العلاقات السعودية - الأمريكية: احترام التاريخ والتعاون    "عبدالله بن فهد" يتوج الفارس السعودي "السالمي" بلقب كأس خادم الحرمين الشريفين للقدرة والتحمل في العُلا    وزير الرياضة يستقبل رئيس الأولمبية الدولية في الرياض    جوارديولا يسخر من حكام الدوري الإنجليزي بعد إصابة نيكو جونزاليس    شركة اليسر راعيًا ذهبيًا في مؤتمر ليب 2025    الصين تعلن اكتمال بناء أكثر من 30 ألف مصنع ذكي    تضم 24 وزيراً.. حكومة نواف سلام تبصر النور    إزالة 270 موقعًا عشوائيًا شمال بريدة    برنامج ماجستير لتمكين الكوادر الوطنية من قيادة القطاع السياح    1383 حالة ضبط للمنوعات بالمنافذ خلال أسبوع    وزير التعليم يكرم المعلمة اللحياني    تخصصي تبوك يكرّم الموظفين والأقسام المميزة    القبض على 6 مخالفين لنظام أمن الحدود لتهريبهم 95 ألف قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    القتل تعزيراً لأمير زاده لتهريبه الهيروين    هل تنجح المساعي الأفريقية في حل أزمة الكونغو الديمقراطية؟    الأمير تركي بن هذلول يفتتح مهرجان «الرقش النجراني» لعام 2025    أمير القصيم يشيد بتميز مهرجان الكليجا ال16 ويؤكد دعمه للحرف التراثية    روسيا: تخفيض سعر صرف الروبل أمام العملات    الإفراج عن 183 أسيرًا فلسطينيًا ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    ترمب: سأفرض رسوماً جمركية على دول كثيرة    «الداخلية»: ضبط 21 ألف مخالف للأنظمة في مناطق المملكة خلال أسبوع    ترقية م. بخاري في هيئة الإذاعة والتلفزيون    علاجات السمنة ومضاعفاتها تكلف المملكة سنوياً قرابة 100 مليار ريال    الدكتوراه ل«السهلي»    المنتدى السعودي للإعلام يستقطب شخصيات عالمية في نسخته الرابعة    ماتياس: لهذا السبب استبعدت «فيرمينيو»    انخفاض درجات الحرارة ورياح نشطة مثيرة للأتربة على عدة مناطق في المملكة    تحويل منزل فيروز «القديم» متحفاً في لبنان    أمريكا: العثور على الطائرة المفقودة في ألاسكا ومقتل جميع ركابها    24 مليون مشاهدة تجسد تأثير كريستيانو رونالدو    جون دوران يدخل تاريخ النصر    انطلاق بطولة VEX IQ لصُنّاع المستقبل في تصميم وبرمجة الروبوتات    الهلال يُحافظ على سالم الدوسري    جوجل تضيف علامات مائية خفية للصور للكشف عن التعديلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي    ترودو يدعو إلى أخذ تهديد ترامب بضم كندا على «محمل الجد»    إيمري يتطلع للتحدي الضخم بإعادة ماركوس راشفورد لمستواه    جامعة أمِّ القُرى تستضيف الاجتماع التَّشاوري الثَّامن لرؤساء الجامعات    الوحدة يُعلن عن تعرض أنظمة الشركة المشغلة لمتجر النادي ل «الاختراق»    إنجاز أكثر من 80% من مشروع الطريق الدائري الأوسط في الطائف    تتويج السعودي آل جميان بلقب فارس المنكوس        أمير القصيم يهنئ تجمع القصيم الصحي بفوزه بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية 2025    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    "تعليم الرياض" يتصدرون جوائز معرض " إبداع 2025 " ب39 جائزة كبرى وخاصة    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر فصولاً من كتاب اميركي جديد يكشف اسراراً مهمة عن الشرق الاوسط - مبارك طلب من اميركا مساعدة العراق ضد ايران ... وبغداد لعبت دوراً في التمهيد لغزو لبنان . "واينبرغر حذر ريغان من محاولات اسرائيل لابعاد اميركا عن العرب" 5
نشر في الحياة يوم 19 - 04 - 1993

تكشف الحلقة الخامسة من كتاب المسؤول الاميركي السابق هاوارد تايشر، الذي حصلت "الوسط" على حقوق نشره باللغة العربية قبل صدوره ونزوله الى الاسواق، معلومات مهمة عن عملية غزو اسرائيل للبنان وعن حقيقة "الضوء الاخضر" الاميركي لهذه العملية، وأيضاً عن دور العراق في محاولة اغتيال سفير اسرائيل في لندن، وهي المحاولة التي مهدت لغزو لبنان عام 1982. كما تكشف هذه الحلقة معلومات جديدة ومهمة عن طلبات قدمها الرئيس حسني مبارك الى الاميركيين لدعم العراق في حربه ضد ايران. وهاوارد تايشر هو مسؤول اميركي سابق عمل في وزارة الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي الاميركي في عهدي الرئيسين جيمي كارتر ورونالد ريغان وساهم في التخطيط للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط. وكان اول منصب تسلمه تايشر هو محلل لشؤون الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاميركية في تموز يوليو 1977 في عهد كارتر، ثم تسلم بعد ذلك مناصب ومسؤوليات عدة ابرزها منصب مدير شؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا ثم مدير الشؤون السياسية والعسكرية في مجلس الامن القومي في الفترة بين 1982 و1987. وقام تايشر بمهمات سرية وعلنية عدة في الشرق الاوسط، سواء في ايران او لبنان او مصر او سورية او اسرائيل او دول اخرى. ويرئس تايشر منذ 1989 شركة كومبيوتر، كما انه يعمل كمستشار لعدد من الشركات والدول في العالم. وقد ألف هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "الركيزتان الأساسيتان لعاصفة الصحراء" بالتعاون مع زوجته غايلي وهي خبيرة في القضايا الدولية ومكافحة الارهاب. وقد حصلت "الوسط" على حق نشر ابرز فصول هذا الكتاب وهو عبارة عن مذكرات تايشر، قبل اسابيع من صدوره في الولايات المتحدة. وما يهمنا من نشر الكتاب هو كشف المعلومات الواردة فيه من دون ان يعني ذلك تأييد مضمونه. وفي ما يأتي الحلقة الخامسة من هذا الكتاب:
