يواجه الرئيس الاميركي الجديد بيل كلينتون بعد تسلمه مهامه رسمياً عدداً من القضايا الخارجية، لا سيما في الشرق الاوسط والعالم الاسلامي، تستدعي اهتمامه الفوري، كما انها تستلزم منه اتخاذ قرارات سريعة بشأنها. ويؤكد المقربون من الرئيس الجديد ان حرص كلينتون على اعطاء الاولوية لتسوية المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في الولاياتالمتحدة، لن يمنعه اطلاقاً من تركيز اهتمامه على قضايا خارجية. وأبرزها أربع هي: العراق وكيفية التعامل مع الرئيس صدام حسين، الصومال، مفاوضات السلام العربية - الاسرائيلية، البوسنة والهرسك. العراق الضربة العسكرية التي تلقاها العراق قبل أيام قليلة من دخول كلينتون الى البيت الابيض، جعلت "ملف صدام حسين" يحتل مكانة متقدمة في سلم اولويات الرئيس الجديد. وقد بدا واضحاً من المقابلة التي أجراها مع صحيفة "النيويورك تايمز" ونشرت يوم 14 كانون الثاني يناير الجاري، ان كلينتون "يأمل" بأن يبدل صدام حسين سلوكه ويلتزم بتنفيذ جميع قرارات مجلس الامن المتعلقة بغزو الكويت ونتائجه، لكن الواضح، ايضاً، ان كلينتون ليس واثقاً تماماً من ان الرئيس العراقي سيبدل سياسته او مواقفه. وذكرت مصادر مقربة من انطوني ليك مستشار كلينتون لشؤون الامن القومي لپ"الوسط" ان "أفضل سيناريو" يمكن ان تتوقعه الادارة الجديدة هو ان يرسل صدام اشارة واضحة وملموسة وقوية الى كلينتون يبدي فيها الاستعداد للاستماع الى "المنطق" والتخلي عن سياسة "الاستفزاز والتحدي والخروج على الشرعية الدولية". ويقول محلل سابق في وكالة المخابرات المركزية الاميركية، سبق له أن أعد "نبذة وافية" عن صدام للوكالة، ان الرئيس العراقي لا يتصرف بشكل متهور فحسب، بل ولا يقيم وزناً للفروق بين الثقافات التي يواجهها عندما يتحدى الغرب. وهناك توقعات في اوساط الادارة الاميركية الجديدة بأن يمد صدام غصن الزيتون اليها وان يلقي اللوم في العداء الاميركي - العراقي على ادارة بوش، وعلى بوش شخصياً. ومن هذا المنطلق من المتوقع ان يعرض صدام قدراً من "الوئام" على الادارة الجديدة، على أساس ان كلينتون تعمد تفادي الخدمة العسكرية في فيتنام، كما انه وقف في البداية ضد "عاصفة الصحراء"، ولم يؤيدها الا بعد ان اتضح له انها تحظى بالتأييد الشعبي الأميركي. وسيشجع صدام على هذا المسلك إدراكه أن وزير خارجية كلينتون الجديد وارن كريستوفر خبير في الشؤون الخارجية ومعروف بحنكته وطول نفسه كوسيط ولا يميل اطلاقاً الى قعقعة السلاح، كما انه يتفق مع رغبة كلينتون في تحقيق الوفاق من دون ان يظهر بمظهر الضعيف، ومع رغبته ايضاً في عدم اعطاء أي ذريعة للبنتاغون لمعارضة خفض موازنتها بنسبة خمسين في المئة خلال الأعوام الأربعة المقبلة. وإذا ما أخذنا في اعتبارنا حرية العمل الهائلة التي تحظى بها الادارة الاميركية الجديدة خلال أسابيعها الأولى، فان احداً لن يفاجأ اذا ما تم ترتيب عقد اجتماع، ربما في مقر الأممالمتحدة، بين كريستوفر برفقة ليك وغيره من المستشارين المقربين وبين وزير الخارجية العراقي محمد سعيد الصحاف. لكن المصادر الاميركية المطلعة أبلغت "الوسط" ان مثل هذا اللقاء لن يتم الا اذا اجرى صدام حسين "تغييراً" سريعاً ملموساً في عدد من