منذ خمسة وستين عاماً بدأت الرحالة والكاتبة البريطانية الشهيرة فرييا ستارك تجوالها في منطقة الشرق الأوسط ودخلت أماكن فيها لم تطأها قدم امرأة أوروبية من قبل. وخلال أكثر من نصف قرن من السفر والترحال في شبه الجزيرة العربية وأصقاع المشرق العربي الأخرى، نقلت ستارك تجربتها المميزة هذه الى الغرب ضمن أكثر من عشرين كتاباً شملت أدب الرحلات والمراسلات والسيرة الذاتية. وحازت نتيجة ذلك على ميداليات وأوسمة عدة من بينها وسام "سيدة الامبراطورية البريطانية"، إضافة الى شهادات دكتوراه فخرية من جامعات مختلفة. فرييا ستارك بلغت أخيراً المئة من عمرها وما زالت مؤلفاتها تعدّ من أروع ما كتب في أدب الرحلات. التحقيق الآتي يعرض حياة وأعمال هذه السيدة التي جذبها سحر الشرق ودفعها الى تمضية معظم أيامها في سعي مستمر الى الرحيل والاكتشاف. ولدت فرييا ستارك في 31 كانون الثاني يناير عام 1893 في باريس حيث كان والداها يدرسان الفن، ولازمها السفر منذ نعومة أظفارها، إذ اجتازت جبال الدولوميت الألب الايطالي وهي في الثانية من عمرها محمولة في سلة على ظهر والدها النحات روب ستارك. وعند بلوغها سن الثالثة كانت زارت ايطاليا وفرنسا وجالت في أنحاء بريطانيا، واستطاعت التكلم باللغات الانكليزية والفرنسية والايطالية بطلاقة وهي في الخامسة من عمرها. عملت فرييا في أيام الصبا في مصنع للسجاد في ايطاليا حيث استقر والداها. لكنها عانت خلال شبابها من أمراض التيفوئيد والتهاب الرئة وذات الجنب وشعرت بالأسى بسبب زواج والديها التعيس. وخلال الحرب العالمية الأولى التحقت بدائرة الرقابة في لندن ثم درست التمريض ومارسته. وبدأ اهتمام ستارك بالعالم العربي يظهر بوضوح خلال تلك الفترة، ودرست اللغة العربية آنذاك على يد أحد الرهبان الكبوشيين. الرحلة العربية الأولى وفي العام 1928، قررت السفر الى بغداد لتحسين لغتها العربية ودراسة اللغة الفارسية تمهيداً لاستكشاف المنطقة. وحطت رحالها في أحد أحياء بغداد الفقيرة مما أزعج أفراد الجالية البريطانية هناك الى حد كبير. واضطرت ستارك لاحقاً الى إيجاد مورد دخل لها وعملت في قسم التحرير التابع لصحيفة "بغداد تايمز" الانكليزية مقابل مبلغ قدره عشرين جنيهاً استرلينياً في الشهر. وكانت هذه أول تجربة لها في الكتابة المنتظمة، ولاقت مقالاتها الكثير من الإعجاب والتشجيع مما دفعها الى إعادة نشرها في ما بعد ضمن كتاب بعنوان "صور بغداد". لكن موهبة ستارك لم تتناسب مع طبيعة العمل المنتظم الذي يفرضه دوام الصحيفة، وقررت ترك عملها هناك وأرسلت بعض مقالاتها الى الناشر البريطاني الشاب جون مري. ونصحها مري بكتابة مقالات عن الأماكن التي زارتها وهكذا كان. وأمضت ستارك السنوات العشر التالية في التجوال في شبه الجزيرة العربية والعراق وإيران ولبنان وليبيا وغيرها من دول المنطقة، ولكنها اعجبت كثيراً بالعاصمة اللبنانية بيروت ومصيف برمانا الذي يقع على بعد نحو عشرين كيلومتراً في الشمال الشرقي منها. وكتبت خلال تلك الفترة ثلاثة كتب أشهرها "وادي الحشاشين" الذي أدخلها الى عالم الشهرة. رحلات مدهشة وكانت رحلات ستارك الأولى هذه مثيرة للدهشة. اذ جالت منطقة الشرق الأوسط وحيدة وسبرت غور مناطقها المجهولة وهي تمتطي حصاناً، أو جملاً، أو بغلاً، أو حماراً، أو أي دابة أخرى توفرت لها. وغالباً