أراد روبرت ماكفرلين مني ان اصبح مساعداً خاصاً له. لكن مستشار الرئيس ريغان لشؤون الامن القومي كلارك قرر ان يعينني في مديرية شؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا في مجلس الامن القومي في البيت الابيض. وكنت اتوقع ان تمر الاشهر الثلاثة التي سأقضيها في وزارة الخارجية ببطء. الا ان الاحداث اللبنانية والزيارة الرسمية التي قمت بها الى لندن مع السفير المتجول فيرنون والترز ضمنت لي الانهماك الكلي وعدم الراحة. وكان ماكفرلين تلقى مكالمة من ديفيد كيمحي يهنئه فيها على تعيينه نائباً لمستشار شؤون الامن القومي ويستفسر عن الحوار الاستراتيجي من خلال القنوات غير الرسمية. ورد ماكفرلين على كيمحي بأن ابلغه ان مسؤولية الحوار عبر تلك القنوات ستصبح من شأن نائب وزير الخارجية المعين حديثاً لورانس ايغلبيرغر. كان ذلك في آذار مارس 1982.
في مطلع نيسان ابريل 1982 قرر الرئيس ريغان ارسال نائب وزير الخارجية والتر ستوسل الى الشرق الاوسط للقيام برحلات مكوكية بين القاهرة وتل ابيب من اجل تسوية الازمة السياسية بشأن الانسحاب الاسرائيلي من سيناء والنزاع على الشريط الساحلي المعروف باسم طابا. وكان ستوسل طلب من كلارك اقتراح احد اعضاء مجلس الامن القومي للانضمام الى بعثته الديبلوماسية، فتم اختياري.
اصبح الوضع الدولي متوتراً منذ اوائل شهر نيسان ابريل 1982، فبالاضافة الى الازمة المتعددة الجوانب في الشرق الاوسط كانت بريطانيا والارجنتين تستعدان للحرب بسبب جزر الفولكلاند. وكان وزير الخارجية الكسندر هيغ نفسه يتردد على عاصمتي الدولتين في محاولات فاشلة لحل النزاع بطريقة سلمية.
وتوقف فريق ستوسل في لندن ليستشير هيغ ويتلقى تعليمات بشأن النزاع المصري - الاسرائيلي. وأبدى هيغ هدوءاً تاماً وقال لستوسل انه واثق من امكان اقناع اسرائيل باكمال انسحابها من سيناء من دون تأخير. اذ كان ضرورياً من وجهة النظر الاميركية ان يكتمل الانسحاب من دون اي تأخير بغض النظر عن طول المدة او قصرها، لأن اي تأخير سيعقد الديبلوماسية الاميركية وسيقوض "السلام البارد" الذي نشأ بين مصر واسرائيل.
وكان فرنون والترز، وهو جنرال متقاعد حاز على العديد من الأوسمة ويتكلم بطلاقة ثماني لغات، يعرف الارجنتينيين جيداً كما كان يؤيد ديبلوماسية هيغ. وأثناء وجودي في لندن تناولت طعام العشاء مع والترز وبحثنا الازمتين. وقال والترز: "ان الحرب محتومة في جزر الفولكلاند لأنه ليس لدى اي من الطرفين اي استعداد للتنازل. ويبدو ان الوضع في لبنان مماثل. فالمسألة مسألة وقت". ووافقت معه على هذا الرأي على رغم تفاؤل المبعوث الاميركي فيليب حبيب واصراره على ان الديبلوماسية ستحل الازمة اللبنانية.
ولدى وصولنا القاهرة اطلع ستوسل الرئيس مبارك على نتائج محادثاتنا في القدس. وبعد ان امضى مبارك بعض الوقت في التشاور مع مساعديه، التفت الى ستوسل وأثار على غير توقع مسألة الحرب العراقية - الايرانية المستعرة. وصمت ستوسل لوهلة ثم استدار نحوي طالباً رأيي. وعندها لخصت الوضع الراهن عن ضعف الدفاعات العراقية في وجه الهجمات الايرانية المضادة وقلت انني متأكد ان الحكومة المصرية لديها من المعلومات عن الوضع العراقي اكثر مما لدى الولايات المتحدة. وأضفت القول ان الولايات المتحدة تشعر بالقلق من المضاعفات التي يمكن ان تترتب على انهيار العراق وما قد ينجم عن ذلك من اضرار تنعكس على مصالحنا في المنطقة، كما اننا نشعر بالقلق من الجهود السوفياتية المتواصلة لكسب النفوذ في ايران.
وأجاب مبارك بقوله انه يشعر بالقلق ايضاً من النكسات التي أُصيب بها العراقيون في الحرب. ومع ان العراق كان يتزعم جبهة الرفض ضد معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية فانه كانت هناك علاقة قوية بين العراق ومصر. وحذر مبارك من ان هزيمة العراق ستكون بمثابة "كارثة"، ثم مضى يقول بصوت تشوبه العاطفة: "ان على اميركا ان تقدم المساعدة الى العراق لكي توقف الايرانيين". وقلت له ان الولايات المتحدة لا تستطيع تقديم المساعدة الى العراق مع ان اسمه حذف من قائمة الدول التي تساند الارهاب الدولي. كما قلت ان العراق لا يستطيع شراء المعدات العسكرية الاميركية.
