اجتاز الرئيس بيل كلينتون وإدارته فترة عصيبة خلال الاسبوعين الأخيرين من شهر أيار مايو الماضي. بل ان بعض المراقبين بدأ يتحدث عن "الرئاسة الفاشلة"، مع أن مثل هذا الحديث سابق لأوانه. إلا أن التأييد الشعبي الذي كان يتمتع به كلينتون هو في انحسار، مما قد يؤثر في قدرته على انتهاج سياسة خارجية متجانسة ومتماسكة تجاه العالم بما في ذلك الشرق الأوسط. والواقع أنه كان في وسع كلينتون أن يتفادى معظم الأخطاء التي ارتكبها خلال الأسابيع الأخيرة، مما يدفع المرء الى الاعتقاد بأنه لا يصدر الأحكام الصحيحة على الأمور أو أن مستشاريه رديئون أو أنه يعاني من المشكلتين معاً. وبعض القضايا التي يبحثها الأميركيون الآن بشكل مكثف تبدو تافهة. فقد دفع كلينتون، مثلاً، 200 دولار مقابل حلاقة شعر رأسه وأجبر الطائرات في مطار لوس انجليس على الانتظار ريثما يفرغ حلاّقه الذي يتقاضى أجراً باهظاً، من المهمة. وفي هذا التصرف ما يكشف عن بعض التعالي والغطرسة، وهما صفتان لا تلائمان رئيساً شعبياً من ولاية صغيرة فقيرة. وفي الاسبوع نفسه تعرَّض كلينتون لتهمة "المحسوبية" عندما عرض وظيفة في البيت الأبيض على قريب له. وهذا أيضاً لا يتفق مع نغمة بياناته العامة. إلا أن الفشل الذريع كان في مجالي الاقتصاد والسياسة الخارجية. فعلى رغم ان حزبه الديموقراطي يتمتع بالأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ فانه ليس من المعروف حتى الآن إذا كان كلينتون سينجح في إقرار موازنة من دون اجراء تغييرات جذرية عليها. إذ أنه خسر تأييد الديموقراطيين الأقوياء الذين ينادون بخفض الضرائب وبالمزيد من خفض الانفاق. وقد أيد مجلس النواب الآن، بنسبة ضئيلة، مشروع الموازنة الذي قدمه الرئيس، لكن من المتوقع أن يصرّ مجلس الشيوخ على اجراء تغييرات كثيرة عليه. وليس من الواضح حتى الآن إذا كان كلينتون سيخرج من هذه المعركة مع الكونغرس وقد تعززت سلطته أو ضعفت. لكن الانتصار الذي أحرزه في مجلس النواب هو أول إشارة طيبة تظهر من وجهة نظره منذ أسابيع عدة. وحتى لو نال مشروع موازنته الموافقة فإن برنامجه المحلي الرئيسي الآخر، وهو الرعاية الصحية، يواجه تحديات خطيرة. وإذا ما خسر كلينتون أو اضطر مرغماً لتقديم تنازلات في هذا المجال فإن من المرجح أن يصبح رئيساً مشلول الحركة ولن تتجاوز رئاسته ولاية واحدة. أما على جبهة السياسة الخارجية فقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية المهزلة التي تبعث على الأسى حين وعدت الادارة باتخاذ موقف صلب تجاه الوضع في البوسنة، أي قصف مواقع الصرب وتسليح المسلمين، ثم شاهدنا وزير الخارجية وارن كريستوفر يقوم بجولة في أوروبا، وما ان يعود الى واشنطن حتى تتراجع الادارة عن موقفها. وأدى هذا التصرف الى الحاق ضرر كبير بمكانة أميركا وادعائها أنها الزعيمة التي تقود الآخرين في اللحظات الحرجة الحاسمة. ومن المرجح ان يثير هذا الموقف الشكوك في العالم حول مدى صلابة الموقف الأميركي من أية قضية سياسية خارجية. إنني شخصياً لا أعرف ما هي السياسة الصحيحة تجاه البوسنة. إذ ليس هناك حل بسيط وسهل. ولكن عندما تقرر دولة عظمى التصرف يجب عليها ألا تغير رأيها. إذ لن ينظر أحد نظرة جدية الى القيادة الأميركية إذا ما بدا أن هذه القيادة عرضة للنزوات والضغوط. كذلك من المهم