سألتني صحافية من "الاذاعة البريطانية الرابعة": لماذا يغلب على المسرح المصري طابع الفكاهة؟ طُرح عليّ السؤال مطلع الصيف، والمسرح المصري منهمك في الاعداد للموسم بهجوم فكاهي كاسح، يتمثل في ستين مسرحية جديدة أو معادة، كلها من نوع "خمس ساعات من الضحك المتواصل"! وأثار سؤال المذيعة خواطري... حيث أن المسرح العربي قد نشأ في أحضان تيارات ناجحة عدة، كان منها تجربة يوسف وهبي ومسرح رمسيس الذي وصل الى ذروة من ذرى النجاح على أجنحة الميلودراما، وارتوى بدموع المشاهدين ورقص على نغمات بكائهم وجمع ثروة طائلة في مناديل مقطعة. أما التيار الثاني فكان عنوانه الفنان نجيب الريحاني الذي نافس يوسف وهبي على القمة... ولكن هذا الاخير لم يترك على طريقه الفنية بحراً من الدموع، وانما بنى مجده على اضحاك الناس من انفسهم ومن الآخرين. التيار الثالث كان فارسه الفنان جورج أبيض الذي صعد الى القمة طوراً، وهبط الى أحط درجات الفشل والافلاس أطواراً... وكان بصوته المعبر الجهوري سفير المسرح العالمي والتراث المسرحي الانساني كله. فمن شاهده في دور "أوديب"، أو دور "عطيل"، أو دور "لويس الحادي عشر" لا يمكن أن ينسى حضوره المسرحي وقوة تأثيره على الجمهور. وقد جمع عدد من الفنانين الآخرين ثروات طائلة، وحققوا نجاحاً لا ينسى معتمدين في أعمالهم على الموسيقى الشرقية الرفيعة، من أبي خليل القباني الى سلامة حجازي، ومن الفنان المبدع سيد درويش الى الفنانة ملك آخر نجوم المسرح الغنائي في الخمسينات... من بين كل هذه التيارات المسرحية لم يصل الى زماننا هذا الا تيار الفكاهة والضحك. أما الميلودراما، فانتقلت بدموعها - لأسباب لا بد من البحث عنها وتعميق دراستها - من المسرح الى السينما، ومن السينما الى التلفزيون... لتواصل حياتها، ولكن في ثياب مختلفة. لكنها اختفت نهائيا من المسرح دون أن تترك عبارة اعتذار واحدة تفسر هروبها من بيتها الاصلي. كذلك انتقل تيار الموسيقى من المسرح الى السينما، وظل الغناء أو لنقل المسرح الغنائي الحقيقي غائباً عن الخشبة حتى اليوم... فلم يبقَ منه إلا بعض آثار باهتة تدل على مروره من هنا في زمان مضى، قبل أن يولي الادبار تاركاً بعض أنفاسه من خلال دقائق من الغناء والاستعراض تحتوي عليها بعض المسرحيات. ذهبت هذه التيارات وتقطعت الخيوط التي تصلها بالمسرح... فلم يصلنا الا نوع واحد وتيار واحد ما يزال يتمتع بالعنفوان والقوة والقدرة والنضارة، هو المسرح الفكاهي الكوميدي المضحك. فمدرسة الريحاني كان من ورثتها فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي وسمير غانم وجورج سيدهم وسعيد صالح ويونس شلبي وصلاح السعدني وسهير البابلي وأحمد بدير... اضافة طبعاً الى النجم الذي يحتل اليوم موقع الصدارة، ألا وهو الفنان - الظاهرة عادل إمام. سألت ممثلة "الاذاعة البريطانية اذا كانت تعرف شيئاً عن المسرح الفكاهي في مصر. "نعم. أعرف عادل إمام. كل العرب الذين تحدثت معهم حول هذا الموضوع قالوا لي: اسألي عن عادل امام". أجبتها أن عادل إمام ظاهرة فنية، بدليل أن أجره تجاوز كل ما عرفه المسرح المصري من اعتبارات اقتصادية، وبدليل أنه يستطيع أن يصمد سنوات بمسرحية واحدة، فتبقى قاعة مسرحه ممتلئة المقاعد ما طاب له من العروض، ولهذا ربما أصبح الفنان واحداً من أغلى نجوم المسرح في العالم كله. وأوضحت للمذيعة أنني أختلف مع الذين يعتبرون أن عادل امام ظاهرة مصرية حصراً، فهو ظاهرة عربية شاملة بدليل حجم الجمهور العربي الذي يزور القاهرة وفي قائمة أهدافه مشاهدة عادل إمام على المسرح... وقياساً أيضاً الى نسبة انتشار مسرحيات عادل إمام على أشرطة الفيديو في العالم العربي كله. وعادل إمام يقف، بشكل من الاشكال، وراء طغيان الكوميديا دون شك. فنجاحه المذهل يحمل مغريات كثيرة راحت تثير غيرة كلّ فناني المسرح ونجومه وتدفعهم الى منافسته والدخول معه في مباراة متواصلة على ملعب الفكاهة والكوميديا والضحك. هكذا بات أغلب هؤلاء الفنانين غير عابئ بسائر الانواع المسرحية. فتركت هذه الاخيرة تذبل في قاعات القطاع العام، حتّى كادت آثارها تختفي أيضاً من مسارح هذا القطاع المدعوم بسخاء من الدولة. هل حدث كل هذا بفعل التأثير الطاغي للفنان عادل امام - وتأثيره لا ينكر - أم أن بين الاسباب الاخرى اقبال المشاهدين العرب الذين باتوا اليوم أكبر مستهلك للمسرح في مصر، إن عن طريق المشاهدة المباشرة، أم بفعل انتشار الفيديو كاسيت؟ لا أحد يسعه الجزم بهذه المسألة. لكنني أتمنى أن يتفرغ باحث عربي في أحد المعاهد المسرحية أو في واحدة من كليات الآداب والعلوم الانسانية علم الاجتماع، علم النفس... لدراسة هذه الظاهرة التي ليس لها أي سابقة في مصر وفي العالم - أقصد ظاهرة استئثار الكوميديا والفكاهة بالساحة المسرحية على مرّ حقبة زمنية كاملة ما تزال سائدة الى اليوم. "الذين سألتهم من العرب غير المصريين - قالت الاذاعية البريطانية - أجابوا أن الشعب المصري بالذات يحب الفكاهة ويبرع في فن النكتة، وأضاف بعضهم أن العرب يحبون في المصريين روح المرح وحب الضحك والقدرة على الاضحاك". ربما كان هذا من الامور التي اشتهر بها المصريون، أوضحت لمحاورتي. لكنني لست متأكداً من أن المصريين يختلفون عن سائر العرب في حبهم للنكتة والمرح. ولعل هؤلاء اشتهروا بالمرح والفكاهة بسبب نشوء فنون المسرح والسينما في عاصمتهم، اذ بقيت القاهرة قرناً كاملاً موطن هذه الفنون، وذلك لأسباب كثيرة. ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن المسرح والسينما في القاهرة، يدينان أيضاً ببعض ازدهارهما الى طاقات ابداعية عربية، احتضنتها مصر، في أكثر من حقبة ومجال. الناس يحسبون أن كل من أضحكهم كان مصرياً، بمجرد أنه أضحكهم من القاهرة. وهؤلاء ينسون، أو لعلّهم لا يعرفون، أن نجيب الريحاني عراقي الاصل، وأن أنور وجدي سوري الاصل، وأن عبدالسلام النابلسي لبناني الأصل، وأن فؤاد الجزايرلي جزائري الاصل، وقس على ذلك. فروح الفكاهة وحب الضحك وابداع النكتة هي خصال عربية شاملة، ودليلي على ذلك يتجاوز عصرنا الى عصور قديمة، والى التراث الادبي والفني. حسبنا أن نقرأ الجاحظ و"مقامات" بديع الزمان الهمذاني. تكفينا العودة الى القصص الفكاهية في "ألف ليلة وليلة"، أو الى كتاب ابن مماتة المصري "الفاشوش في حكم قراقوش"... ولماذا لا نعرج على "بابات" الفنان والطبيب الموصلي الاصل ابن دانيال أي النصوص المسرحية لخيال الظل؟ وكل هؤلاء، أدباء فكاهيون من أقطار عربية مختلفة، وأدبهم هو القاعدة الكلاسيكية الراسخة، والبعد العميق للادب والفن الفكاهيين في عصرنا الحديث. وبعد دراسة الفكاهة في الادب العربي، علينا ألا ننسى الادب الشعبي والمسرح المرتجل، وحكايات البطل الشعبي الشهير جحا. صحيح أن شخصية جحا تتنافس على أبوّتها الثقافتان التركية والعربيّة، لكننا لن نتوقف عند هذا النزاع، ولن نعبأ بجواز السفر الاصلي، فكل ما رواه العرب عن جحا قصص عربية، وكل ما رواه الترك عنه قصص تركية. وحكايات جحا العربية، اجتازت الازمنة والعصور، وعاشت في صميم الوجدان العربي والابداع العربي الفكاهي الاصيل. تجمع شخصية جحا في القصص العربية خصلتي الذهول والفهلوة، من خلال مزيج مدهش في حلاوته ومرحه. فمن عباءة جحا خرج "العمدة الريفي" في مسرحيات يعقوب صنوع القرن التاسع عشر، والعمدة الريفي "كشكش بك" عند نجيب الريحاني القرن العشرون. وحول هذه الشخصية المثيرة يدور ابداع عدد لا بأس به من نجوم المسرح الفكاهي العربي الحديث. وعلى نسبة نجاح هؤلاء في المزج بين الفهلوة وبين الذهول، يتحدد اقتراب كل منهم من النموذج الاصلي لشخصية جحا في الحكايات الشعبية. كما يجد الدارس والمشاهد بصمات جحا على شخصيات مثل أشعب، والكندي، وأبي الفتح السكندري وغيرها من نماذج تركت أثرها على نشوء المسرح الحديث. الفكاهة العربية حلقات متصلة في تيار واحد قديم متجدد. قلت لمبعوثة "الاذاعة البريطانية" إن حديثها أثار عندي خواطر أحبها واستدعى الى ذاكرتي صوراً قديمة وأفكاراً احببتها. وزدت فأهديتها نسخة من الترجمة الانكليزية لمسرحيتي "علي جناح التبريزي وتابعه قفة"، فاذا بي ألاحظ للمرة الاولى كيف أن الذهول والشطارة اجتمعا لدى الشخصيتين الرئيسيتين في هذا النص، ومع ذلك فقد بقيتا طوال المسرحية، في تناقض وخصام وسوء تفاهم، لا تلتقيان على شيء!. * كاتب مسرحي مصري.