وصمت مبارك ونظر اليّ مباشرة وقال لي: "لا تتظاهر بأنك فوجئت لأنني اعرف ان الولايات المتحدة مستعدة لاعطاء العراق 36 قطعة مدفعية مقابل دبابة سوفياتية واحدة من طراز تي 72". وأشار الى ان صدام حسين نفسه ابلغه ذلك، ثم قال ان العراق لا يستطيع تزويد دبابة واحدة من طراز تي 72 لأن السوفيات هم الذين يزودون العراق بمعظم معداته العسكرية ولهذا فان صدام لا يستطيع المجازفة بقطع خط امداداته العسكرية. وكان صدام طلب من مبارك ان يبلغ الولايات المتحدة رغبته في ان تقدم واشنطن المساعدة الى العراق من دون فرض مثل هذه الشروط. وعندها قلت للرئيس المصري "ان العراق ليس بحاجة الى الاسلحة وانما هو بحاجة الى قيادة متجددة نشطة في بغداد والى استراتيجية عسكرية جديدة ومبادرة تكتيكية في ميدان المعركة".
ومع انتهاء الاجتماع خرجنا جميعاً وتصافحنا. وكنت آخر من يصافح مبارك. وأمسك بيدي وظل واقفاً معي حوالي خمس دقائق ونحن نتناقش. وبينما كان ستوسل وبقية اعضاء الوفد يصعدون في السيارات استعداداً للعودة الى السفارة الاميركية جدد مبارك مناشدته لكي تقدم الولايات المتحدة المساعدات الى العراق. وقال مبارك ان المساعدة المصرية تعطي العراق عمقاً استراتيجياً عن طريق تزويده بأسلحة بملايين الدولارات، ومضى يقول ان العلاقات مع العراق يمكن ان تفيد الولايات المتحدة، ولكن مصر بحاجة الى مساعدة من الادارة الاميركية لكي تستطيع بدورها تقديم المزيد من المساعدة للعراق ولكي يستطيع صدام بالتالي مساعدة الاميركيين. وختم مبارك حديثه بأن سألني عن الموقف الاميركي الراهن في ظل تلك الظروف. وإدراكاً مني لأهمية كل ما سمعته من مبارك وادراكاً مني ايضاً لقلق واشنطن من امكان احراز ايران نصراً كبيراً وانهيار العراق، طمأنته بأنني سأنقل ما سمعته منه الى المسؤولين في واشنطن.
وعندما لحقت بالوفد سألني ستوسل عن حديثي مع مبارك. وبعد ان أبلغته بما جرى اقترح علي ان أرفع تقريراً الى البيت الابيض مباشرة وان اطلب تعليمات من الادارة. ووافق ستوسل على ابلاغ هيغ بما حدث عندما يتكلم معه، كما اشار علي بابلاغ ماكفرلين وطلب النصح منه هاتفياً عندما تتاح لي فرصة الحديث عبر هاتف مأمون.
وبعدئذ توجهنا الى المطار وعدنا الى اسرائيل لاستئناف مفاوضاتنا حول قضية الانسحاب الاسرائيلي من طابا. وأثناء توجه الطائرة الى القدس قررت سوشيا ان تطلق على طائرتنا اسم "تاكسي طابا". وقبل ان نهبط راح موريس درايبر يدندن بعض الانغام عن تاكسي طابا، وسرعان ما اصبحت تلك الدندنة معروفة بيننا باسم "رقصة طابا!".
بعد عودة سيناء الى مصر في نيسان ابريل 1982 بدأت تظهر ثلاث قضايا بصفتها اهم التهديدات التي تتعرض لها المصالح الاميركية في جنوب غربي آسيا والشرق الاوسط وهي:
القوة والمصالح
الغزو الاسرائيلي للبنان في حزيران يونيو 1982، وتحول ميزان القوى بين ايران والعراق، وظهور الارهاب الدولي. وكانت مستويات الخطر تزداد بنسبة مباشرة مع ازدياد مستوى العنف في كل من هذه القضايا.
وطوال هذه الفترة كان الرئيس ريغان ومستشاروه مضطرين لمواجهة قضية حاسمة وهي حياة المواطنين الاميركيين والأوروبيين وسكان الشرق الاوسط والاخطار التي يتعرضون لها. وكانت آراء اعضاء مجلس الامن القومي في عهد ريغان تتضارب كثيراً عند بحث الدور الذي يجب ان تقوم به القوة العسكرية الاميركية من اجل تحقيق المصالح الاميركية في الشرق الاوسط. اذ كانت الوثائق السياسية ومذكرات القرارات المختلفة ادوات للتأثير في نتائج المناقشات، كما انها كانت تعد بشكل دقيق لكي تعكس وجهات النظر المختلفة وتحقق توازناً بينها ولكي تشرح حسنات الخيارات السياسية المتاحة ومساوئها، وتعرض التوصيات المتفاوتة من اجل اعطاء الرئيس ريغان الفرصة للموازنة بين مختلف وجهات النظر وتقرير الرأي المقنع. واذا كان اعضاء مجلس الامن القومي قادرين على تحقيق الاتفاق في ما بينهم قبل اي قرار رئاسي، فانهم كانوا يكلفون الوكالات المعنية اتخاذ القرار اللازم من اجل تمكين الرئيس من تنفيذه حين يتوصل الى قراراته. اما اذا كان من الصعب حل الخلافات من دون تدخل من الرئيس نفسه فان صياغة التعليمات والقرارات كانت تُؤجل الى ما بعد اتخاذ الرئيس القرار اللازم.
