عندما سقط بضعة جنود روس في اشتباكات الحدود السوفياتية - الصينية عام 1969 انتشر النبأ في كل انحاء الامبراطورية الكبيرة بسرعة البرق، ونزل عشرات الألوف من الناس الى الشوارع عاقدين اجتماعات التأبين مطالبين قادة الكرملين بتلقين الجار المتمادي درساً. وردت موسكو على تحدي بكين آنذاك بضربة صاروخية هائلة لأراضي الصين الحدودية، والتي بشهادة احد الضباط الروس "لن تقوم لها قائمة لمدى كثير من السنين". ... لكن مقتل الجنود الروس خارج حدود روسيا اصبح في الفترة الاخيرة ظاهرة عادية، حتى ان الحادث الاخير الذي وقع على الحدود الطاجيكية - الافغانية، وصف بأنه اضخم هزيمة للجيش الروسي منذ بدء الحرب الافغانية، استقبله الشارع الروسي بلامبالاة مذهلة، حتى ان كثيراً من الجرائد لم يجد من الضروري في البداية ان ينشر انباء القتال على الصفحات الاولى. وقع الحادث فجر الثلثاء 12 تموز يوليو الجاري، عندما عبر مقاتلون اسلاميون طاجيك، معارضون لحكومة دوشانبه، الحدود من افغانستان وهاجموا موقعاً لقوات الحكومة وقتلوا نحو 35 جندياً بينهم 20 من حرس الحدود الروس. ما ادى الى تصاعد التوتر بين كابول وكل من موسكو ودوشانبه. اذ سرعان ما اعد البرلمان الروسي في اثناء مناقشة الاحداث الفاجعة في 14 تموز بياناً قاسياً جداً في شكله ومحتواه. لكن بعض النواب المعتدلين اصر على ارجاء اقراره الى حين عودة رئيس البرلمان روسلان حسبولاتوف الذي كان في فرنسا. وفي اليوم التالي افتتحت جلسة البرلمان بكلمة لنائب وزير الدفاع الجنرال قسطنطين كوبيتس الذي قدم الى النواب طلباً من قادة وزارة الدفاع للموافقة على ارسال قوات اضافية الى طاجيكستان واستخدامها في القتال. خوف من أفغانستان جديدة وأثار هذا الموقف المتشدد لوزارة الدفاع التي طلبت من البرلمان، في حقيقة الامر، الاذن بالحرب خارج الحدود ارتباك النواب الذين لم يكونوا، على الارجح، يريدون تحمل كل المسؤولية عن "افغانستان جديدة". ولم يتنفس كثيرون منهم الصعداء الا بعدما ابلغوا ان الرئيس بوريس يلتسن الموجود حالياً في اجازة وصف اعمال المجاهدين بپ"القرصنة"، وأعرب عن موافقته على مبادرة وزارة الدفاع. وبنتيجة ذلك أقرّ النواب بأكثرية الاصوات الساحقة وثيقة تفوض الى الحكومة "اتخاذ الاجراءات الضرورية لحماية حياة الروس وامنهم بالوسائل المناسبة للظروف". واضافة الى ذلك اهاب البرلمان الروسي ببرلمانات كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان ان تقوم بخطوات تنص عليها معاهدة الامن الجماعي لرابطة الدول المستقلة، وكلف وزير الخارجية الروسي اندريه كوزيريف بدء المحادثات فوراً مع كابول. ولاطلاق ايدي العسكريين سريعاً صادق البرلمان مساء اليوم نفسه على معاهدة الصداقة والتعاضد والتعاون العسكري الروسية - الطاجيكية الموقعة في 25 ايار مايو وعلى اتفاقات الوضع القانوني لقوات الحدود والتشكيلات العسكرية الروسية في طاجيكستان. وزارة الدفاع تصفق وقوبل بيان البرلمان الروسي بالتصفيق في وزارة الدفاع التي اعلنت انها ستعزز الفرقة الروسية 201 الموجودة في طاجيكستان على وجه السرعة بالمعدات المدرعة والمدفعية ووضع قطعات جوية تحت تصرفها. وبدأت الاوساط العسكرية ايضاً بدرس امكان استخدام قاذفات القنابل البعيدة المدى لضرب قواعد المجاهدين في افغانستان. وقال الجنرال كوبيتس: "اننا نعتبر بيان البرلمان اذناً عملياً باستخدام