الفكاهة والطرفة ميزة سلوكية للإنسان من خلالها يعبّر عن مراده بطريقة مبتكرة ومرحة، وأصبحت من الرغائب التي يبحث عنها الإنسان ويدفع لأجلها المال والوقت. وعبر تاريخه الطويل، طوّر الفكاهة لتصبح فناً وأدباً وعلماً، وتنوعت النظريات الفلسفية والنفسية والسلوكية حولها. بل وأصبحت النكتة تاريخاً شفوياً يوثق أنماط المجتمعات وطبيعة التعاطي مع الأحداث. وفي السنوات الأخيرة أقيمت نوادي الضحك في عدد من عواصم العالم، وشهدت مدينة بال السويسرية عام 1997 أول مؤتمر متخصص حول الفكاهة والعلاج النفسي، وأصبح الأول من أيار (مايو) هو اليوم العالمي للضحك، وخصصت الكتب والمجلات والقنوات الفضائية للفكاهة. وفي عالم الشبكة العنكبوتية حضرت الفكاهة بكل تجسيداتها وصورها العالمية وفنونها المتنوعة، واقتربت من المتصفح تاريخياً وجغرافياً عبر الكلمة والصورة والصوت! (انظر: الفكاهة والضحك... رؤية جديدة، للدكتور شاكر عبدالحميد، دار المعرفة، الكويت، 2003، ص9). والباعث الرئيس لكتابة هذا المقال، ملاحظتي منذ زمن، من خلال متابعة انتشار النكت وزيادتها، ومجالاتها الجديدة التي بدأت تدخل إليها، حتى أصبحت صدى الشعب حول أي قرار سياسي أو ظاهرة اجتماعية أو حدث مهم في العالم. فما أن يقع شيء في العالم حتى تنتشر النكت والفكاهة الناقدة لهذا الحدث، ما يجعل الجمهور يهتم بالمتابعة لغرض البحث عن الظرافة والمرح ولو كانت ولادتها في وسط القهر والبؤس، حتى يخيّل إلينا أن النكتة أصبحت الوعاء الذي يخلط أطياف المجتمع وتياراته من دون تمييز. وفي هذا المقام الضيق وأمام هذا الموضوع الفسيح، أحاول وضع بعض المقاربات حول النقد الذي نمارسه في التعبير بالفكاهة، وذلك في المسائل التالية: أولاً: الفكاهة والضحك، ليست أمراً محظوراً في الشريعة الإسلامية، ولست في حاجة لتأصيل سلوكٍ درج عليه البشر، وارتكز في فطرهم التي خلق الله الناس عليها. والممارسات النبوية وفعل الصحابة في خلق الفكاهة والظرافة مع الآخرين وفي المواقف الحياتية حتى العصيب منها، يدل دلالة واضحة على أن أصحاب الوجوه المكفهرة المقطّبة كرهاً للحياة وسوداوية للمجتمع ليست على هدىً من نبوة أو فقهاً للحياة؛ وإن تسربلوا بثوب التدين والطهورية أحياناً. من وجهة نظري، أن الفكاهة دارجة في مقاصد الدين الكلية، وإقحامها بالمقاصد الشرعية ليس رجماً بالغيب أو إلحاق الدعيّ بغير أهله، فوجودها أصيل وبيان مكانتها يظهر من خلال غاية الشريعة في تحصيل مصالح الدين وإسعاد الإنسان، ومن ملامح هذا الاعتبار؛ وصف السماحة في الشريعة، «فالسماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها» كما قال الإمام ابن عاشور في عنوان كبير وضعه لهذا الوصف، (انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، 1978، ص60) وحكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس سهل عليها قبولها، ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات، والفكاهة المعتدلة والضحك الطبعي من صفات النفوس السمحة، وبضدها تتميز الأشياء، فالعنت والضيق ليس من الجبلة، وبهما يحصل التوتر وتظهر الشدة في تعامل الناس وسلوكهم المعتاد. (انظر: المرجع السابق ص62،61). فمن الظاهر والبين والمعلوم أن قوام العلاقات السليمة بين الناس يحتاج إلى تراض ونفوسهم إلى طرافة تدفع عنهم التشاحن والسأم، والعلوم النفسية اليوم تثبت أن معدلات القلق والخوف والشعور بالنقص تزول في أجواء المرح والفكاهة، كما أن تفريغ المكبوت من المشاعر السلبية يحتاج إلى سياقات من النكت والكوميديا بحسب فرويد وكريس وغيرهم (انظر: الفكاهة والضحك لشاكر عبدالحميد ص130-145)، وهذه المعالجات النفسية الفكاهية، هي المعاني التي جاءت الشريعة بتحصيلها وتقليل المفاسد بها. ثانياً: النكتة أو الطرفة اللفظية نوع من أنواع الفكاهة، وهي فكرة ذكية وبسيطة ولها عمق يجعلها تستثير العقل وتستفز النفس بلطافتها نحو الضحك، وهي تعبير يحكي واقعاً بصورة مغايرة، يُظهر الفارق بين الواقع والنسق التعبيري أو التوصيفي الذي لا يخلو من السخرية والتهكم، وبينهما يحصل فعل الضحك والانشراح لدى السامع أو المشاهد، وقريباً من ذلك حدد كانط كيفية نشأة الدعابة ومثله شوبنهاور (المرجع السابق ص95)، وهذا ما جعل جان بول يشبه النكتة «بكاهن متخفٍ يقوم بتزويج كل أثنين مختلفين»، واليوم نلحظ أن صناعة النكتة أصبحت أكثر أبداعاً بسبب كثرة القنوات التي تستوعبها وتوصلها للمجتمع. فالمجموعات المتواصلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تكاد