كان هذا هو الاسلوب المتبع عادة: دراسة الخيارات واتخاذ القرارات ثم تنفيذها. ولكن لسوء الحظ، وعلى رغم وضوح قرارات مجلس الامن القومي فقد كان تنفيذها عادة يتعرض للاحباط، نظراً الى ان وزراء ريغان كانوا يشنون حرباً غير معلنة على بعضهم بعضاً من اجل تحقيق اهدافهم، لا سيما اذا وجدوا انفسهم بين الجانب الذي خسر النقاش السياسي. ومما يؤسف له ان الوزراء الذين كانوا يشعرون بالاستياء وعدم الرضا، كانوا يميلون غالباً الى تفسير قرارات الرئيس مهما كانت صياغتها، لملاءمة مصالحهم وتفضيلاتهم. وقد كان وزير الدفاع كاسبار واينبرغر بشكل خاص يتصرف بازدراء تجاه عدد من قرارات ريغان الرئيسية لأنه كان يصر ببساطة على انه يعرف ما هو الافضل للولايات المتحدة في الشرق الاوسط. ومن المستغرب ان الرئيس لم يتخذ اي اجراءات لفرض الانضباط على وزرائه، وبشكل خاص على واينبرغر الذي رفض تطبيق الكثير من القرارات الرئاسية. وكان اخفاق ريغان في ممارسة القيادة الحازمة السبب الذي أدى الى هزيمة اميركا المهينة في لبنان عام 1984، والى الفضيحة الايرانية عام 1986 والى الوقوف الى جانب العراق.
سرعان ما تحول المزاج في واشنطن من تنفس الصعداء نتيجة انسحاب اسرائيل من سيناء بسرعة، الى كتم للأنفاس بعد ان اخذت اسرائيل تكثف استعداداتها وتحضر لغزو لبنان. فبحلول اواسط ايار مايو 1982 لم يعد هناك شيء يمكن ان يمنع حدوث هجوم اسرائيلي على منظمة التحرير الفلسطينية. ولم يكن هناك احد في الادارة الاميركية على غير علم باستعدادات اسرائيل للحرب على رغم استمرار اعراب الادارة عن الامل في حل الازمة بالطرق الديبلوماسية. على رغم كل ما بذله حبيب من جهود ديبلوماسية فانه لم يستطع تحقيق المطلوب، لا سيما عندما كان الامر يتعلق بمصالح الفئات العديدة المتناحرة في لبنان، او بالنسبة الى عرفات والفلسطينيين او بالنسبة الى ارييل شارون وزير الدفاع الاسرائيلي من جهة والرئيس السوري حافظ الاسد من جهة اخرى.
وكان شارون شرح معظم خطة العملية بشأن لبنان اثناء اجتماع عقده مع حبيب ودرايبر في القدس في كانون الأول ديسمبر 1981. وكان رد فعل حبيب غاضباً آنذاك، اذ شرح لشارون ان الولايات المتحدة لا يمكنها ابداً ان تؤيد اية مبادرة عسكرية اسرائيلية للقضاء على منظمة التحرير او لاعادة رسم الخريطة السياسية في لبنان. وعلى رغم ان شارون شرح للعديد من المسؤولين الاميركيين مصالح اسرائيل الاستراتيجية في لبنان، وعلى رغم انه تنصل من ذلك فيما بعد وقال انه كان يعرب عن "آراء شخصية بحتة" وليس عن الموقف الاسرائيلي الرسمي، فان واشنطن اعربت عن معارضتها القوية لأي خيار عسكري اسرائيلي في لبنان. ولضمان فهم الحكومة الاسرائيلية هذا الموقف الاميركي، بعث ريغان رسالة الى بيغن في اوائل عام 1982 يحثه فيها على عدم خوض اي حرب، مؤكداً له ان الولايات لمتحدة ملتزمة بمواصلة العمل من اجل ايجاد حلول ديبلوماسية.
ولكن مع استئناف الهجمات الفلسطينية على الاهداف الاسرائيلية وعمليات الانتقام الاسرائيلية في اواخر نيسان ابريل 1982 اخذت امكانات التسوية والحلول السلمية تتلاشى. ومع ذلك واصل حبيب والمسؤولون الاميركيون جهودهم لوضع مبادرة جديدة لتشجيع الديبلوماسية الاميركية والديبلوماسية الاوروبية على تفادي نشوب الحرب وتحقيق النتائج السياسية المرجوة.
وفي مجلس الامن القومي ظهر انقسام على السياسة بين هيغ من جهة وجورج بوش وواينبرغر وكلارك من جهة ثانية. اذ ان هيغ كان يدرك البعد الشرقي - الغربي في الصراع بين اسرائيل والمنظمة والسوريين في لبنان، لكنه كان يصر على انه لا يجوز انكار حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها لمجرد احترام اميركا لمصالحها في المنطقة او لمجرد المضاعفات السلبية على الموقف الاميركي. اما على الجانب الآخر من النقاش فقد كان واينبرغر حاد اللهجة في عدائه لاسرائيل، وقال انها تبالغ في تصوير خطر منظمة التحرير وان الكثير من الاعمال العسكرية التي تقوم بها اسرائيل يشكل جزءاً من استراتيجية اسرائيلية متعمّدة لابعاد الولايات المتحدة عن العالم العربي.
