تحوّلت مهرجانات التأبين وتكريم الادباء الراحلين مع سعيد عقل من الرثاء والمديح التقليديين، ومن نبرة البكاء والنواح الرتيبة المكررة، الى مناسبات ادبية بالمعنى الكامل للكلمة، تحمل جديداً على المستوى الشعري والابداعي. من تأبين الاخطل الصغير الى احياء ذكرى طه حسين في مهرجانه، مروراً بعمر فاخوري وخليل مطران وأحمد شوقي... كانت قصائد سعيد عقل، التي لا يلبث ان يتناقلها هواة الشعر على امتداد رقعة العالم العربي، تنطوي على أبعاد فكرية وجمالية فريدة. تستعرض "الوسط" في ما يلي بعض هذه المحطات. بين الفينة والاخرى، يعود سعيد عقل الى المشروع الغالي على قلبه، والذي ما انفك يدافع عنه معرضاً نفسه لأقسى الانتقادات، ألا وهو مشروع كتابة اللغة العربية بالحرف اللاتيني... "أية لغة - يقول الشاعر - يمكن كتابتها في أي حرف. الحرف للغة كالثوب للجسم، وهذه الاخيرة يمكنها ان تلبس اي ثوب، او ان تبقى عارية كما بقيت آلاف السنين قبل اختراع الحرف. من هنا تعبير "اللغة الكاسية" و"اللغة العارية". ثورة الحرف التي أدعو اليها موجهة الى العالم كله لا الى لبنان وحده. ففي الكثير من لغات العالم احرف تلفظها ولا صورة لها، وأحرف تكتبها ولا تلفظها. وأكثر من دولة سائرة في اتجاه تطوير لغتها على أساس تساوي الكتابة باللفظ". ويتابع سعيد عقل: "جميع حروف العالم على مسافة واحدة مني، لأنها ابنة الحرف الفينيقي. لماذا اعتمدت الحرف اللاتيني، مع انه معاق اكثر من أي حرف آخر؟ لانه، ببساطة، الاكثر استعمالاً في العالم، بسبب انتشار الانكليزية والفرنسية والايطالية والاسبانية والالمانية...". نسجل ملاحظات الشاعر ونظرته، ثم نعود مجدداً الى حديث الذكريات، والى استعادة المحطات الادبية المشرقة من حياته الحافلة. في المحاضرة الشهيرة التي القاها في روما ذات يوم من العام 1964، قال فؤاد افرام البستاني عن سعيد عقل: "حتى الذين يكبرونه، ممن كانت شهرتهم منتشرة في الاوساط الادبية قبله بكثير، تأثروا بأفكاره الجديدة وتجربته الشخصية". من "هؤلاء" الذين آمنوا بتجربة سعيد عقل الشخصية، الاخطل الصغير. وحين جمع قصائده التي اشتهرت في لبنان والعالم العربي ليصدرها في كتاب "شعر الاخطل الصغير" اصر ان يكتب مقدمته سعيد عقل. فكتبها وأعاد الوفاء للأخطل: "قبل ان يكون للشرق اداة سياسية تجمع، كان الشعر تلك الاداة، على انها مع الاخطل الصغير بلغت مبلغها. فإن وهنت وشائج بين نيل ورافدين، او تقطعت انفاس صبا بين نجد وأطلس، تألقت بيروت بمفاتن شعر، فاتلف شرق وشرقت بدموع الفرح عواصم. وللبنان، كان الاخطل الصغير سفيراً قبل العهد ببعوث تنطلق". عند صدور الديوان عام 1962 تنادى الادباء الى حفل تكريمي كبير في قصر الاونيسكو. ووجهت دعوات الى محمد مهدي الجواهري من العراق، وصالح جودت من مصر، وعمر ابو ريشة من سورية، وعبدالمنعم الرفاعي من الاردن، وذات يوم جاء ميشال اسمر مؤسس "الندوة اللبنانية" الى سعيد عقل طالباً منه ان يقول نثراً وان ينحصر حضور لبنان الشعري بقصيدة لأمين نخلة. ورضي سعيد عقل فألقى