أن تتحدث الادارة بصوت واحد، ولكن غالباً ما نسمع الرئيس ووزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة يتكلمون بأصوات مختلفة. ففي الآونة الأخيرة ألقى بيتر تارنوف أحد مساعدي وزير الخارجية خطاباً مطولاً عن الدور الأميركي في فترة ما بعد الحرب الباردة ألمح فيه الى أن الولاياتالمتحدة ستلجأ الى الانتقاء في تحديد التزاماتها. ولم تمض ساعات حتى سارع وزير الخارجية الى مناقضة ما قاله مساعده. أليس من حقنا إذن أن نسأل بعد ذلك: من المسؤول عن السياسة الخارجية؟ فما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة الى عملية السلام بين العرب واسرائيل، وبالنسبة الى أمن الخليج، وهما أهم قضيتين تواجهان السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط؟ من حسن الحظ أن هناك تجانساً أكبر في سياسة واشنطن تجاه هاتين القضيتين مما هو الحال تجاه البوسنة. إذ يبدو أن الادارة ملتزمة بدفع عملية السلام الى الأمام، وبانتهاج سياسة الاحتواء تجاه كل من العراق وإيران. فعندما وردت أخيراً أنباء عن احتمال شن العراق هجوماً على الأكراد سارع كريستوفر الى تحذير العراق من الاقدام على مثل تلك الخطوة. والواقع انه إذا ما شن العراق هجوماً على السليمانية مثلاً فإن ردَّ الفعل الأميركي، في اعتقادي، سيكون سريعاً ومهلكاً، ذلك ان الولاياتالمتحدة ستظل على استعداد لاستخدام القوة ضد صدام حسين إذا ما حاول استرداد مناطق الأكراد، ما دامت تلك القوة لا تنطوي على استخدام القوات الأميركية البرية. بل وتكهن البعض بأن كلينتون ربما يرحب بحدوث معركة مع العراق كوسيلة لمحاولة تحسين مستوى شعبيته المتدهورة. إلا أن الجولة العاشرة من مفاوضات السلام ستكون الاختبار الحقيقي للادارة الأميركية فما لم يتم إحراز تقدم سريع فإن قوة اندفاع المفاوضات ستنتهي، كما أن الزعماء المختلفين سيضعفون، وبالتالي فإن إمكان إحراز تقدم رئيسي حقيقي يمكن أن يتبخر. وإذا أراد كلينتون وكريستوفر ترسيخ سمعتهما ومكانتهما في ميدان السياسة الخارجية وإثبات كفاءتهما فإن عليهما السعي الى تحقيق تقدم فعلي في عملية السلام. وما لم يكن لدى أطراف المفاوضات ثقة كافية في قياداتها فإنها لن تقدم التنازلات الضرورية من أجل إحراز ذلك التقدم المنشود. إذن لا بد من الخروج من هذه الدائرة المفرغة. وقبل أن أحكم بأن إدارة كلينتون أصبحت في ورطة صعبة وأنها فشلت، من المهم الاشارة الى أن عمر هذه الادارة لا يزال صغيراً، وان المعترك السياسي في واشنطن شاق ومشاكل السياسة الخارجية لا حلول سهلة لها. وقد سبق أن أظهر كلينتون في الماضي قدرة ممتازة على التعلم من أخطائه. لهذا لن نراه مرة أخرى يقصّ شعر رأسه بمئتي دولار، كما أنه سيمنع المحسوبية في البيت الأبيض. أما بالنسبة الى القضايا المهمة فسيباشر بذل جهود ضخمة كي يوافق الكونغرس على برنامجه الاقتصادي. وإذا ما نجح في ذلك فإن نفوذه سيزداد ويقوى، وسيكون بمقدوره أن يركز جهوده على مشاكل السياسة الخارجية بثقة أكبر. إلا أن فشله في ذلك سيؤدي الى انتشار قناعة في الولاياتالمتحدة مفادها ان كلينتون لا يصلح أن يكون رئيساً. وهي نتيجة لن تكون لصالح أميركا... أو العالم. * مستشار الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر وخبير بارز في شؤون الشرق الأوسط.