وفي ايار مايو 1982 وصل شارون مع وفد كبير من الاسرائيليين الى واشنطن للاجتماع الى هيغ وحبيب والآخرين، ومن بينهم أنا، لكي يعيدوا تأكيد الموقف الاسرائيلي وهو "ان تصاعد العنف واخفاق المساعي الديبلوماسية في ايجاد حل، معناه ان اسرائيل ليس امامها سوى اللجوء الى القوة" وحاضر شارون لفترة طويلة امامنا عن وجوب "تطهير لبنان من الارهابيين" ليس لمصلحة اسرائيل فحسب بل ولمصلحة الولايات المتحدة والدول الغربية التي عانت من الارهاب الذي ترعاه سورية والاتحاد السوفياتي مثلما يظهر في قاعدته الأساسية - لبنان. ولم يترك خطاب شارون اي شك على الاطلاق في ان اسرائيل تستعد للحرب. وادراكاً من حبيب بأن شارون كان يتصيد اي تلميح او اشارة الى اسرائيل وتفسيرها بأنها ضوء اخضر للغزو، اعلن صراحة معارضته لحجة شارون. كذلك اعرب هيغ عن معارضته لها، لكن قال ان على اسرائيل في نهاية الامر ان تتخذ قراراتها بنفسها، واذا كان العمل العسكري ضرورياً فانه يتوقع منها ان تتصرف بما يتوافق مع الاستفزاز.
ويرى الكثيرون ان شارون اعتبر كلام هيغ بمثابة الضوء الاخضر الذي كان يبحث عنه، مع ان هيغ اكد طوال الاجتماع ان الولايات المتحدة لا تعتقد ان الحلول العسكرية يمكنها ان تحل مشكلات لبنان.
الا ان هيغ اكد من وجهة نظر القانون الدولي والواقعية ان اسرائيل لها الحق كأي دولة اخرى في الدفاع عن نفسها. وحتى لو لم يكن في ما قاله هيغ الضوء الاخضر فانني اعتقد ان شارون كان سيجد وسيلة لتفسير تصريحات هيغ حتى عن الطقس على اساس انها تشجيع لغزو اسرائيل لبنان.
ابو نضال يضرب في لندن
في الثالث من حزيران يونيو 1982 كنت اجلس في مكتبي اتناول الغداء عندما اتصل بي مكتب مراقبة الاوضاع في البيت الابيض - وهو مكتب يعمل اربعاً وعشرين ساعة في اليوم لسبعة أيام في الاسبوع وطوال ايام العام - لكي يبلغني بمحاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن شلومو آرغوف. وإثر ذلك تدفقت البرقيات والتقارير الاخبارية التي تتحدث عن المحاولة ومضاعفاتها المحتملة. وعلى الفور طغت حالة من التوقع الكئيب بين العاملين في شؤون الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي، اذ اننا كنا جميعاً على ثقة بأن اسرائيل ستنتقم بغارات جوية على اهداف منظمة التحرير في لبنان وان المنظمة سترد بهجمات مدفعية وقصف صاروخي على شمال اسرائيل.
الا ان التقارير الاولية دفعت البعض الى الاعتقاد بأن رد الفعل الاسرائيلي سيتحلى بضبط النفس لأن مجموعة ابو نضال هي التي رتبت على ما يبدو محاولة الاغتيال في لندن وليس منظمة التحرير. وكان ابو نضال يعمل آنذاك من بغداد. والواقع اننا عرفنا في اليوم التالي ان اوامر القتل وصلت عن طريق شخص عراقي وان الملحق العسكري العراقي في بريطانيا هو الذي زود القاتل بالسلاح. وهكذا كانت العلاقة بين ابو نضال والعراق واضحة لا مجال لانكارها.
وفي هذا الاطار كان لا بد للولايات المتحدة من التكهن عما اذا كان هناك تواطؤ بين ابو نضال وصدام حسين لمحاولة اغتيال آرغوف من اجل استفزاز هجوم اسرائيلي على لبنان وعلى المنظمة وسورية خصم العراق اللدود في العالم العربي. كذلك كانت محاولة الاغتيال انتقاماً على تدمير اسرائيل المفاعل النووي العراقي في حزيران يونيو 1981. بل ومن وجهة نظر صدام ربما كان وقوع حرب بين اسرائيل والعرب سبباً كافياً لدفع الولايات المتحدة الى المساعدة على انهاء حرب العراق مع ايران. في اي حال مهدت هذه المحاولة لغزو لبنان. ومع ان زملائي استبعدوا تحليلي فانهم لم يختلفوا معي على دور ابو نضال. واقتناعاً من بعض المسؤولين الاميركيين بينهم كيمب وفليوتس وروبرت ايمس وهو احد كبار ضباط السي.آي.ايه لشؤون الشرق الاوسط بوجود فرق واضح بين المنظمة بزعامة ياسر عرفات وبين أبو نضال، فقد طالبوا بالاسراع في الجهود الديبلوماسية الاميركية على اساس ان اية مبادرة اميركية يمكن ان تحول دون انهيار وقف اطلاق النار، وتحول بالتالي دون غزو اسرائيل لبنان. فقد اعتقدوا انه يمكن كبح جماح اسرائيل. لكنني لم اتفق معهم. ومع ذلك قضينا بقية اليوم في مناقشة صياغة رسالة من ريغان الى بيغن يحثه فيها على ضبط النفس ويعد بالتعجيل في المساعي الديبلوماسية.
لكن الامل في التسوية السلمية سرعان ما تبدد. فقد سارعت اسرائيل الى شن غارات انتقامية، فردت المنظمة بهجمات صاروخية وقصف مدفعي. وانهار وقف اطلاق النار وهاجمت المنظمة 29 مدينة في شمال اسرائيل بأكثر من 500 قذيفة وصاروخ.
