهابية، ربما لأنها كانت تخشى عمليات انتقامية من ايران، بل حاكمتهم باتهامات أخف تتعلق بالنشاط الاجتماعي والاجرامي. وبرّىء أربعة منهم. اما ال 17 الباقون فقد تلقى 11 منهم عقوبات بالسجن راوحت بين 15 سنة والمؤبد، فيما حكم على الستة الآخرين بالاعدام وبينهم ثلاثة من الأربعة الذين حوكموا غيابياً. وكان بين الذين حكم عليهم بالاعدام شيعيان لبنانيان هما مصطفى بدر الدين ويوسف الموسوي. وذُكر أن بدر الدين من أقرباء عماد مغنية، أحد قادة "منظمة الجهاد الاسلامي". في حين كان الموسوي ابن عم قائد قوات حركة "أمل" في البقاع. وهي قوات انضمت لاحقاً الى "حزب الله" التنظيم الشيعي الأصولي المؤيد لإيران. وإزاء هذه القضية الدامية والمعقدة، رأيت ان من المستبعد جداً اطلاق المعتقلين في الكويت في مقابل الأفراج عن الرهائن الغربيين. وأكثر ما كنا نستطيع أن نأمله هو إقناع الكويت بعدم اعدام الذين صدرت عليهم أحكام بذلك. ولم يكن صعباً علي أن أوجه نداء في هذا المعنى من منطلقات انسانية. حذرت بوب لودفيك من المبالغة في الادلاء بالتصريحات العلنية. كنت أشعر بأن هذا لا يؤدي سوى الى مزيد من المشاكل لبن وير. وعدته بأن أقوم بكل ما في وسعي وراء الكواليس، لكنني أوضحت انني منشغل كلياً بقضية المحتجزين في ليبيا ومثقل بعبء عملي اليومي. وفي داخلي لم تكن لدي رغبة في دخول قضية أخرى تتعلق بالرهائن. جيران لا يصرخون أبداً عندما غادر بوب مكتبي، جلست وحيداً لبعض الوقت. لم أعط "لا" قاطعة لطلبه المساعدة، لكنني أيضاً لم أظهر حماسة مفرطة. كان لدي شعور قوي بأن الكنيسة يجب أن تكون قادرة على مساعدة الناس الذين يواجهون مشاكل، خصوصاً الواقعين في محنة شديدة. لقد كان النداء من الكنيسة البرسبيتارية نداء مباشراً من كنيسة شقيقة. ومن هذا المنطلق وحده كان يصعب تجاهله. وكان تفكيري يتركز على سؤال هل يستطيع قصر لامبث مقر رئيس اساقفة كانتربري في لندن ان يقوم بمساهمة يعجز عنها الآخرون. وهذه المساهمة يمكن أن تكون مجرد إبقاء الرهائن على قيد الحياة ومعرفة هل يمكن الوضع ان يتحسن لاحقاً. ماذا حدث عقب مغادرة لودفيك؟ تابعت الاهتمام بموضوع ليبيا. واستمر ولسون على اتصال بي عبر الهاتف. شجعته على محاولة ايجاد وسطاء آخرين. كان جسي جاكسون القس الأميركي الأسود وأحد دعاة الدفاع عن حقوق الانسان اهتم بالقضية لبعض الوقت، ولكن من دون أي نتيجة. اتصلت بأصدقاء في الشرق الأوسط لمعرفة هل كانوا يستطيعون تقديم نصائح في قضية بن وير. وفي الوقت نفسه كنت أتابع عملي لرئيس الأساقفة وايضاً لقضية الرهائن في ليبيا عندما يكون لدي متسع. من السهل ان أتحدث عن نشاطاتي بهذه الطريقة. ولكن عندما أتذكر الضغوط ارتجف. كنت منشغلاً في كل ساعة يقظة. كيف استطاعت زوجتي فرانسيس ان تتحمل الأمر خلال تلك الأيام؟ ببساطة لا أعلم. يصعب عليّ التفكير بوضوح لأي فترة من الوقت. أتابع فكرة، ثم يعود تفكيري الى فرانسيس والأولاد. شعرت بقشعريرة مفاجئة عندما تذكرت أين أنا: البلاط الأبيض، النور الشاحب المضاء دائماً، التنقلات الغامضة عبر الفتحة الموجودة في السقف، صمت جيراني الذين لا يصرخون أبداً ولا يبدون حراكاً. ربما كانوا مرضى يرقدون من دون حراك ليلاً نهاراً. ربما مضت عليهم سنوات في هذا المكان. الحر شديد الآن. أشعر أنني لا استطيع التنفس إلا بصعوبة. ثمة شخص خارج الباب. وضع المفتاح في القفل. وضعت العصابة على عيني... كم من الأيام انقضت، خمسة؟ ستة؟ من السهل جداً أن يفقد المرء تعاقب الأيام. ماذا ستفكر زوجتي فرانسيس؟ واولادي روث وكلير في فرنسا ومارك وجيليان في لندن؟ انهم يتوقعون ان اختفي ليوم واحد أو أكثر بقليل ولكن ستة أيام! اتساءل هل كشف الصحافي خوان كارلوس غوميسبو شريط الفيديو الذي أعطيته اياه؟ كنا صعدنا الى الطبقة الأخيرة من فندق "ريفييرا" للاستفادة من النور. قلت له ان الشريط يجب ان لا ينشر إلا إذا لم أعد بعد أيام عدة. أذكر انني قلت في الشريط انني اذا احتجزت فلا أريد أن تُدفع فدية أو أن تتم عملية تبادل. هل ذكرت لماذا قررت قبول دعوة الخاطفين الى زيارة الرهائن؟ لا. لم أعط سبباً في الشريط. هل تخونني ذاكرتي؟ لقد فكرت مرات كثيرة ان من الصعب أن أميِّز بين ما قلت للآخرين والأفكار التي احتفظت بها لنفسي. وإذا نشر خوان كارلوس الشريط، هل يثير ذلك غضب محتجزي؟ ارجِّح ذلك. عدت بذاكرتي الى عام 1985. كنت أوضحت أنني مهتم ببذل كل ما في وسعي من أجل رهائن بيروت. وانتظرت جواباً. وأثناء أوقات فراغي القليلة، بدأت أدرس تعقيدات الوضع اللبناني. قابلت أشخاصاً من الشرق الأوسط عرفت بعضهم لسنوات، وبحثت معهم في مشكلة الرهائن. وأقل ما يمكن قوله في الموضوع انه كان محيراً في شكل لا يصدَّق. وفيما كنت جالساً استعيد تلك الأيام في ذاكرتي، أخذتني قشعريرة مفاجئة. اذا أُخضِعت للاستجواب، وهو أمر شبه أكيد لي، ستوجه الي اسئلة عن الأشخاص الذين اتصلت بهم وساعدوني. يجب أن أكون قوياً والا أورط أحداً. وبسبب عيشي في خوف طوال اسبوع أصبحت ذاكرتي - كما توقعت - مليئة بالثغرات. فتذكُّر الأسماء يتطلب مني جهداً كبيراً ومتعمداً. مهما حدث فإن الذين حاولوا مساعدتي سيكونون في أمان. بين الكويت وليبيا وإيران عدت بذاكرتي الى مكتبي في قصر لامبث. كان رجل صغير القامة أنيق يجلس قبالتي. كان نشطاً، ذكياً ومولوداً في الشرق الأوسط. وكان، على حد قوله، محامياً في القانون الدولي. قال: "من الواضح ان الخاطفين اللبنانيين يريدون ان يُطلق المعتقلون في الكويت في مقابل الافراج عن الرهائن. هذا يبدو مطلبهم الرئيسي". أجبت: "هذا مستحيل. ان أفضل ما يمكن أن نأمله هو ان الأمير أمير الكويت لن يعدمهم. وبالتأكيد يمكننا أن نوجه اليه نداء من منطلقات انسانية". ابتسم المحامي بسخرية وقال: "يمكنك ان تفعل ذلك، ربما ساعد. انه، بالتأكيد، لن يكون كافياً لاطلاق جميع الرهائن، لكنه ربما أدى الى اطلاق واحد أو اثنين". سألت: "هل هناك أي سبيل لاطلاق سجناء جماعة "الدعوة الاسلامية" في الكويت بطريقة قانونية". كنت أحاول ان استكشف كل خيار ممكن، لكن أموراً كثيرة كانت غامضة. هل كنت أواجه مجموعة واحدة أم مجموعات خطف في بيروت؟ ما هو دور إيران؟ ما هي العلاقة بين الخاطفين اللبنانيين وشركائهم الايرانيين؟ هل كان الليبيون والفلسطينيون متورطين؟ أمضيت أسابيع في عقد لقاءات مع مخبرين في محاولة لتكوين صورة أوضح. ولم يكن معظم الذين اتصلت بهم يملكون شيئاً كثيراً يقولونه. ولكن أحياناً كان بعضهم يتقدم بمعلومات مساعدة. وقال أحدهم انه "وفق الشريعة الاسلامية يمكن ان يكون دفع فدية الدم الى أقارب الذين قتلوا كافياً لضمان اطلاق المعتقلين". وفرت هذه الفكرة أملاً ضعيفاً. فاذا أمكن اجراء مثل هذا الترتيب، فمن المؤكد ان بعض الرهائن في لبنان سيطلق. كانت قضية الرهائن في ليبيا انتهت في شباط فبراير 1985... اذ انه في كانون الثاني يناير من العام نفسه حدثت موجة نشاط أخرى في قصر لامبث عندما خطف الأب لورنس جنكو، وهو كاهن كاثوليكي في بيروت، وتبعه مراسل وكالة "اسوشيتدبرس" تيري اندرسون ثم الصحافي البريطاني اليك كوليت. وتفاقم قلق عائلات الرهائن. أذكر اذ ذاك ان فريد نلسون حضر الى لامبث برفقة جون نجل بن وير. كانا في طريقهما الى دمشق لرؤية هل يستطيعان الحصول على مساعدة من هناك. ومرة أخرى حضّاني على القيام بكل ما في وسعي من أجل الرهائن. ومن دون ان أكشف مصادري أطلعتهما على الاتصالات التي كنت أجريتها. كنت بدأت أحصل على دلائل تفيد ان الخاطفين علموا أنني متورط في القضية. وكنت آمل أن يكونوا مستعدين للتحدث إلي مباشرة. سافر فريد وجون بعدما وعدا بزيارة لامبث في طريق عودتهما. كان رئيس أساقفة كانتربري، روبرت رونسي، يعيش في قسم صغير فقط من قصر لامبث. أما القسم الباقي فكان يستخدم كقاعات اجتماعات أو مكاتب لأفراد جهاز الموظفين التابع لرونسي. ولم تكن تفصل بين غرفتي ومكتبه سوى أبواب قليلة. في القرن التاسع عشر كانت غرفتي مخصصة لخادم، لكنها كانت توفر لي مكاناً ملائماً. نادراً ما كان رونسي يعقد اجتماعات رسمية مع موظفيه. كان يعتمد طريقة لطيفة ومريحة من العمل ويثق بكل شخص للقيام بعمله. وكان يفضل ان يجتمع مع كل منهم على حدة عندما تدعو الحاجة. وإذا طرأت قضية ما كان يمكن دائماً الاجتماع معه فوراً. بعد وقت قصير من مغادرة فريد وجون، بحثت ورئيس الأساقفة مجدداً في قضية الرهائن في بيروت. أبلغته ان مطالب الخاطفين تبدو مرتبطة بالمعتقلين من جماعة الدعوة الاسلامية في الكويت. وأشرت الى الاجتماع مع فريد ولسون وقلت ان الكنيسة البرسبيتارية في أميركا تعتقد ان علينا أن نتدخل. وأبدى رئيس الأساقفة اعتراضات ملموسة كان كلانا يعرفها جيداً: أولاً، حجم العمل المطلوب للتحضير لمؤتمر لامبث الذي كان مقرراً بعد ثلاث سنوات فقط. وثانياً، كون