بعد فشل "عملية الليطاني" واغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل، أجرت الصحافية أوريانا فالاتشي حديثاً جريئاً مع أرييل شارون نشرته صحيفة "التايمز" اللندنية، اتهم فيه واشنطنوموسكو بنسف مشروعه السياسي في لبنان. وقال وزير دفاع حكومة مناحيم بيغن إن الاتحاد السوفياتي هدد عام 1982 بالتدخل في حال عبرت القوات الإسرائيلية طريق الشام، ووصلت إلى مشارف دمشق. وأقلق هذا الانذار الإدارة الأميركية التي ردت بإعلان الاستنفار تحسباً لأي عمل عسكري قد تقدم عليه موسكو دفاعاً عن شراكة سورية الاستراتيجية. ومع أن شارون لم يذكر في حديثه الدوافع الحقيقية التي أوصلت "عملية الليطاني" إلى شفير حرب عالمية ثالثة، إلا أن الكتاب الموثق الذي أصدره البروفيسور أفنير يانيف، رئيس دائرة العلوم السياسية في جامعة حيفا، كشف أسرار تلك المرحلة الخطرة وأظهر احتمالات المواجهة. ويروي المؤلف في كتاب عنوانه "معضلة الأمن"، كيف خدع شارون رئيسه بيغن عندما أقنعه بأن مسافة الاجتياح لن تتجاوز الثلاثين كيلومتراً - أي المدى المطلوب للحماية من صواريخ المقاومة - في حين كان يخطط للوصول إلى بيروت. وساعده على تنفيذ مخططه وزير خارجية أميركا الجنرال الكسندر هيغ الذي كان يطمح لخلافة ريغان في البيت الأبيض بدعم من "اللوبي اليهودي" وإسرائيل. وبعد أن تحققت لشارون الخطوات التمهيدية، ونجح في اخراج المقاومة الفلسطينية المسلحة من لبنان، فوجئ بتغيير موقف بشير الجميل كأن حساباته السياسية تبددت عند الاستحقاق. ونتج عن هذا التغيير اللقاء العاصف في بلدة "نهاريا" حيث جرى نقاش تصادمي بين الجميل الذي ضبط أعصابه بناء على نصح شارون... وبين مناحيم بيغن الذي استقبله بعبارات فظة معاتباً ومهدداً. ولما طلب منه الجميل التخفيف من حدة لهجته لأنه يتحدث الآن مع رئيس جمهورية لبنان، ضرب بيغن الأرض بعصا كان يتكئ عليها، ورد عليه قائلاً: نحن صنعناك رئيساً وتوجناك ملكاً، ولكنك أخلفت بوعدك ورفضت توقيع اتفاق سلام! وأجابه الجميل بأن إسرائيل هي التي نكثت بوعدها فلم تعمل على اخراج الجيش السوري، واكتفت بتجميد قواتها عند منطقة "ضهر البيدر". ونظر بيغن إلى شارون الجالس قرب الجميل كأنه يوبخه وأكمل قائلاً: لا أعرف على ماذا اتفقت مع وزير الدفاع، وإنما أريد أن اذكرك بأن اتفاقية السلام معنا يجب أن توقع قبل نهاية هذا العام 1982... وان قوات سعد حداد يجب إعادتها إلى صفوف الجيش النظامي... وان القدس تنتظر منك زيارة رسمية كما فعل أنور السادات... كرر بيغن هذه الشروط ثم انسحب تاركاً المجال لشارون الذي اعتذر عن اللهجة المهينة التي خوطب بها الجميل، مبرراً ذلك بارتفاع ضغط الدم لدى بيغن المصاب أيضاً بأعراض ازدياد كمية السكري وتصلب شرايين القلب. ولكنه وعد بزيارة لبنان في أقرب فرصة بهدف وضع خطة اخراج القوات السورية. وفي 12 أيلول سبتمبر عُقد اجتماع مغلق في جونيه بحضور الرئيس الجميل ناقش شارون خلاله مختلف الخيارات المطروحة. وقرر اعتماد سياسة حافة الهاوية ولو أدى الأمر إلى رفع درجة التوتر في المنطقة إلى حد المجابهة بين الدولتين