ولم تمضِ ساعات قليلة حتى تحركت وزارة الدفاع الاسرائيلية لتنظيم قواتها البرية بهدف اجراء "مناورات" في لبنان، بينما بدأت المدفعية وسلاح الجو والاسطول دك اهداف المنظمة في لبنان تمهيداً للهجوم البري. ولم يبذل الاسرائيليون اية محاولة لاخفاء ما كانوا يفعلونه. كما ان شارون كان افصح مراراً وتكراراً عن نواياه خلال الاشهر القليلة السابقة.
في هذه الاثناء حث كلارك الذي كان في باريس مع الرئيس ريغان لحضور قمة الدول الصناعية السبع الكبرى على اتخاذ اجراءات عاجلة لوقف القتال. ومساء السبت، الخامس من حزيران يونيو وافق الرئيس على ارسال رسالة الى بيغن يحثه فيها على ضبط النفس ويطلب وقف اطلاق النار في الساعة التاسعة اعتباراً من صباح الاحد. ومع ان السفير الاميركي صموئيل لويس سلم الرسالة الى رئيس الوزراء مناحيم بيغن في السادسة والنصف صباحاً، فاننا سرعان ما علمنا ان بيغن لم يكترث بها ورفض حتى التفكير في وقف اطلاق النار.
وهكذا بدأت طلائع الجيش الاسرائيلي تعبر الحدود الى داخل لبنان في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاحد. وسرعان ما اتضح ان القوات الاسرائيلية ستواصل التدفق على لبنان. وأثار ذلك تساؤلات عن امكان جر سورية الى القتال، وامكان التدخل السوفياتي. وبينما كنت اجلس مع اوليفر نورث وغيره من موظفي مجلس الامن القومي وامامنا خرائط اسرائيل ولبنان ونحن نتابع تطورات الموقف ونطّلع على تقارير المخابرات والوكالات، بدأنا نحلل السيناريوهات المختلفة والمبادرات الاميركية الممكنة لمحاولة احتواء الصراع وتقليل امكانات نشوب حرب اوسع نطاقاً وبالتالي انهاء القتال.
كانت وزارة الخارجية منهمكة في المشاورات الديبلوماسية مع السوريين وأطراف عربية اخرى، وبصورة غير مباشرة مع المنظمة، من اجل تحقيق وقف القتال. ولكنني بدأت أرى أن هدف اسرائيل في تحطيم المنظمة وتدميرها سياسياً وعسكرياً غير واقعي، كما انني بدأت ادرك ان الديبلوماسية الاميركية فشلت في لبنان لأنها عجزت عن تغيير الاهداف الأساسية للأطراف المختلفة في لبنان.
اسرائيل تجر أميركا
وبعيد الفجر، وبعد ان بدأ الغزو توجهت الى وزارة الخارجية لأستلم رسالة بيغن الى الرئيس ريغان التي تحدد نطاق عملية "السلام في الجليل" وأهدافها. اذ قال بيغن ان هدف العملية هو تدمير قدرة المنظمة على اطلاق الصواريخ والقذائف على شمال اسرائيل. ومن اجل تحقيق هذا الهدف فان القوات الاسرائيلية ستتقدم مسافة اربعين كيلومتراً فقط داخل لبنان وستفعل ما في وسعها لكي تتفادى اي اشتباك مع السوريين. ومن الواضح ان بيغن كان يريد بهذه الرسالة، ادراكاً منه لمعارضة واشنطن للغزو، ان يهدئ روع الزعماء الاميركيين، الى ان يحقق الجيش الاسرائيلي على الاقل اهدافه من دون تدخل اميركي. ولكن احداً في البيت الابيض، من ريغان الى ادنى الموظفين رتبة، لم يقبل ما ورد في رسالة بيغن. وانطلاقاً مما كنا سمعناه من شارون فان من السذاجة تصديق ما كتبه بيغن الى ريغان. كما اننا نعرف ان شارون كان يروج جهاراً لفكرة "ارض اسرائيل الكبرى"، وكان يريد اجبار الولايات المتحدة على تقبل رأيه من خلال الامر الواقع. والحقيقة انه سرعان ما اتضح ان شارون وبيغن لم يكونا صريحين اطلاقاً بالنسبة الى اهداف اسرائيل وانتهاكها السافر للالتزام الاميركي بأمنها الى درجة جرها الى انتهاج سياسة لا توافق عليها واشنطن.
وأدى هذا الى شعور بالغضب الشديد بين عدد من المسؤولين وفي مقدمتهم ريغان وبوش وكلارك وجيمس بيكر ومايكل ديفر. وقد دفعهم غضبهم هذا الى عدم الثقة في حكومة الليكود خلال عام 2819. واعترف الرئيس بأنه فوجئ برد الفعل الاسرائيلي، بينما رأى كلارك في توقيت الاجراء الاسرائيلي خطوة متعمدة للتنغيص على ريغان الذي كان وصل للتو الى فرساي في فرنسا لحضور القمة الاقتصادية للدول السبع الصناعية الكبرى، ولخلق ازمة محرجة له بين الزعماء الآخرين، كما اعتبره استغلالاً لصداقة ريغان لاسرائيل. ولدى عودته من باريس قال لي ريغان: "من الواضح ان اسرائيل تتصرف معنا "على المضمون". فهي تريد منا معاملتها كحليف بينما تتصرف باحتقار تجاهنا. ونحن لا نستطيع ان نسمح للاسرائيليين بالتصرف بهذا الشكل".