قضية الرهائن يمكن أن تستمر لفترة طويلة، على ما يبدو. الا أنه، في أي حال، أبدى اهتمامه بالرهائن وعائلاتهم. ووافق على أنه إذا كنا نستطيع أن نساهم في حل المشكلة فيجب أن نفعل. وأشار الى انه إذا كان لقصر لامبث ان يعمل من أجل اطلاق الرهائن الأميركيين فيجب الحصول على موافقة جون ألن الأسقف المقيم للكنيسة البروتستانتية في أميركا. وقال انه سيتصل به في أقرب وقت. عاد فريد وجون من سورية خاليي الوفاض. وقد أجريا اتصالات مفيدة، لكنهما لم يحصلا على معلومات جديدة. وعاد وايت الى واقعه في الزنزانة: احتاج الى بعض الراحة. هناك ثغرة أخرى في ذاكرتي. بدأت أعد البلاطات البيض التي تكسو زنزانتي. وعندما انتهى هذا العمل السهل، حاولت القيام بعمليات حساب ذهني. كان والدي بارعاً جداً مع الأرقام. عندما كنت في الثالثة أو الرابعة، كان يشجعني على جمع الأرقام المكتوبة على لوحات السيارات... شعرت بدوار في رأسي. يجب أن يكون هذا بسبب عدم تناول الطعام. اذا استلقيت لبعض الوقت ربما نمت. انني أتوق الى النوم، فمن خلاله استطيع الهرب. ذل وأوامر يبدو ان أموراً كثيرة تجري خارج زنزانتي. هناك شخص يدخل عبر الفتحة في السقف. هل استطيع سماع ضجيج حركة السير؟ ربما سألني أحدهم ذات يوم عن هذا المكان: مساحة الزنزانة، الأصوات، أي شيء. كم من الأمور سأكشف؟ ما دام الخاطفون يلتزمون كلمتهم معي، فانني لن اخون ثقتهم. واذا نكثوا فسأكون اذ ذاك حراً من اي التزامات... هل ينكثون؟ من يعلم؟ قلت لنفسي: هوِّن عليك ولا تفترض الاسوأ. قرع شخص باب زنزانتي بلطف. وضعت العصابة على عيني. اكره ذلك. انه امر مذل ويثير الخوف لانه يجعلني في موقع ضعف. دخل شخص وشد العصابة على عيني نزولاً واحكم ربطها حول رأسي قائلاً: "يجب ان تغطي عينيك، مفهوم؟" "انهما مغطاتان". "يجب ان تغطيهما جيداً. مفهوم؟" استأت الى درجة لم استطع معها الرد. كان هناك شيء من التهديد في صوته... وضع شيئاً ما بين يدي، ربما كان ثياباً، قائلاً: "عشر دقائق، مفهوم؟" اعتقد انني فهمت. فهو سيعود بعد عشر دقائق. اغلق الباب ورفعت العصابة عن عيني. لقد اعادوا الي ثيابي: سروالي وقميصي وسترتي الجلدية، كما وضعوا حذائي وجواربي قرب الباب. شعرت باثارة مفاجئة. انني سأنقل. ترى هل سيأخذونني لرؤية الرهائن؟ هل سيطلقون سراحي؟ ارتديت ثيابي بسرعة. ومع انه انقضى اسبوع على آخر وجبة طعام تناولتها، شعرت اليوم بصفاء ذهن وقوة. انتعلت حذائي. شعرت بألم في قدمي بسبب القروح. ولكن لا يهم. زنزانة جديدة وسلاسل هناك مزيد من الحركة خارج زنزانتي. رفع غطاء فتحة السقف مجدداً. قرع بابي فوضعت العصابة على عيني. احاط بي بضعة اشخاص وقال احدهم: "عليك ان تفعل بدقة ما يُطلب منك. مفهوم؟" "نعم". تلوت صلاة قصيرة من اجل رفاقي المجهولين الصامتين الذين اتركهم ورائي. بدأت اشعر بقلق. بدا حراسي متوترين وعصبيين. غادرنا الزنزانة... الى حيث كانت