كلمة نثرية، وألقى امين نخلة قصيدته التي مطلعها: "أيقولون أخطل... وصغيرُ أنتَ في دولة القوافي أميرُ" "سيف على البطل" بعدها بفترة توفي شبلي الملاط وتقرر اقامة مهرجان له في قصر الاونيسكو كذلك. وفي جلسة التحضير كرر ميشال أسمر طلبه الى سعيد عقل ان يقول نثراً. فانتفض فؤاد افرام البستاني وعبدالله العلايلي ووجدي الملاط وأنطون قازان رافضين، وأصروا ان يقول سعيد عقل شعراً. وأردف البستاني يومها: "مؤخراً أعلن طه حسين في تصريح له ان الشعر انتقل الى لبنان، اذا لم تقل شعراً في المهرجان قد يتراجع طه حسين عن كلامه". ويومها ألقى سعيد عقل قصيدته التي مطلعها: "سيفٌ على البُطل ام شيماتُكَ الحُرُمُ يا شعرُ خلّد وسيفٌ ذلك القلمُ" وعندما غاب الاخطل الصغير عام 1968، ألقى سعيد عقل في حفل تأبينه في الاونيسكو قصيدة سارت في الناس فحفظوها بيتاً بيتاً، وتبدأ كالآتي: "لا مذ بكيتُك، لكن قبل، مذ سكتتْ يراعةٌ لكَ، قلّ الهمُّ في الغصنِ" ثم كان مهرجان أمين تقي الدين، وقصيدة سعيد عقل فيه، ومطلعها: "تصبّاك شعري، قلتهُ قمم المجدِ؟ سلامٌ عليه السيف أُعجب بالغِمدِ" وبعده كان مهرجان انطون قازان فقال فيه سعيد عقل: "داو شعري اليوم، ها شعري كئيبُ غصن شُرِدَ عنه العندليبُ" ثم أقيم مهرجان لصديقه القديم عمر فاخوري، فوفاه حقه، قال: "ببالي مرَرْتَ اليوم فليتشعل بالي كأنك قصفُ الرعد في الجبل العالي" وكان يوم نهرو، وقصيدة سعيد عقل فيه: "كالهند سرُّ الهند أنت وكالنهى أو تنتهي... وإليكَ كان المنتهى؟" وفي بعلبك رثى خليل مطران: "ما الموت؟ شمخة رأس منك تفتقد واسلم بباقة شعر عطرها الأبدُ" ولما جاء دور احمد شوقي، ألقى سعيد عقل في زحلة قصيدته التي اثارت جدالاً حاداً، ومما جاء فيها: "على اسمك فوق الحور أغوى وأهدُرُ انا النهر، شوقي، أيّنا اليوم أشعرُ؟" وفي زحلة كذلك كان يوم شفيق معلوف: ً"رصَّعت بالي وعُمري ازهُرٌ نضُرُ كما يرصّعُ ليلَ العاشقِ القمرُ" وهكذا انتقلت قصيدة المهرجانات مع سعيد عقل، من مجرد مدح المحتفى به او رثائه، الى شعر يحوي الغزل والجمال والمجد. وهكذا، مع سعيد عقل، خرجت قصائد تكريم الذكرى عن الرثاء العربي الحافل بالنواح والبكاء. ولذلك كانت قصيدته في كل مهرجان هي عروس المهرجان. وكما في لبنان كذلك في مصر التي دعي مرتين اليها في مهرجاني عزيز اباظة وطه حسين. كلاهما بدعوة من وزير الثقافة عهدئذٍ يوسف السباعي، وفي المناسبتين كان الشاعر اللبناني حديث المهرجان. في مهرجان عزيز اباظة، فيما كان عبدالمنعم الرفاعي يلقي قصيدته، صرخ احدهم من القاعة: "الله يا أمير الشعراء" فأجابه الرفاعي عن المنبر: "أرجوك. نحن في حضرة سعيد عقل". وخلال ايام المهرجان تلقى سعيد عقل كرئيس الوفد اللبناني، دعوات من ستة وزراء لباها ثم دعاهم جميعهم الى مأدبة شكر، مشيراً اليهم ان الحفلة ستكون في رعاية توفيق الحكيم. اعترض محمد حسن الزيات وكان يومها مستشاراً للسادات لافتاً نظر الشاعر اللبناني الى ان البروتوكول المصري حازم في هذا الامر، اذ لا يجوز ان تقام حفلة