وعلى الفور أوفد ريغان مبعوثه فيليب حبيب الى سورية واسرائيل لمحاولة ترتيب وقف لاطلاق النار وبدء مبادرة ديبلوماسية اوسع نطاقاً تؤدي الى انجاز مهمة اخراج المنظمة من جنوب لبنان. الا ان القوات السورية بدأت في هذه المرحلة تشتبك مع القوات الاسرائيلية في عدد من المواقع على محاور الزحف الاسرائيلي في الشرق. ومع ان الاسد كان مسروراً ضمناً لاضعاف قدرات المنظمة العسكرية فانه كان بحاجة الى حماية المواقع السورية في لبنان. ومع بدء تصاعد الاشتباكات مع السوريين استطاع الاسرائيليون القضاء على شبكة صواريخ سام السورية في لبنان كما اسقطوا 29 طائرة سورية في التاسع من حزيران يونيو 1982. وخلال اليومين التاليين خاض الطرفان معارك مريرة بالدبابات والمدفعية والمشاة، قبل ان يتمكن حبيب من اقناع الطرفين بالموافقة على وقف اطلاق النار في الحادي عشر من حزيران يونيو.
ولكن ما كاد يبدأ وقف اطلاق النار حتى اخذت الوحدات الاسرائيلية تزحف الى الأمام لتعزيز مواقعها وقطع الطريق بين دمشق وبيروت. وفي ما لا يمكن اعتباره سوى تصعيد اسرائيلي جديد رد شارون على احتجاج حبيب على التحركات الاسرائيلية بان اعلن ان اسرائيل لم توافق اصلاً على وقف اطلاق النار! وهكذا ومع نهاية الاسبوع الاول من الحرب اصبحت العاصمة السورية دمشق ضمن مرمى المدافع الاسرائيلية، بينما طوقت القوات الاسرائيلية بيروت من الجنوب والغرب، كما ان الجيش السوري في شرق لبنان بدأ يواجه التدمير على رغم انه قاتل بضراوة شديدة.
بريجنيف على الخط الساخن
تعود جذور المصالح الاميركية في لبنان الى مبدأ ايزنهاور والالتزام الاميركي بالمحافظة على استقلال لبنان في وجه اي توسع سوري. لكن الوضع الحالي اخذ يحتم على واشنطن وجوب العمل على عدم تحول لبنان الى ساحة للمعركة العربية - الاسرائيلية، وما قد ينطوي عليه ذلك من مواجهة اميركية - سوفياتية، لا سيما عقب تدمير مواقع الصواريخ السورية السوفياتية الصنع.
في اوائل الاسبوع الثاني من الحرب، اتصل بي الضابط المناوب في غرفة الطوارئ في البيت الابيض في الساعة الرابعة صباحاً وطلب مني التوجه فوراً الى هناك لكي اطلع على رسالة تلقاها للتو. وحين سألته عما اذا كانت رسالة اخرى من بيغن قال لا، ولكن ريتشارد بايبس وصل الى الغرفة لكي يترجمها. وأدركت على الفور ان الاشارة الى بايبس وهو مسؤول مجلس الامن القومي عن الشؤون السوفياتية تعني ان الرسالة كانت على "الخط الساخن" من الزعيم السوفياتي بريجنيف. وكانت تلك المرة الاولى التي يُستخدم فيها الخط الساخن منذ ان تولى ريغان الرئاسة.
وبايبس خريج هارفارد ومعروف بخطه المتشدد تجاه الاتحاد السوفياتي. ولهذا فقد فسر الرسالة بأنها رهيبة في لهجتها لأن بريجنيف يهدد في الواقع بالتدخل اذا لم تكبح الولايات المتحدة جماح اسرائيل. وهكذا لم يعد الوضع في لبنان مجرد مشكلة اقليمية. وعلى الفور دعونا الى عقد اجتماع للجنة تخطيط الازمات استعداداً لاجتماع لجنة الطوارئ في الساعة السابعة صباحاً برئاسة جورج بوش نائب الرئيس. وبدأنا استعراض التقارير الاستخبارية وتفسير رسالة بريجنيف لكي نقدر ما الذي يمكن للسوفيات ان يفعلوه لدعم تهديدهم. واتضح لنا من خلال النقاش ان السوفيات لم يحركوا قواتهم في أي مكان، مما دفعنا الى الاستنتاج بأن بريجنيف كان ببساطة يهدد "نظرياً". ولهذا ليس هناك اي داع الى اكثر من رد حازم من ريغان على بريجنيف. ووافق روبرت غيتس نائب مدير "السي.آي.ايه" على ذلك وأكد انه لا يوجد اي دليل على اي نشاط غير عادي في موسكو.
لكنني لم اشعر بالارتياح بعد انتهاء الاجتماع في السادسة والنصف، ولهذا قررت الاتصال بمركز المخابرات الوطني في البنتاغون لكي ارى ما اذا كان المركز رصد أية تحركات غير عادية. وسرعان ما ابلغني الضابط المناوب في المركز ان دوائر المخابرات الاميركية تبحث منذ بضع ساعات في بعض المعلومات التي تلقتها من موسكو ومفادها ان الاتحاد السوفياتي اصدر اوامر الى كتيبة من القوات المظلية المحمولة جواً في البحر الاسود لتقف مع القوات المساندة لها على اهبة الاستعداد. وأدركت على الفور انها الوحدة نفسها التي وضعتها موسكو في حالة تأهب في حرب تشرين الأول اكتوبر عام 1973.
وهكذا أدركت ايضاً ان السوفيات ارادوا ان يعطوا رسالة بريجنيف زمناً فوضعوا بعض قواتهم في حالة تأهب. وعلى الفور اشرت الى الجنرال غورمان لكي اشرح له ما سمعته. وفجأة بدأ كل من في الغرفة ينظر الينا، وأدركنا ان موسكو انما كانت تبعث لنا اشارة بأنها مستعدة لارسال قواتها الى سورية. وفجأة ايضاً انطلقت مختلف عبارات التنديد باسرائيل وشارون من كل الحاضرين في الاجتماع. وبعد لحظات استعاد غورمون والآخرون رباطة جأشهم وشرعنا في تحليل الوضع الجديد ومضاعفاته المحتملة، على ضوء هذه المعلومات.