مواقفه. وحذرت مصادر الادارة الاميركية الجديدة من ان صدام سيرتكب "خطأ كبيراً" اذا اعتقد ان كلينتون "سيتساهل معه" في ما يتعلق بضرورة تنفيذ قرارات مجلس الامن أو ان افتقار كلينتون الى الخبرة في الشؤون الخارجية يعني انه ساذج، أو أن تفضيل كريستوفر الديبلوماسية على الحرب يعني انه يمكن خداعه، أو أن ليك سينسى منصبه كمستشار لشؤون الامن القومي لمجرد انه أكاديمي. ويعتقد المراقبون المطلعون في واشنطن ان ادارة كلينتون لن تفعل شيئاً قد يساعد على بقاء صدام حسين في السلطة، ولكنها ستسعى الى تجنّب الصراع المكشوف مع بغداد، اذا ما اجرى صدام تغييرات فعلية في مواقفه. وإذا لم يحدث ذلك، فان صدام سيواجه "مشاكل متعددة وسيتلقى ضربات قاسية اخرى" من ادارة كلينتون، على حد ما قاله لپ"الوسط" مصدر اميركي مسؤول. وأضاف: "لا نعلق آمالاً كبيرة على حدوث تغيير في مواقف صدام، لكننا لا نستطيع اصدار حكم قاطع بشأن الرئيس العراقي إلا من خلال التعامل معه وامتحانه ووضع نياته على المحك". الصومال توفر الازمة الصومالية للرئيس كلينتون فرصة لتأمين تحقيق نجاح سريع نسبياً في مجال السياسة الخارجية في العالم الثالث، حيث ترغب ادارة ديموقراطية ليبرالية في الواقع في تحقيق هذا النجاح. وأول شيء يجب ان نتذكره مع اقتراب تعامل كلينتون مع هذه الازمة هو ان كلينتون نفسه محام تعامل مع التشريعات اكثر مما تعامل مع القانون نفسه طوال فترة حكمه لولاية آركنساس، أي لاثني عشر عاماً. ولكن من المرجح ان يرى ان حل الازمة الصومالية يكمن في حكم القانون وفصل السلطات. كما أن هيلاري زوجته، التي قال انها ستشترك في أغلب الاوقات في اجتماعاته الوزارية، محامية نشطة، وكانت حتى فترة قريبة رئيسة لصندوق الدفاع عن الأطفال الذي يرفع القضايا على الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات كلما رأى ان هناك قضية تثير القلق بالنسبة الى رعاية الأطفال ومصلحتهم العامة. ومن المؤكد انها ستنظر الى الصومال كمشكلة في اطار المساعي المبذولة لانقاذ الأطفال. كذلك كان وارن كريستوفر محامياً طوال حياته باستثناء الفترة التي عمل فيها نائباً لوزير الخارجية في عهد الرئيس كارتر. ولا شك انه سيشاطر رئيسه وزوجته نظرتهما الى الصومال. ومعنى ذلك على الأرجح ان ادارة كلينتون سترغب في القيام بدور نشط في اعادة بناء النظام القضائي وقوات الشرطة في الصومال مهما كانت رغبتها في تقليل الدور العسكري الاميركي هناك. ويبدو ان زعماء الفصائل الأربع عشرة المتحاربة في الصومال، الذين حضروا اخيراً مؤتمر المصالحة في أديس أبابا يدركون ذلك. فقد أظهر الزعيمان الرئيسيان بينهم رغبة خاصة في التعاون مع القوات الاميركية. وترى المصادر المقربة من ليك مستشار كلينتون لشؤون الأمن القومي أن أولئك الزعماء يودون أن يصبحوا جزءاً من النظام السياسي الجديد الذي يتوقع المراقبون ان تفرضه الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة في الصومال. وربما كانت تلك الخطوة اكثر الخطوات التي تواجه الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة حساسية لأن اعادة نصاب الأمن والقانون الى الصومال ربما كانت عملية شبه مستحيلة اذا لم يقدم زعماء الفصائل المتحاربة الى