يحضرها وزير ويرأسها أديب. الصدارة يجب ان تكون للسياسي ولو كان موظفاً بسيطاً وكان الأديب عظيماً. استغرب سعيد عقل وأجاب: "لا يمكن لكم جميعاً ان تتصدروا حفلة يحضرها توفيق الحكيم". قال الزيات: "فليحلّها السباعي. اذا هو رضي، انا اقنع الرئيس السادات". ولم يكن ذلك صعباً، فكلاهما على صداقة وطيدة بسعيد عقل. السباعي كان يزوره كلما زار بيروت ويمضيان معاً وقتاً مثمراً. والزيات، وهو صهر طه حسين، كان يدين لسعيد عقل بأمرين: الأول يوم فاتح الزيات سعيد عقل بأمر حسن الزين صاحب "دار الكتاب اللبناني" الذي اصدر مؤلفات طه حسين في خمسة اجزاء وكان الاتفاق ان تصدر في أربعة، فاتصل الشاعر اللبناني بالزين وطلب منه دفع حقوق الجزء الخامس. وفي المرة الثانية دعا سعيد عقل صديقه الزيات الى بيروت للتفاوض بتحويل رائعة طه حسين "الأيام" الى اوبريت للأخوين رحباني، تكون فيها فيروز روح مصر التي يناجيها طه حسين في سويعات أزماته النفسية، فتظهر عليه وتسعفه على تفريج حزنه. غير ان مرض عاصي الرحباني الغى المشروع. وعندما اتصل سعيد عقل مفاتحاً السباعي بأمر تصدر حفلة العشاء. قال هذا الاخير مستهجناً: "هذه سابقة لم يحدث لها مثيل في مصر من قبل. لا اظن الرئيس السادات يرضى بها"، فطمأنه الشاعر اللبناني الى ان الزيات لا يمانع اذا رضي السباعي. ولدى اصرار سعيد عقل على الامر، رضخ السباعي وحضر المأدبة وجاء الزيات والوزراء الأربعة الآخرون. كان ذلك في فندق "الشيراتون". وخلال المأدبة، بعد كلمة ترحيب من صاحب الدعوة الذي اعلن انها في رعاية توفيق الحكيم، وقف هذا الاخير متهدجاً بثمانينه وارتجل كلمة جاء فيها: "أنتم جميعاً هنا عزيزون عليّ كأولادي. وبهذه الدالة اسألكم كما يسأل الأب ابناءه: "أكان من الضروري ان يجيء سعيد عقل من لبنان الى مصر حتى القى هذا التكريم"؟ ان هذه الظاهرة اليوم تساوي لديّ اعز ما عرفت في حياتي. لقد تلقيت دعوات من المقاصد الاسلامية والجامعة الاميركية كي ازور بيروت، وكنت اعتذر عن تلبية الدعوة. اما اليوم فأعلن امامكم انني سأزور بيروت اذا تلقيت دعوة لزيارتها من سعيد عقل. كنا استمعنا قبل أيام الى قصيدته الرائعة التي جاء فيها: "إن لم نزِنْ مِصر وزن الحق يبق دمٌ على الضمير ويبقى أن يُراق دمُ" وأتمنى على الرئيس السادات ان ينقل بيت سعيد عقل الشعري هذا الى لغات العالم الحية ويذهب به للمفاوضة في الأممالمتحدة. وفي اليوم التالي، دعا توفيق الحكيم الوفد اللبناني الى زيارة مكتبه في "الأهرام" حيث هيأ له محررو الجريدة وكتّابها استقبالاً حافلاً، وبينهم بنت الشاطئ التي طلبت ان يزور سعيد عقل مكتبها ولو لدقيقة واحدة. وكذلك طلب الكاتب كمال الملاخ الذي كان ثاني ايام المهرجان كتب في زاويته على الصفحة الاخيرة من "الأهرام" مقالاً بعنوان: "سعيد عقل فيلسوف لبنان يهز مصر بقصيدته". اما علاقة سعيد عقل بطه حسين فترقى الى زمن بعيد، ايام كان الشاعر اللبناني شاباً ويزور اخواله في منطقة الزمالك حيث بيت طه حسين، فيجلس ويأنس واحدهما الى افكار الآخر الطليعية. ومهرجان