تكون النكتة عصب التواصل الحقيقي بين أفرادها. أما موضوعات النكتة، فتختلف من مجتمع إلى آخر، ففي دراسة أميركية على آلاف النكات التي كانت منتشرة في أميركا الشمالية، في الفترة ما بين 1970-1975، جاء ترتيب شيوع النكات على النحو الآتي: النكات الجنسية، ثم النكات العرقية، ثم النكات السياسية، ثم نكات تعاطي المخدرات، ثم النكات التي تدور حول موضوعات قاتمة كالموت، ثم فئات أخرى لموضوعات أقل شيوعاً. (أنظر: العربي الجديد 26 تشرين الأول / أكتوبر 2016)، وأعتقد أن الموضوعات التي تفرض نفسها في نكت المجتمع وفكاهته، لها دلالات خاصة متعلقة بطبيعة الموضوعات التي يخافها في العلن أو محظورة بسبب الدين والسياسة، بالتالي يمارس دوره التعبيري الناقد من خلالها. فالنكتة فعلٌ اجتماعي، حتى لو كان صانعها واحداً أو فئة معينة، لكن انتشارها دليل تبني المجتمع لها وقبوله فكرتها والتعبير من خلالها. ثالثاً: تفرض بعض المجتمعات قدرتها على نشر الفكاهة والتسلية بأدوات تعبيرية مختلفة كالقصيدة أو المسرحية أو المقامات النثرية وغيرها، وقديماً قال ابن المقري التلمساني: «ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم، وأجوبة بديهية مسكتة، والظرف فيهم والأدب كالغريزة، حتى في صبيانهم ويهودهم، فضلاً عن علمائهم وأكابرهم». (نفح الطيب من غصن الندلس الرطيب، لابن المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، نشر دار صادر 1997، 3/381). وفي هذا المقام سأسلط الضوء على أحد هذه المجتمعات التي تنامت فيها الطرف والنكت في شكل ملحوظ، ولعلي أتناول مجتمع المملكة العربية السعودية، كوني من أبناء هذا المجتمع، ولسبب موضوعي آخر، هو حدوث ثورة فكاهية لدى السعوديين، سواء في كثرة المنتج من النكت أو في طرافتها الجميلة، أو من خلال سرعتها في التعبير عن الأحداث وانتشارها الجغرافي الكبير؛ بل أصبح السعوديون هم روّاد النكتة، منافسين إخوانهم المصريين على عرش الفكاهة العربية. ولا أملك دراسات علمية حديثة تحصي وتحلل هذه الظاهرة المتنامية بين السعوديين، لكنها انطلقت بقوة بعد أزمة سوق الأسهم في 2006، ويمكن أن ندلل على هذه القوة التداولية للنكتة السعودية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والريادة القوية لمنصات الفكاهة على مواقع (اليوتيوب). وفي هذا الصدد تذكر الدكتورة هويدا عبدالعظيم، وهي متخصصة في الدراسات الاجتماعية، أن النكتة السعودية اليوم أصبحت سياسية واجتماعية واقتصادية مرتبطة بالمستوى المعيشي للمجتمع وأفراده. فأخذت طابعاً آخر وهي النكتة القصيرة والمعنى القوي، وقالت: «في الوقت الحالي أصبحت النكتة تولد عندما يحدث داخل المجتمع حدث لا يرتاح له أفراد المجتمع، وتصنع بأعداد هائلة في وقت قصير، وهذا الناتج دليل على وعي». (جريدة الرياض 22 شباط / فبراير 2008). والنكتة السعودية لها دلالات تعبيرية مقصودة، فأحياناً تكون رسالة مجتمعية لمسؤول مقصر أو لخدمة بائسة، وأحياناً جلداً للذات وسخرية من تناقض المجتمع، وقد تكون تعبيراً عن الفقد وعدم القدرة على النقد العلني، خصوصاً في ما يتعلق بالسياسة والدين والجنس. هذه الظاهرة الواضحة التي يعيشها مجتمعنا السعودي لا تعتبر شواذاً عن بقية المجتمعات الأخرى، فهي حالة غريزية وتفاعل مجتمعي، وفي العادة تُنتج في ظل ظروف متغيرة وصادمة، بيد أن انتشارها المتزايد جاء مع طفرة وسائل التعبير الاجتماعي التي انتجتها ثورة الاتصالات والتواصل، فهي وإن كانت مأمونة العواقب إلا أن مراقبة متغيراتها مطلوب لاستقرار المجتمع، فمن يطلع على الدراسات الاجتماعية وطبائع الحروب النفسية، يجد النكتة حاضرة بوضوح وقد تستخدم كسلاح خفي في تخدير المجتمع أو تهوين قوته أو ضرب معنوياته من الداخل. وفي الختام... نلحظ أن التعبير النقدي بالفكاهة، قد يكون ظاهرة صحية للتنفيس من غلواء القهر أو الكبت، وتحسيناً لظروف الحياة والعلاقات بين الناس، وفناً شعبياً يظهر براعة المجتمع في التعبير والنقد وقراءة الأحداث بالتسلية والظرافة. ولا يزال المجال المعرفي وراء هذه الظاهرة زاخراً بالتساؤلات البحثية التي تحتاج إلى دراسة وتحليل تزيد من فهم المجتمع لذاته ورؤيته لحاضره وتوقعه لمستقبله. وعلى رغم الكلام الطويل حول الفكاهة في هذا المقال، إلا أنه قد خلا من لطافة النكتة التي يشغف بها كل القراء، ولا أظن القارئ الذي أنهى المقال بحاجة لطرفة يبتسم لها، بقدر ما يحتاج إلى شكر وعرفان على تحمّل شقاء الجدية في موضوع هزلي!