القوات المسلحة عند الضرورة، واذا حدثت محاولة اخرى من جانب المجاهدين لتكرار امثال هذه الاعمال فاننا سنلقنهم درساً سيرتعد له حتى ابليس في جهنم". ومن جهة اخرى، تثير لهجة الجنرالات المتشددة قلقاً بالغاً في اوساط السياسيين الروس الذين يريدون تسوية النزاع بالمحادثات مع كابول. وقال النائب يونا آندرونوف في مقابلة اجرتها معه "الوسط": "ان رئيس البرلمان روسلان حسبولاتوف كان في بداية هذه السنة اتفق مع برهان الدين رباني الرئيس الافغاني على ان يزور موسكو وفد افغاني واسع التمثيل للبحث في الوضع الحدودي وقضايا اسرى الحرب وتقديم مساعدة انسانية من روسيا الى افغانستان. لكن وزير الخارجية كوزيريف عارض المحادثات مع كابول، وقال عنها في مذكرة ارسلها الينا في ثلاث صفحات انها سابقة لأوانها". وأضاف آندرونوف: "للأسف قلّ من يدرك أن روسيا تنجرّ الى حرب افغانية ثانية". الهدوء الذي يسبق العاصفة؟ وصرح وزير الدفاع الروسي الجنرال بافيل غراتشوف الذي وصل الى طاجيكستان في 16 من الشهر الجاري، كأنما توقع امثال هذا اللوم، بأن القوات الروسية لن تستخدم الا لردّ الهجمات ولا يفترض ضرب المجاهدين الا على الأرض الطاجيكية. وفي الوقت الذي يشبه الوضع على الحدود، حسب قول شهود عيان، "الهدوء الذي يسبق العاصفة"، اصبحت "الحرب الافغانية" قائمة بكل عنفها، بين مختلف القوى السياسية في روسيا. وموضع الجدل اليوم هو هل على روسيا ان تسعى الى المحافظة على وجودها العسكري في آسيا الوسطى وتصبح بذلك حتماً طرفاً في النزاعات الداخلية الدامية، ام من مصلحتها ان تتنصل من مشاكل آسيا الوسطى تاركة هذا الجزء من الامبراطورية السوفياتية السابقة لحكم القدر؟ قال لپ"الوسط" فالنتين بوشكوف الخبير المعروف في شؤون آسيا الوسطى: "ان احداً لا يستطيع ان يقيم الأساس ولو تحت واحد من هذين الموقفين في شكل منطقي. وسبب ذلك ان روسيا لا تملك اليوم مفهوماً للأمن القومي ولا مذهباً متكاملاً في السياسة الخارجية. ولهذا فان موسكو، في تقويمها الوضع في طاجيكستان، تنطلق في الدرجة الاولى من اعتبارات عسكرية وليست سياسية. وبدلاً من اقامة حدود محروسة مع آسيا الوسطى، وهو ما يحتاج الى نفقات مادية ضخمة، يكون من الانسب للعسكريين اقناع الحكومة بأن حدود روسيا لا تزال تتطابق مع الحدود الجنوبية للاتحاد السوفياتي السابق. وحجة الصقور الاخرى هي حماية السكان الناطقين اللغة الروسية في طاجيكستان، وهذه خدعة كاملة لأن الروس يهربون باستمرار الى روسيا ولن يبقى احد منهم اصلاً هناك في القريب العاجل". قلق من موجات النازحين ولا مراء في ان احتمالات خروج ملايين عدة من الروس الذين لا يزالون مقيمين اليوم في جمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية، افواجاً وجماعات يثير القلق الكبير في موسكو، لأن موجات النازحين قد تزعزع بشدة الوضع السياسي المتوتر اصلاً في روسيا نفسها. ويمكن في هذا الصدد افتراض ان تكون "الورقة الروسية" اليوم من اهم الاوراق في يد الرئيس الاوزبكي اسلام كريموف الساعي الى اقناع روسيا بضرورة استمرار وجودها العسكري في طاجيكستان، مع ان سبب موقفه هذا، في رأي بعض المراقبين، ليس الاهتمام بالروس بل الخوف من ان تصل نار الحرب الاهلية المندلعة في طاجيكستان الى بلاده التي يسكن فيها عدد غير قليل من الطاجيك. وعلى صعيد آخر يستبعد ان تكون روسيا في الوضع الحالي قادرة على منع تسرب مقاتلي المعارضة الطاجيكية من اراضي افغانستان. وما يزيد صعوبة هذه المهمة اليوم ان فريقاً من سكان محافظة قولاب التي هي الركيزة الرئيسية للنظام الحاكم حالياً، بدأوا اخيراً، استناداً الى معلومات حصلت عليها "الوسط" من مصادر مطلعة قريبة الى اوساط المعارضة الطاجيكية، يزدادون تضامناً مع المجاهدين، بل قيل ان احد فصائل القولابيين المسلحة اشتركت في الهجوم الاخير على العسكريين الروس. مصير الجيش السوفياتي؟ وعلمت "الوسط" ان "لجنة المقاومة الاسلامية الطاجيكية" ذات الارتباطات بالحكومة التي في المنفى ولها ممثلية غير رسمية في موسكو ارسلت الى مكاتب تحرير بعض الصحف قبل الهجوم ببضعة ايام نص رسالة الى "لجنة امهات الجنود" الروسية اعلنت فيها عزم المجاهدين الموجودين في افغانستان على مواصلة الجهاد حتى النصر الكامل. ودعت النساء الروسيات الى بذل كل جهودهن للحيلولة دون سقوط ابنائهن بلا معنى في ارض غريبة. وجاء في الرسالة: "اننا لا نخاف قوة الجيش الروسي ولا عدده، واننا واثقون بأنه سيلقى المصير الذي لقيه الجيش السوفياتي في افغانستان". دوستم وأوزبكستان الكبرى وقال لپ"الوسط" حيدر جمال رئيس فرع موسكو لحزب النهضة الاسلامي: "ان الجرائد الروسية خافت من نشر هذه الرسالة، ولكن من الواضح انها لم تكن عرضية وانها تضمنت تحذيراً من الاحداث المرتقبة". ولاحظ ان زيادة القوة العسكرية الروسية على الحدود الطاجيكية - الافغانية لن تساعد على الارجح في بقاء نظام دوشانبه الحالي الذي "لا يؤيده السكان ولا يقوم الا على حراب مقاتلي الجبهة الشعبية والمرتزقة ومستخدمي لجنة امن الدولة والجيش القليل العدد وغير القادر على القتال". وأضاف جمال: "ان لحزب النهضة الاسلامي اليوم ركيزة قوية من اللاجئين الطاجيك في افغانستان. لكن قادة المعارضة الطاجيكية ليسوا من السذاجة ليظنوا انهم قادرون على دحر الجيش الروسي الذي يملك معدات مدرعة وطائرات. فهذه مهمة لا يمكن اليوم تحقيقها، ولكن ليس عندي ادنى شك في اننا سنشهد قريباً نزاعاً واسع النطاق بين روسيا واوكرانيا قد يتحول مواجهة عسكرية، وعندئذٍ ستضطر روسيا نفسها الى الخروج من آسيا الوسطى". ورداً على سؤال لپ"الوسط" كيف يمكن ان يكون الوضع في طاجيكستان اذا تحقق هذا التوقع، اجاب جمال انه يرى الخطر الرئيسي على الطاجيك في طموحات طشقند التي اصبحت، في رأيه، تدرس من كل الجوانب مع الجنرال عبدالرشيد دوستم زعيم الميليشيات الاوزبكية في افغانستان مخططاً لانشاء دولة "اوزبكستان الكبرى" وعاصمتها مزار شريف. وأضاف: "ان طاجيكستان وأفغانستان ستتعرضان عندئذٍ حتماً للتجزئة". وعلى صعيد آخر يتساءل المتتبعون في موسكو اليوم الى اي مدى يمكن روسيا ان تذهب اذا شن المجاهدون الطاجيك قريباً عمليات مسلحة جديدة ضد الجيش الروسي. وقال لپ"الوسط" جنرال روسي طلب عدم ذكر اسمه: "ان اجدى شيء من وجهة النظر العسكرية القضاء على قواعد المجاهدين الافغانية من الجو. فلن يكون ذلك مخالفة للمادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة، لكن الرئيس يلتسن لن يقدم على هذا الامر لأن روسيا لم تعد منذ زمن بعيد دولة عظمى. والارجح اننا سنستمر في رمي المزيد والمزيد من الجنود في الاتون اللاهب واعادة الابناء الى امهاتهم في توابيت من الزنك، كما كان الامر في اثناء الحرب الافغانية التي، كما تدل كل الدلائل، لا تزال مستمرة حتى الآن".