الخزانة. "اصعد". صعدت فوق الخزانة وتلمست طريقي الى السُلم. ساعدني احدهم للخروج من الفتحة. كانت هناك رائحة بنزين قوية في المرأب. وجاءني امر: "اصعد الى السيارة". صعدت متعثراً الى الجزء الخلفي. وجاءني امر آخر: "انبطح ارضاً. لا كلام". انبطحت. القيت فوقي بطانيات عدة. وصعد شخصان على الاقل وجلسا على المقعد الخلفي. سمعت باب المرأب يُفتح. ادير محرك السيارة وتحركت ببطء الى خارج المكان. انني خائف، خائف الى درجة ان جسمي كله كان يرتجف. ربما كانوا يأخذونني الى حيث يقتلونني، الى اي مكان... تمايلنا فوق طريق مليء بالحفر. كنت استطيع سماع رذاذ الماء تحت السيارة... توقفت واطفئ محركها. بالتأكيد ليست هذه وجهتنا لاننا لم نقطع سوى مئات الامتار فقط. تهامس الرجال الجالسون في السيارة. ترك احدهم المقعد الامامي. ادير المحرك وانطلقنا. عشرون دقيقة، نصف ساعة؟ توقفنا مجدداً. اصبت بتشنج عضلي وكنت في وضع غير مريح. رفع احدهم البطانية التي تغطي رأسي وقال: "لا كلام". فيما سحبني آخر من ذراعي فزحفت خارج السيارة ووقفت. القيت بطانية فوق كتفي. وامسك شخص بيدي وقادني نحو مدخل مبنى. فُتح باب مصعد ودخلنا. طبقة اثنتان ثلاث ربما اربع. خرجنا من المصعد وسرنا خطوات قليلة ودخلنا ما رجحت انه شقة. سرنا خطوات عدة اخرى وانعطفنا يساراً. دُفِعت نحو زاوية مع أمر "اجلس". جلست على الارض. نزع احدهم حذائي وجواربي. ما هذا الصوت؟ تقلصت معدتي مجدداً. هناك شخص مع سلاسل. شعرت بالمعدن البارد بينما كان يربط كاحلي ثم الكاحل الآخر والآن حول يدي الاثنتين. وشد السلاسل بحيث اصبحت مكوّماً على نفسي كوضع الجنين. واستلقيت على جانبي مكبلاً... شد احدهم عصابة عيني قائلاً: "لا كلام. لا حركة. نم". سمير حبيبي افتقد زملائي في لامبث واتساءل اين هو سمير الآن. كان الاسقف المقيم في اميركا عيَّن القس سمير حبيبي ليتولى الاتصال معي في شأن قضية الرهائن. كنت اعرفه منذ سنوات: محب، مندفع، كريم، مولود في الشرق الاوسط وحاصل على الجنسية الاميركية. ومنذ أن اتصلت بي الكنيسة البرسبيتارية، ساعدني سمير. كان يتقن العربية وله عدد كبير من المعارف. كانت طريقته المتفلتة من القيود والعدوانية تزعجني احياناً. لكن انزعاجي كان مرتبطاً، على الارجح، بالضغوط التي كنت اتعرض لها اكثر من ارتباطه بسمير. وكنت اعلم ان له علاقة بالحكومة الاميركية، شأنه في ذلك شأن اي مواطن اميركي تورط في قضايا تمس السياسة الخارجية الاميركية. وقد التقيت شخصياً كثيرين من اعضاء الادارة الاميركية، في انكلترا والخارج، في اطار سعيي الى خيوط استهدي بها. كنت ارغب في مقابلة اكبر عدد ممكن من الاشخاص بهدف الحصول على اكبر كمية ممكنة من المعلومات. وعندما زرت الولاياتالمتحدة في ايار مايو 1985، اقترح سمير انه يحسُن بي ان أجري اتصالاً مع الادارة. ورتب لي اجتماعاً مع دونالد غريغ احد مستشاري الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان ولاحقاً في اليوم نفسه ظهر الكولونيل دوغلاس مينارشيك. واثرت فكرة "فدية الدم". لكنني تساءلت عن مدى الجدية التي ينظر فيها مسؤولو البيت الابيض الى قضية الرهائن. ورجحت انهم لم يوافقوا على لقائي الا من باب اللياقة. كان سمير يعتقد بقوة ان فكرة "فدية الدم" تستحق المتابعة، كونها لا تشمل سوى دفع اموال لاقارب ضحايا جماعة "الدعوة الاسلامية" الذين عرفنا هوياتهم جميعاً. لم تكن لدينا فكرة عن المبالغ التي سيتطلبها ذلك ومن اين نأتي بها او هل كان مثل هذه الخطة مقبولاً لدى مختلف الاطراف المعنيين. ماكفرلين ونورث كنت التقيت اسقف الكنيسة البروتستانتية المقيم في اميركا جاك ألن قبل اعوام عدة، وتعرفت اليه جيداً عندما زرت الولاياتالمتحدة مطلع الثمانينات للتحضير للزيارة الرسمية الاولى لرئيس الاساقفة. اعجبت به ألن ووثقت به. اخذت المصعد الى شقته القائمة فوق المقر الرئيسي للكنيسة البروتستانتية... رحبت بي زوجته آن الن ورافقتني الى غرفة الضيوف. وكان مقرراً ان التقي فريد ولسون وكارول وير وابنها جون في اليوم التالي. وعندما جاؤوا صباح اليوم التالي حضر سمير من مكتبه الكائن اسفل المبنى. بدأ فريد يطلعني على نشاطاته. لقد امضى بعض الوقت في محاولة ترتيب اتصال يُركن اليه مع الحكومة الاميركية ليستطيع معرفة سياسة الادارة في ما يتعلق بالرهائن. وكما كانت الحال بالنسبة الي، وجد ان من الصعب تكوين فكرة واضحة. وفي النهاية، رتب الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر لفريد وكارول وجون لقاء مع روبرت ماكفرلين مستشار الرئيس لشؤون الامن القومي. ولكن قبل ذلك قُدم الثلاثة الى عسكري هو الكولونيل اوليفر نورث، وذلك من اجل محادثات تمهيدية. قال فريد ان نورث كان الاشد اهتماماً بقضية الرهائن بين جميع المسؤولين الاميركيين الذين التقوهم. واظهر معرفة بالوضع لم تكن لدى الآخرين، على ما يبدو. قلت لفريد انه قد يكون من المفيد ان التقي نورث. ووافقني في ذلك واتصل بواشنطن. وبعد ظهر ذلك اليوم كان نورث في طريقه الى نيويورك للقائنا. استقبله سمير في المطار. كان يرتدي ملابس غير رسمية ويحمل حقيبة يد سوداء صغيرة. رحب به الاسقف ألن كونه المضيف، ثم اعتذر لان لديه عملاً يقوم به. كان الامر الاول الذي لاحظته ان الكولونيل نورث يمشي ببعض الصعوبة. وعلمت لاحقاً انه اصيب بجرح في ظهره اثناء خدمته في فيتنام. جلسنا الى طاولة طعام مستديرة كبيرة وبدأنا نتحدث. كانت كارول وير مستاءة من ادارة ريغان وقالت لنورث انها شعرت بأن القليل او لا شيء يُعمل من اجل الرهائن. اصغى بتأدب. ثم اوضح ان سياسة الحكومة كانت تقضي بعدم التفاوض مباشرة مع الارهابيين. وفي مرحلة ما من بعد الظهر نوقش اقتراح "فدية الدم". ومجدداً، اصغى الكولونيل نورث. تحدثنا عن حكم الاعدام الذي صدر على ثلاثة سجناء في الكويت. وقلت ان الكنيسة ستواصل الدعوة الى تخفيف هذه