المحاكمة على جرائمهم. وهناك الآن احدى وعشرون دولة لها قوات في الصومال، اذ أن الولاياتالمتحدة لها اثنان وعشرون ألف جندي بينما تساهم الدول الاخرى بأكثر من ألف رجل. ويعتقد المراقبون ان كلينتون سيضغط من اجل اسناد دور اكبر للدول الافريقية الاسلامية في الصومال وزيادة وجود دول اخرى مثل استراليا وكندا وأوروبا. الا ان مصدراً مهماً سيصبح مستشاراً رئيسياً للشؤون الافريقية في وزارة الخارجية الاميركية حذر كريستوفر في تقرير رفعه اليه من أن "مشاركة الدول الاخرى في المهمة الصومالية ليست مسألة سهلة". اذ ان التقارير الصحفية الواردة من الصومال وجميع منظمات الاغاثة هناك تريد بقاء اكبر عدد من القوات الاميركية في البلاد لأطول فترة ممكنة. ويشير تقرير المستشار الى ان الصوماليين لديهم تحفظات على قوات بعض الدول. فالمثقفون الصوماليون الذين أجبرهم نظام محمد سياد بري على الفرار الى خارج البلاد أو الاختباء داخلها يعارضون ايطاليا بشدة، ليس لأنها كانت تستعمر البلاد بقدر ما تعود هذه المعارضة الى التأييد القوي الذي منحته الحكومة الايطالية لسياد بري. ومعظم الصوماليين لديهم تحفظات على اثيوبيا عدوتهم التقليدية، وعلى مصر التي ينظرون اليها نظرة مماثلة لنظرة الدول الآسيوية الصغرى الى اليابان - أي انها دولة قوية ربما تعتبر الصومال ضمن منطقة نفوذها. وقد اتضح ذلك من خلال التظاهرات التي استقبلت الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي الذي يجمع لسوء حظه ما بين كونه مسيحياً ومصرياً. ويخشى زعماء الفصائل المتحاربة ومؤيدوهم أيضاً أي وصاية للأمم المتحدة. ولهذا فقد نظموا التظاهرات المعادية لبطرس غالي وبثوا مشاعر كراهية الأممالمتحدة في صفوف المواطنين الصوماليين العاديين. الا ان الدلائل تشير الى أن المثقفين المعارضين سيرحبون بمظلة الأممالمتحدة لفترة من الزمن لكي تسمح بنمو الديموقراطية. كذلك يلاحظ تقرير المستشار ان الصوماليين غير راضين عن جامعة الدول العربية التي غضّت الطرف لفترة طويلة عن المعاناة الصومالية ولم تفعل شيئاً. ويقول ان هناك قدراً أقل من الشك والارتياب في الدول الاسلامية التي لم يكن لها أي دور في الصومال في الماضي مثل باكستان وأندونيسيا وماليزيا. ويرى المراقبون ان كل هذا يشير الى استمرار الدور الاميركي الرئيسي في البلاد. وهم يرون أيضاً ان من السهل على كلينتون ان يقبل، كغيره من الرؤساء الاميركيين السابقين، حقيقة كون الولاياتالمتحدة دولة عظمى وينبغي عليها ان تقوم بدورها الطبيعي مع انه قد يعلن في وقت لاحق انه ليس في وسع اميركا ان تكون شرطي العالم. مفاوضات السلام لا شك في أن مفاوضات السلام العربية - الاسرائيلية التي لم تعط ثماراً حتى الآن ستكون ماثلة في ذهن الادارة الجديدة، كما انها ستكون اختباراً صعباً لها. وقال لپ"الوسط" مصدر مقرب من ليك: "من ناحية، تمثل "هدية" رابين للولايات المتحدة والعالم عندما طرد بصورة غير قانونية مواطنين من الأراضي المحتلة الى دولة اخرى غير راغبة في استقبالهم، دليلاً على ان اسرائيل تخلّت عن عملية السلام. ولكن من ناحية اخرى، يعرف الجميع ان معظم الاسرائيليين يريدون لعملية السلام ان تنجح، كما اننا نعرف ان جميع الوفود العربية في