لقد بدأت رسالة بريجنيف تأخذ مضموناً جديداً. اذ ان السوفيات على استعداد لأن يفعلوا اكثر من مجرد تزويد حليفتهم سورية بالاسلحة لكي يقنعوا اميركا بوجوب الضغط على اسرائيل. فبعد الاذلال الشديد والمهين الذي تعرضت له شبكة الدفاع الجوي التي زودتها موسكو لسورية، ونظراً الى التهديد الذي اصبحت تمثله القوات الاسرائيلية لدمشق كانت موسكو مضطرة للتصرف كي تظهر انها مستعدة لمواجهة الولايات المتحدة، والوقوف الى جانب حلفائها في وجه العدوان الاسرائيلي الذي تسانده واشنطن!
وجدت الولايات المتحدة نفسها في دوامة صعبة: ترى هل تخادع موسكو؟ هل ستساعد السوريين في لبنان، ام هل ستقتصر مساعدتها على الأراضي السورية؟ وهل سترسل موسكو قوات الى دمشق للمساعدة على رغم انها متورطة في افغانستان؟ ثم هل ينبغي على الولايات المتحدة ان ترفع من حالة التأهب والانذار بين قوات اميركية معينة لمواجهة التصعيد السوفياتي الجديد لكي تثبت للاتحاد السوفياتي انه ليس في وسع احد ان يرهب الولايات المتحدة؟ والى أي مدى ستجد موسكو وواشنطن نفسيهما وقد صعّدتا الموقف قبل ان تبدأ احداهما في التراجع؟
الشيء الاكيد هو ان الولايات المتحدة لم تكن راغبة اطلاقاً في خوض حرب ضد السوفيات في الشرق الاوسط. اذن هل هناك اية خطوات يمكن اتخاذها لاقناع اسرائيل باحترام وقف اطلاق النار والكف عن اتخاذ اية اجراءات عسكرية ضد سورية من دون ان تظهر واشنطن بمظهر الخانع امام التهديدات السوفياتية؟ لم يكن هناك اي اجوبة واضحة لهذه الاسئلة. فكل ما كان لدينا هو تكهنات.
وحين وصل بوش مع كبار المسؤولين الآخرين للاطلاع على الرسالة ابلغناه ان الوضع اخذ يزداد تعقيداً وتهديداً بسبب اعلان حالة التأهب بين القوات السوفياتية. وادراكاً من بوش لخطورة الوضع وجه اسئلة عدة الينا وطلب دراستها ريثما يذهب الى مقر الرئيس في البيت الابيض ليطلعه على آخر التطورات.
وعاد بوش بعد حوالي نصف ساعة وأصدر تعليماته للجنة التخطيط للأزمات لاعداد مسودة رسالة للرد على موسكو. اذ ان ريغان اتخذ خطاً حازماً جداً لأنه لم يرد اعطاء الانطباع بأن واشنطن تفتقر الى قوة الارادة للوقوف الى جانب اسرائيل. اما بالنسبة الى وضع القوات السوفياتية على اهبة الاستعداد فان الولايات المتحدة لن تغير شيئاً في وضع قواتها العسكرية في الوقت الراهن وستنتظر الى ان تقيّم جدية النوايا السوفياتية. فقد كان للولايات المتحدة آنذاك وجود بحري كبير في البحر الابيض المتوسط ولذا لم تكن هناك ضرورة لتحريكها بأي طريقة قد توحي لموسكو بظهور المزيد من التهديدات. وعلى الصعيد الديبلوماسي اصدر الرئيس الى فيليب حبيب اوامر لتكثيف جهوده واستخدام كل السبل لاقناع اسرائيل بالالتزام بوقف اطلاق النار.
اضافة الى الاتحاد السوفياتي حاولت دولتان اخريان مساعدة سورية على مجابهة الغزو الاسرائيلي، وهما ليبيا وايران، اذ ارسلت ليبيا بعض المال وبعض صواريخ أرض - جو مع قوات ليبية. لكن المساعدة الايرانية كانت اهم كثيراً على رغم ان تلك الاهمية لم تظهر على الفور. فقد علمنا بعد ايام عدة من الغزو ان ايران ارادت ارسال آلاف عدة من قوات الحرس الثوري للقتال الى جانب السوريين. وفي البداية عارض الرئيس الاسد هذه الفكرة لأنه كان يخشى عدم استطاعة السوريين السيطرة عليهم. الا ان ايران ثابرت وأغرت دمشق بالمساعدة المالية. وحاول الاسد ان يُبقي الحرس الثوري خارج لبنان، الا ان السفير الايراني في سورية محمد محتشمي وقادة الحرس الثوري رفضوا ذلك. وهكذا توجهت القوات الايرانية الى لبنان واستقرت في ثكنة الشيخ عبدالله في البقاع.
من هذه القاعدة استطاعت ايران في نهاية المطاف ان تؤمن مركزاً للتدريب والادارة من اجل العمل على تصدير الثورة الاسلامية الى بعض الاطراف في لبنان. ومع اننا كنا نشعر بالاستياء من هذا النجاح الايراني وتغلغل وحدات الحرس الثوري في لبنان فاننا لم نكن نتوقع اطلاقاً ان تؤدي هذه الخطوة الى غرس التطرف بين اعداد من اللبنانيين واحتجاز الرهائن وحدوث طفرة كبيرة في الارهاب الدولي وحدوث ما اصبح يُعرف فيما بعد بفضيحة "ايران - غيت".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.