الاحكام. وفي ختام حديثنا، وافقت فريد ولسون الرأي ان الكولونيل نورث يبدو اشد اهتماماً من اي شخص آخر في الادارة الاميركية، بعمل شيء ما من اجل الرهائن. وفي اي حال، لم اعتبر في حينه انه كانت للاجتماع اي اهمية خاصة. عاد وايت مجدداً الى واقعه: انها قرابة التاسعة مساء. طوال اليومين الماضيين أُبقيت مكبلاً بالسلاسل ومعصوب العينين كل الوقت باستثناء عشر دقائق يومياً. جاء الحارس وفك القيود من يدي وقدمي. ومن تحت عصابتي كنت استطيع رؤية حارسين آخرين يقفان على مسافة مني. ارجح انهما مسلحان. ساعدني الحارس على الوقوف وقادني الى الحمام ودفعني الى داخله واقفل الباب. كان الحمام على درجة من الحداثة. وقد انتُزعت المرآة من على الحائط... وقبل ان انتهي من الاغتسال، قرع الحارس الباب ليحضني على الاسراع. الا يمكنهم ان يسمحوا لي حتى بعشر دقائق من الحرية المحدودة يومياً؟ اعدت وضع العصابة فوق عيني وطرقت الباب. أُدير المفتاح. وأُخذت من ذراعي. وعُدت الى الاغلال. تعقيدات في الكويت منذ أن اتصل بي فريد ولسون في شأن بن وير للمرة الاولى عام 1984 واصلت تحرياتي، على رغم انني كنت حريصاً على البقاء بعيداً عن الانظار. في تلك المرحلة كنت اعتقد بأن العمل العلني لن يفيد القضية في الضرورة. تم تبادل رسائل وجرت محادثات مع ممثلين عن حكومات سورية وايرانوالكويتولبنان والمملكة العربية السعودية. وكان اعتقادي انه اذا استطعت ان ادخل الكويت لزيارة السجناء لاسباب انسانية فذلك يمكن ان يُسهل الوضع ويؤدي الى مزيد من التقدم. ويا للأسف، واصلت السلطات الكويتية رفض محاولاتي. طورت اتصالاتي خارج الاوساط الديبلوماسية. وكنت على قدر من اليقين ان الخاطفين يعلمون انني متورط وانهم اطلعوا على بعض التحركات التي كنت اقوم بها. وفي ايار مايو 1984 كتب آلفن باريور، وهو مسؤول كبير في الكنيسة البرسبيتارية الاميركية، الى رئيس الاساقفة رونسي يطلب منه السماح لي بتخصيص المزيد من الوقت في التعامل مع ازمة الرهائن. وحضر شخصياً لتسليم الرسالة والبحث في القضية مع رئيس الاساقفة. وعلى رغم ان رونسي كان تواقاً الى المساعدة، الا انه كان يعي الضغوط. واخيراً وافق على طلب باريور. وذات يوم بينما كنت اقرأ بريدي، سلمتني ستيلا تيلور مساعدة وايت قصاصة ورق. "غير معقول. أكاد لا أصدق ذلك". كانت الانباء وصلت لتوها عن هجوم بقنبلة على موكب أمير الكويت. سألت ستيلا: "لماذا، أيمكن ان يكون أي شخص على هذا القدر من الغباء ليعتقد بأنه يستطيع تأمين اطلاق السجناء عن طريق محاولة اغتيال الامير؟" اقلقني الحادث بشدة، خصوصاً انه كان يتردد على نطاق واسع ان الامير ابقى الاحكام بالاعدام عالقة كضمان ضد اي هجمات ارهابية أخرى في بلاده. وبالطبع كان من شأن اعدام أي من السجناء في الكويت ان يشكل تطوراً سلبياً جداً بالنسبة الى الرهائن الغربيين. كما كان من شأنه ان يقلص أكثر فأكثر فرص دخولي الكويت.