لمطالع القصائد مكانة خاصة عند الشعراء العموديين. فرب مطلع قوي معبر أو مجلجل ساعد القصيدة على ان تدخل إلى قلوب ملتقيها، وان تبقى في ذاكرة الشعر في آن، في حين كان المطلع الضعيف في قصيدة أخرى سبباً من أسباب اهمالها وعدم ذيوعها رغم الجمال الذي قد تنطوي بعض أبياتها عليه، وعلى مدار القرن العشرين الذي عرف فيه شعر العمود ازدهاراً كبيراً وبخاصة في نصفه الأول، كان الشعراء يولون مطلع القصيدة عناية كبيرة وكأن هذا المطلع نصف نجاح قصيدتهم، ان لم يكن أكثر. يستفاد هذا من تتبع سير الشعراء وحديثهم الدائم عن «مطلع» تعثر، و«مطلع» آخر توفق، حتى كأن الله قذفه في صدر لكل من قائله ومع ان الشاعر اللبناني سعيد عقل كان في بداياته الشعرية حريصاً على ان يكون شاعراً حديثاً بعيداً كل البعد عن شعر المطالع أو شعر المناسبات، إلاّ أنه مع الوقت تعاطى هذا الشعر، فرثى ومدح وشارك في حفلات تكريم، أو تغنى بمدن وبلدان مما لم يكن يلجأ إليه في البدايات. ففي البدايات كانت «بنت يفتاح» و«المجدلية» و«قدنوس» التي كانت في عداد الشعر الخالص المقصود لذاته، البعيد عن المنابر والمناسبات. ولكن كتاباً جديداً صادراً في بيروت من الشاعر يعيد إلى الذاكرة سعيد عقل شاعر المطالع المجلجلة الصاخبة وشاعر المبالغات في الوقت نفسه وهي عادة عبارات متآخية، متصالحة في قصيدة المناسبة. الكتاب الجديد عنوانه «سعيد عقل إن حكى» هو عبارة عن حوارات مع الشاعر أجراها الشاعر هنري زغيب الذي حلل هذه الحوارات وأرفقها بنماذج من شعر سعيد عقل في الفصحى والعامية على السواء. وقد سرد بعضاً من «مطالع» الشاعر التي بامكانها وحدها ان تدل عليه وان تبعث من رقاد الزمن الماضي ذكريات ومواقف كان لها شأنها سواء في عمر الشعر أو في عمر الوطن في آن. والطريف ان سعيد عقل الذي قدم نماذج رائعة في فن الغزل في «اندلي» وفي سواه من دواوينه يقدم في شعر المناسبات أيضاً نماذج رائعة فيه. فها هو يقول في مطلع قصيدة لمناسبة نيل الروائي الروسي شولوخوف جائزة نوبل للآداب سنة 1965م. ولدت سريري ضفة النهر فالنهر تآخى وعمري مثلما الورد والشهر وكان أبي كالموج يهدر، مرة يدحرج من صخر، وآنا هو الصخر وقد علماني الحق؟ ما الحق؟ دفعة كما السيل عنه انشق واخضوضر القفر وفي الذكرى الأولى لغياب الأخطل الصغير (سنة 1969م) ألقى سعيد عقل قصيدة كان مطلعها: لا مذ بكيتك، لكن قبلُ، منذ سكتت يراعة لك، قل الهم في الغصن وقال في مهرجان الشاعر أمين تقي الدين قصيدة مطلعها: تصباك شعري، قلته قمم المجد سلام عليه السيف أعجب بالغمد وبعده كان مهرجان انطون قازان، فكان مطلع قصيدة سعيد عقل: داوِ شعري اليوم ها شعري كئيب غصن شرد عنه العندليب ويقام مهرجان لصديقه عمر فاخوري فيلقي سعيد عقل قصيدة مطلعها: ببالي مررت اليوم فليشتعل بالي كأنك قصف الرعد في الجبل العالي وكان يوم جواهر لال نهرو، زعيم الهند، وقصيدة الشاعر كان مطلعها: كالهند سرُّ الهند أنت، وكالنهى أو تنتهي.. واليك كان المنتهى! وفي يوم خليل مطران في بعلبك: ما الموت؟ شمخة رأس منك تفتقد واسلم بباقة شعر عطرها الأبد وكان يوم أحمد شوقي في زحلة واندلعت قصيدة سعيد عقل التي اشعلت جدلاً: على اسمك بين الحور أغوى وأهدر انا النهر، شوقي، أيُّنا اليوم أشعر؟ وفي زحلة أيضاً كان يوم شفيق المعلوف صاحب «عبقر»: رصّعت بالي وعمري أزهر نضر كما يرصع ليل العاشق القمر وفي مصر يرثي عزيز أباظة: شعر ولا انت في بالي انضنى ألم عملاق مصر، تطلع وانحنى هرم اثنان أهواهما: نبل بشعرك لم يتعب، ولبنان منه تتعب الأمم ويقول في حفل آخر لتكريم توفيق الحكيم: إن لم نزن مصر وزن الحق يبق دم على الضمير وببقى ان يراق دم وفي مهرجان لطه حسين يقول قصيدة مطلعها وما يليه: ذكراك في البال؟ ما ذكراك؟ قُلْ ضربا على هوى الرعد سيف أشعل السحبا والليل وحوك تدري أين منبعه وكيف كان، وكان الله ما وهبا ومصر ثنتان: ما أحييت انت وما الهمت هذي وتلك الفكر منتسبا آت معي زهر لبنان وكنت صدى لثورة في بنيه تنزل العصبا انزل بما ضج في لبنان من وله بالكبر لم ينجرح، بالورد ما انتها تكن نزلت ببعض الصخر من جبل له على المجد فضل المجد ان صعبا متفت باسمك مالقبت، لي عذري من ذا يلقبها - إلا بها - الشهبا طه حسين ويكفي! ذاك منتهجي أنا كما السيف طلقاً أنزل الكتبا! تبقى مطالع قصائد أخرى كثيرة في باب المناسبات منها قصائد ذات مصير حزين. لم يلق الشاعر هذه القصائد على المنبر لأسباب مختلفة، ولم يكتمل بعض هذه القصائد أيضاً، فبقيت ناقصة ولكن مطالعها كانت منجزة من هذه القصائد قصيدة كان يعتزم القاءها في حفل يقام في بيروت لتكريم الشاعر أمين نخلة. يقع حادث أمني كبير في بيروت فيُلقى الحفل. ثم يموت أمين نخلة بعد ذلك فلا يكمل الشاعر قصيدته، ولكن القصيدة تعتبر من عيون شعره، وما كتبه منها هو التالي: بيني وبينك لا عرش ولا تاج قم نرتق الخلد، شعري اليوم معراج من بايعوا، بايعوا. ما هم، تنصرهم ياذا الفقار الذي في ظله ماجوا الله فنُّك! سيف سل! لم يره باب الخواطر إلا انزاح مزلاج يهتز في اللمع أو في القمع لا عجب لوحده الثبت يوم الشرق رجراج وعيته قل انا أُرقصتُ واطربي كالبن يرقصه في الدق مهباج افكارك؟ اختل معي وعد بمعصية لمنهج يوم لا إلاك نهّاج وكتب في الشاعر صلاح لبكي قصيدة كان يعتزم القاءها في مهرجان يقام لذكراه ولكن المهرجان لم يقم. ومن قصيدته هذه: لا. ما حببتك حب السيف شكته لقوله منك بي هزت غدي طربا ان راح ينشر هذا ما رواه لنا رحنا نكسرها أقلامنا أدباً وكنت بعد كأن طفلاً فأنبت لي هذا الكلام جناحي عزة وابا ولا لهذي لا، لكن حببت أنا حببتك الحب عذبا مره عذبا لأن فلذة شطر منك طار بها لهيب لعب حبتني اللعب واللهبا ففي كتاب لك احلولى قرأت انا قوس الغمام وميس الخصر منسكبا ومن مطالعه هذا المطلع من قصيدة له في مدينة صور: تروا بصور لهم سيف أما رهبوا؟ يا سيف صور احتمل لا تسّك الغضب انها مطالع ومقاطع من قصائد ذات طابع كلاسيكي محض يعيد فيها سعيد عقل إلى الذاكرة عصورا كانت فيها «قصيدة المناسبة» الناجحة، فضائية تلك الأيام. شارك سعيد عقل في ذلك العصر بكل تقاليده الشعرية، مدح ورثى، وكثيراً ما كان يمدح نفسه أيضاً في الوقت الذي كان يمدح الآخرين أو يرثيهم. بل انه يبرر ما يفعله بكون الممدوح قد أشاد به في السابق. من ذلك ما يقوله في رثاء الشاعرين أمين تقي الدين وصلاح لبكي. بل انه في يوم تكريم شوقي في زحلة يسأل شوقي من هو الأكثر شاعرية من الآخر، أهو أم شوقي؟ وهذا من أعجب ما يقرؤه في شعر الشعراء. وهي مطالع وقصائد حبلى بالمبالغات كما نرى. وكثيرا ما يتكرر فيها المعنى كما يتكرر اللفظ. والمؤسف ان الشاعر الذي أخذ على الأخطل الصغير، وهو في مستهل حياته، أنه شاعر كلاسيكي وشاعر مناسبات يتكئ في قاموسه الشعري على معان ومفردات جاهلية وعباسية، وقع بعد ذلك في المحذور الذي نهى عنه وحمل عليه. هذا دون ان ينكر أحد عليه إضافات وتجديدات كثيرة في إطار الشعر. وقديماً قال الشاعر: خذ ما صفا.. دع ما كدر!