"تكاد تخامرني لهجة الموت ارثيك يا امرأة ثكلتك المسافات، يا امرأة قلت للبحر يوماً: تعال... اكبدك الزمن المستحيل وللريح قلت: تعالي امارس فيك شعائر حزني وحزن القصيدة! أأرثيك يا امرأة يتغطرس حزنك حين تداهمه صبوة الروح؟ ارثيك... أقرع ريحاً مضرجة بالسواحل، اغمد جرح المدينة، يعتنق الاحتمالات، أظمأ... انتهك الشرفات الجديدة ماذا اسمّيك يا امرأة بين عينيك واللغة المستحيلة تجنح بالسندباد المحيطات... ماذا اسمّيك يا امرأة يتقاسمك الموج والهذيان؟ اسميك فاتحة الغيث أم هاجس الصحو يا مزنة أوجزت صخب العشب وافتتحت للهواجر ظلا... أسميك قارئة الرمل، عرّافة العشق؟ أفضح غيمك للسماوات أفسر صمتك للشاطئين..." 1 أروع اللحظات هي تلك التي تأتي فجأة... ندرك من خلال هالاتها الذهبية اننا قد عبرنا منا... الينا...! اننا ننظر في اعماقنا مباشرة في لحظة صدق واع الفت اي قناع يفصلنا عنها... واننا نحب ما نرى... اننا لا نقف عند ابواب الكهوف بين الشمس والظل نتساءل هل ندخلها لنتأمل جمال نقوش الصخر الازلية، وان لنا ان نفتح صدورنا لنسمع اصداءها دون ان نتصبب خجلاً وخوفاً وندماً... في تناقضات ازماننا... لا نتمسك بالاقنعة... كل تلك التفاصيل التي يتشبث بها الآخرون يحتمون بها من وطأة المعرفة الاخيرة... يتلاشى نقاء اعماقنا.... يتلوث بأصباغ الاقنعة... فلا يرى الآخرون الا تلك الملامح المرسومة... لماذا نتمسك بالاقنعة...؟ خادعة كما هي؟ خانقة كما هي؟ لانها الدرع الذي نظنه يحمينا من احتمالية عدوانية الآخرين! هي ما يحمي الطفل بأعماقنا من امتحان ضعفه في مواجهة تهجم الآخرين. تلك اللحظة التي نقف فيها بين الظل والضياء، يملأنا الخوف ان نرفع الستار الاخير... هي اصعب لحظات العبور. نقف عند نهر الشعور الذي يتدفق فينا... نرى صورة القناع مرتسمة في مراياه، لا تمثلنا... لا تمثل طفولتنا النقية... لا تعبر عن تعطشنا لاحتواء الفرح... لا تعبر عن دموع الرغبات التي لم تتحقق منذ خطانا الاولى... مدى شوقنا ان نكون نحن والذات في اعماقنا صيغة اخرى... وفضاء واحداً يتقبله الآخرون بصدق وحنان. تعبر فقط عن مدى خوفنا من ان تكون اي حركة من الآخرين خطوة موجهة لاغتيال طمأنينتنا وثقتنا في احتمائنا بهم. هي تلك اللحظة الصعبة...! نتساءل فيها هل نزيح الاحجار... نفتح الابواب... لتتهاوى الاسوار والجدران... ويضج الفضاء بلغة الصمت الحنون...؟ حيث اللغة لا تتراجع الى ترويض الحروف... والشعر ينعتق بالشعور؟ نعيش امتدادات الانتباه لوجود ازلي لا يتأثر ابداً بكل التفاصيل الهامشية التي تحددها اوراقنا الثبوتية... هويتنا الخارجية... قشور ملامحنا... والخطوات المحسوبة لأقدامنا؟ فضاء... نحن فيه الآخرون في اعماقهم... وهم نحن في اعماقنا...؟ حين يصبح السفر رحلة متواصلة من الفرح... والرحلة لحظة وصول لا تنتهي... والتواصل التحام خالٍ من التوجس والتردد والتراجع الى ما وراء الاقنعة... يصبح للكلمة معنى... وللصمت مذاق الحوار... وللابتسامة دفء التآخي... 1 قصيدة الحزن للشاعر السعودي محمد الثبيتي / الملحق الثقافي - عكاظ 9488/20 تموز يوليو 1992.