مفاوضات السلام تريد لها النجاح". وانطلاقاً من هذا التحليل فان من المؤكد ان مفاوضات السلام ستنجح بطريقة ما، يوما ما. فاسرائيل، حسب هذا التحليل، تريد الحصول على الاعتراف ضمن حدود آمنة، ولديها الثمن الذي تدفعه مقابل ذلك، أي الانسحاب من الجولان وتطبيق القرار الرقم 242 على الأراضي المحتلة من خلال صيغة كامب ديفيد. ومعنى ذلك الحكم الذاتي الذي يؤدي الى تقرير المصير وهو تعبير ملطف عن الاستقلال. وهناك اعتقاد بأن الاتفاق مع سورية يمكن ان يدفعها الى ان تصبح الضامن للحدود الاسرائيلية مع لبنان، الى أن يتم التوصل الى اتفاق بين اسرائيل وفلسطين مما سيجعل تلك الضمانة غير ضرورية. أما الاتفاق مع الأردن فهو سهل بمجرد قبول اسرائيل الاتفاق الفلسطيني. وبموجب هذا السيناريو فان المسألة ستكون بيد كريستوفر لكي يصوغ الحلول التي تمكّن جميع الأطراف من اعلان انتصارها والتوصل في نهاية الأمر الى حل لمشكلة القدس الشرقية. ولهذا من المتوقع ان يحاول كريستوفر ضمان استمرار المفاوضات في واشنطن، وأن يحاول أيضاً تعيين مساعد له. إلا ان هناك امكانية أيضاً لاجراء المفاوضات في مكان آخر، مثل جنيف أو مدريد أو نيقوسيا على أساس انها انسب لجميع الاطراف باستثناء الولاياتالمتحدة. ويعتقد المراقبون ان كريستوفر ربما يلجأ الى الاستفادة من فترة "شهر العسل" التي تتمتع بها عادة الادارة الاميركية الجديدة، لكي يلتقي مع ياسر عرفات ربما في الأممالمتحدة أو في باريس، بناء على دعوة من الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، او حتى في أي مكان آخر من أوروبا أو أي دولة عربية، ما عدا تونس حيث مقر عرفات. البوسنة والهرسك عندما غادر جيمي كارتر البيت الابيض قال ان هناك شخصين سيشعر بالسرور اذا ما واصلا العمل مع الرئيس ريغان وهما سام دونالدسون وهو مراسل تلفزيوني جريء متخصص في شؤون البيت الأبيض ومناحيم بيغن. وعندما قابلته في ولاية جورجيا بعد ذلك بعام سألته عن سبب ذلك فقال لي انه أوصى بدونالدسون لأنه كان يعرف ان المراسل سيقبل ذلك كنكتة، ولكي يخفف من غضب اللوبي الاسرائيلي ذكر اسم بيغن وحده. ومن هذا المنطلق ربما كان الشخص الذي يرغب جورج بوش في التوصية به للرئيس الجديد كلينتون هو سلوبودان ميلوسيفيتش الزعيم الصربي. فمن خلال البيانات الحذرة التي اصدرها كلينتون عن البوسنة يرى المراقبون انه يميل الى اعتبارها مشكلة أوروبية بالدرجة الأولى. وليس من المحتمل ان يقبل كريستوفر الوساطة فيها بعد رئيسه السابق سايروس فانس واللورد أوين. ومع ان هناك حاملة طائرات أميركية في البحر الادرياتيكي يمكنها ان تقصف الصرب اذا ما لزم الأمر، فان من المرجح ان يقول ليك وكريستوفر ان في وسع بريطانيا وفرنسا القيام بتلك المهمة. اما المشكلة الاقليمية الاخرى التي ستواجهها الادارة الجديدة فهي "التطرف الاسلامي". وفي صلب هذه القضية تقف ايران. ويبدو ان كل الذين لهم علاقة بصنع السياسة الخارجية في الادارة الجديدة مقتنعون بأن سياسة كلينتون في هذا الصدد لن تختلف كثيراً عن سياسة بوش. وبالنسبة الى ايران يرى المراقبون ان التحركات الأولية لاستئناف أية علاقات يجب ان تصدر عن طهران لا عن واشنطن، وهذا يعني ان واشنطن ليست في عجلة من أمرها.