طه حسين اقيم في القاعة الكبرى لمبنى جامعة الدول العربية. وأعطي الوفد اللبناني صدر القاعة. في الليلة الاولى دخلت سوزان، ارملة طه حسين، وابنتها زوجة حسن الزيات الى القاعة، برفقة وزير الثقافة، وفي سائر الامسيات كانت تدخل القاعة مصحوبة بشخص من الوفد اللبناني ينتدبه رئيسه سعيد عقل، وحين تغيب الوفد اللبناني ذات امسية، اتصل السباعي ليلاً بسعيد عقل راجياً اياه عدم التغيب "كي لا يرتبك المهرجان في غياب شاعر لبنان". وغالباً ما كان عبدالمنعم الرفاعي، رئيس وفد الاردن، يغادر مقصورة وفده ويأتي للجلوس مع سعيد عقل في مقصورة الوفد اللبناني. خلال ايام مهرجان طه حسين، كان ينص البرنامج على ان تزور الوفود بيت طه حسين "رامتان" في منطقة الاهرامات. وصلت الوفود الى مدخل المبنى الذي استحال اليوم متحفاً وانتظرت في الخارج، الى ان قالت ابنة طه حسين: "والدتي لن تبدأ باستقبال الوفود الا عند حضور وفد لبنان". وهكذا كان. ويومها، بعد زيارة البيت، كان في البرنامج زيارة ضريح طه حسين وقراءة الفاتحة، فاعتذر سعيد عقل من سوزان طه حسين لانه لا يحب زيارة القبور. سوى انها اصرّت عليه الا يغيب الوفد اللبناني، فلم يرفض لها الطلب. وبقيت الصحافة المصرية اياماً بعدها تنشر تعليقات ومقالات حول مهرجان طه حسين، وتشير، في وضوح لافت، الى ما تركته في نفوس المصريين قصيدة شاعر لبنان. الاسبوع المقبل: الحلقة التاسعة من قصيدته في عزيز أباظة شِعرٌ ولا أنت؟ في بدي انضنى ألمُ عملاق مصر، تطلّعْ، وانحنى هرمُ اثنان اهواهما: نبلٌ بشعرِك لم يتعبْ... ولبنان منه تتعب الأممُ حُمِّلْتُ غصناً من الارزِ استظلّ به او رعمسيس او الوفاد من عظُموا او مَن نماهم ثرى لبنان، مبتدعُ البُدّاع مَن نثروا الدنيا ومن نظموا عملاقَ مصرٍ، قوافيك الكبار بنا بِنُبْلِها ما يزال الارزُ يتّسمُ ان شاعرٌ هامَ بالنيل انتشت قممٌ في أرضنا، او تصبّى، مادتِ القممُ ما لم نَزِن مصرَ وزنَ الحقّ يبقَ دمٌ على الضمير ويبقى أن يراق دمُ عملاقَ مصرٍ، اذا أعوِزْتَ في خُلُد فضمَّ من خُلدنا ما شاءت الضُمَمُ من زهرِ لبنانَ خذ عرشاً ومن قيم لا زهرُ لبنانَ منّان ولا القيمُ من قصيدته في طه حسين ذكراك في البال! ما ذكراك؟ قل ضُربا على هوى الرعد سيف أشعلَ السُحُبا والليل وحدكَ تدري أين منبعُهُ وكيف كان... وكان الله ما وهبا من واكبوك ومن ظلوا العجاج بهم بنيتَ مصرَكَ واستنبتّها القُببا ومصر ثنتان: ما أحييت أنت... وما الهمتَ! هذي وتلك الفكر منتسِبا ومصر من علّمت... لا البدعُ تكتُمُه عنهم، ولا خاطرات كالسيوف شَبا في الصوت في الموت! ها أنت العظيمُ! ألا افتحْ مقلتيك عليك استبعد الريبا آتٍ معي زهرُ لبنانٍ وكنتَ صدى لثورة في بنيه تنزلُ العصبا انزل بما ضجَّ في لبنان من ولهٍ بالكِبر لم ينجرح، بالورد ما انتهبا تكنْ نزلت ببعض الصخر من جبلٍ له على المجد فضلُ المجد إن صعبا هتفتُ باسمك، ما لقّبت... لي عذري من ذا يلقّبها - إلا بها - الشُهُبا؟ طه حسين ويكفي! ذاك منتهجي انا كما السيف طلقاً أنزل الكُتُبا