الكبيرتين، واستغل ثقة مناحيم بيغن للقيام بمغامرة عسكرية انتهت باسقاط عدد كبير من الطائرات الحربية السورية، الأمر الذي دفع دمشق إلى نصب صواريخ "سام" في البقاع واسقاط الخط الأول من الخطوط الحمر الثلاثة. وبعث شارون ببرقية إلى الجميل بواسطة السفارة الأميركية يبلغه فيها تنفيذ الوعد. ولكن سائق السفارة لم يستطع تسليمها لأن قوة كتائبية منعته من دخول "الأشرفية" بسبب الانفجار الذي أودى بحياة بشير الجميل يوم 14 أيلول سبتمبر 1982. ومع ان جميع القرائن يشير إلى تورط جهة واحدة كان لها مصلحة قومية في انتشال لبنان من هوة الانزلاق نحو "كامب ديفيد" آخر... إلا أن حقائق الأمور تؤكد وجود مصلحة مشتركة أميركية - سوفياتية في اغتيال بشير الجميل. والسبب ان موته يسقط رهان شارون الذي تحدى الانذار الأميركي، وقرر التوغل في العملية العسكرية، ولو أدى ذلك الى الصدام بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وهكذا استمرت ردود الفعل في التفاعل بعد مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا، انتهت باستقالة شارون من وزارة الدفاع عام 1983، وبدخول مناحيم بيغن الى مصح للعلاج النفسي. ولقد دفع الكسندر هيغ أيضاً ثمناً غالياً لتورطه في "عملية الليطاني" قضت بتنحيته عن الوزارة إثر محاولته الفاشلة تجاوز دور نائب الرئيس الأميركي. اخترت من سجل ارييل شارون مغامرته العسكرية في لبنان التي أضعفت علاقة الوطن الصغير بمحيطه، وقضت على مستقبل رئيس الوزراء بيغن والوزير الأميركي هيغ، وزعزعت دور حزب "الكتائب"، وخلقت شرخاً بين الدروز والموارنة، وتركت وسط المخيمات الفلسطينية بركة كبيرة من الدم. وسبب الاختيار ان "عملية الليطاني" تشكل النموذج المثالي لطريقة تعاطي شارون مع الأزمات بحيث أنه يندفع باتجاه المخاطر ولو أدى ذلك الى الخراب الشامل. ولقد لازمته هذه العقدة الشمشونية في مختلف مراحل حياته، بدءاً من يوم انضمامه الى عصابة "الهاغانا" الارهابية... وانتهاء بالمذابح الخمس التي ارتكبها في قرى قبية والعزازمة والبريج وقطنه وكفرقاسم. وبحسب قوائم الضحايا في فلسطينولبنان ومصر، يعتبر شارون الأكثر تفوقاً على جميع أقرانه في مدرسة بن غوريون وشامير ورابين. وهو يدعي ان حاجة انقاذ اسرائيل من الورطة التي وضعها فيها ايهود باراك تستدعي حضوره السياسي، تماماً مثلما استدعاه الجيش في حرب 1973 لاحداث الثغرة الدفرسوار التي انقذت القوات الاسرائيلية في عملية تطويق غرب القناة. وفي حديث لمراسل القناة التلفزيونية سي.ان.ان اعترف "اريك" انه غير نادم على زيارة المسجد الأقصى، لأنها في رأيه، أخرجت كل الأحقاد التي يختزنها الفلسطينيون في صدورهم ضد اسرائيل. "وأنا أتصور انني أديت لبلادي خدمة كبرى عندما ازحت القناع عن وجه عرفات، وأظهرته على حقيقته. ما هي حقيقته؟ انه يفضل ألف مرة أن يحصل على مكاسب السلام عن طريق السيف لا عن طريق الحوار. وأنا جاهز لقبول هذا التحدي من زعيم فلسطيني اعتبره قاتلاً وكاذباً لا يستحق المصافحة". بهذه الكلمات القليلة اختصر شارون برنامجه في حال فوزه بمنصب رئيس الحكومة خلفاً لايهود باراك. ووعد الناخبين بالغاء اتفاق أوسلو الذي يصفه "باتفاق الانتحار الوطني". كما وعدهم أيضاً بمنع عودة اللاجئين وتقديم أي تنازل في القدس الموحدة، وزيادة عدد المستوطنات التي قفزت في ظل وزارته من 25 مستوطنة الى 150 مستوطنة في الضفة الغربية. ولكن منافسه باراك يرفض تصديق وعد واحد من وعوده الكثيرة، متسلحاً بأدلة دامغة على التنازلات التي قدمها في "كامب ديفيد". وحجته ان شارون الذي ساعد في بناء مستوطنة "ياميت" في سيناء، كان أول من وجه خراطيم المياه ضد المستوطنين الرافضين النزوح. ويتسلح خصومه بالشهادة التي كتبها عنه بن غوريون في مذكراته لاظهار الوجه الخفي من شخصيته المعقدة. فهو يقول: "لو استطاع ارييل شارون التخلي عن عادة الكذب والنميمة لأصبح قائداً عسكرياً يحتذى بسلوكه". ويبدو أن صفة الكذب التي يطلقها على عرفات كانت احدى نقائصه الدامغة. وهذا ما دفع مناحيم بيغن للنفور من تصرفاته عندما اكتشف انه كذب عليه وعلى ادارة ريغان... وأنه استغل علاقاتهما العائلية لتحقيق طموحات شخصية. والمعروف ان جدة شارون كانت قابلة قانونية في بريسك بولندا... وانها هي التي أشرفت على ولادة الطفل مناحيم. اضافة إلى هذه العلاقة، فإن والد رئيس الوزراء زيف بيغن كان صديقاً حميماً لجد شارون، واسمه موردخاي شينرمان وهذا هو الاسم الأصلي لعائلة شارون. ويستخلص من كل هذا ان زعيم ليكود على استعداد للتخلي عن شعاراته الانتخابية في بعض الهوامش البعيدة عن الجانب العقائدي، ولكنه غير مستعد للتنازل عن طموحاته الصهيونية في القدس الموحدة واسرائيل الكبرى، حتى لو أدى ذلك الى اشعال نار الحرب! يبقى سؤال مهم يتعلق بموقف ياسر عرفات من الحزبين المتنافسين في اسرائيل، وما إذا كان انتقاده اللاذع لشريكه في "رقصة التانغو" ايهود باراك هو إيذان بالخروج من عملية أوسلو؟ الجواب السهل يقول ان عرفات انزعج من تغيب ايهود باراك عن منتدى دافوس، وانه كان ينتظر حضوره لاعلان موقف متقدم قد يفيده في الانتخابات لدى شريحة مهمة من العرب الذين يمثلون 17 في المئة من الناخبين، ولدى انصار السلام الذين يشكلون أكثر من سبعة في المئة. وذكر ان غياب باراك كان مرتبطاً بموقفه الشخصي من منافسه داخل الحزب شمعون بيريز، وانه يفضل ألا يكون الى جانبه في دافوس. الجواب الآخر يترجم خطاب عرفات المفاجئ من خلال مردوده الانتخابي على الساحة الاسرائيلية، وليس من خلال وقعه الاعلامي في منتدى دافوس. ذلك ان رئيس السلطة الفلسطينية يعرف جيداً ان باراك بحاجة الى بعض الرفض الفلسطيني لاظهاره أمام الرأي العام بمظهر المتشدد مثل شارون، لهذا السبب شن حملة انتقاد لتغطية التنازلات التي قدمها الوفد الاسرائيلي، الأمر الذي قد يستفيد منه باراك ويوظفه في معركة التنافس على المواقف المتصلبة المتشددة. وفي مطلق الأحوال يبقى الخيار بين شر شارون وشر باراك أحجية تقلق عزمي بشارة في اسرائيل، كما تقلق ياسر عبد ربه في الضفة الغربية. وهو خيار بالغ الصعوبة يضطر فيه المفاوض الفلسطيني لأن يفاضل بين بطل مجزرة "صبرا وشاتيلا" وبطل مجزرة فردان! * كاتب وصحافي لبناني.