ما حطت الرحال في أي مكان خطر في بالها حتى ولو كان يعج بالأشقياء وقطّاع الطرق، ودخلت أماكن لم تطأها قدم امرأة أوروبية قبلها. واقتصر رفاق رحلتها على المرشدين والسواس المحليين، أو أحد الحراس المسلحين الذي أمره سيد من الاشراف بحمايتها. وفي بعض الأحيان، كانت ستارك ترافق قوافل البدو الرحل المسافرة على طريق التوابل القديمة وتمضي لياليها في خيمهم أو على بساط وغطاؤها فضاء الصحراء الواسع. ومهما كانت ظروف الحل والترحال التي واجهتها، كانت ستارك تصر دائماً على ان يقوم شخص غيرها بصنع قهوتها وتجهيز فراشها والاهتمام بالدواب التي تمتطيها. لكنها أقامت علاقات طيبة مع سكان المناطق التي زارتها وراعت عاداتهم وتقاليدهم. وحصلت على شهادة بذلك من أحد اشراف اليمن جاء فيها: "هذه شهادة للرحالة الانكليزية الآنسة فرييا ستارك بأنها تعرف القوانين وتسير وفقاً للدين... وهي أول امرأة سافرت من انكلترا الى حضرموت لوحدها، وهي سيدة التحمّل والقوة في السفر ومواجهة الأهوال والخطر". سجلت كل ما رأت وكانت فرييا ستارك تسجل كل ما تراه وتفعله أثناء رحلاتها هذه في آلاف من الرسائل الى اصدقائها ووالدتها فلورا. كذلك التقطت عشرات الآلاف من الصور تظهر منطقة الشرق الأوسط وأهلها، ولديها ضمن مجموعتها الخاصة الآن ما يزيد عن مائة ألف صورة. وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية، عادت ستارك الى لندن حيث التحقت بوزارة الاعلام البريطانية في ايلول سبتمبر عام 1939. وأرسلت في مهمات الى عدن ثم القاهرةوبغداد لتشكيل شبكة من المتعاطفين مع قوات الحلفاء للقيام بدعاية مضادة لدول المحور. وبعد انتهاء الحرب، عادت الى ايطاليا حيث شعرت بالوحدة والضيق، وقررت التخلص من مشاعرها هذه بواسطة الزواج من صديق لها يدعى ستيوارت بيرون. لكن زواجها انهار بعد فشلها في تغيير عادات زوجها المعقدة. وبعد فترة من الاحساس بالمرارة والخيبة، انفصلت فرييا عن زوجها وسافرت الى آسيا الصغرى، وأمضت السنوات العشرين التالية في جولات في منطقة الشرق الأوسط. وفي العام 1969، قامت بآخر رحلاتها وهي في أواخر السبعينات من العمر، لكنها توجهت هذه المرة الى جبال الهملايا حيث صعدت الى قمم أنابورنا الثلاث. وكتبت عن رحلتها هذه وقالت: "... هذه المنطقة هي آخر الخطوات نحو اللانهاية"، وأعربت عن رغبتها بأن تموت في ذلك المكان. لكنها ما زالت تعيش حتى اليوم في فيلاّ فييا كانوفا في بلدة أسولو الايطالية، وبقيت كتبها من روائع أدب الرحلات اليوم كما قبل أربعين عاماً. فما هو سر جمال كتاباتها؟ السفر ليس الهدف تقول ستارك ان "الأساس الوحيد للكتابة الجيدة هو التفكير الجيد. ورهافة الأسلوب تعتمد بشكل كلي على درجة اقترابه من الواقع". لكن ما يميز كتابات فرييا ستارك هو دقتها المتناهية في الوصف والتعبير. وهذا ليس بمستغرب خصوصاً وانها تعتبر "عدم الدقة أكبر شرور العصر، وهذا ناتج عن عدم اكتراث الناس بالحقيقة...". ولذلك تصف ستارك اسلوبها بأنه يعتمد "على الصدق الذي يشبه كتابة برقية ما، أي اعطاء رسالة واضحة من خلال كلمات قليلة". لكن دقة اسلوب ستارك لا يعني انها تملأ كتبها بوصف جغرافي ممل للمناطق التي تزورها. إذ تركز كتاباتها على الأفكار والكلمات أكثر من الجغرافيا المرئية. وعن ذلك تقول: "أنا أجد العديد من كتب السفر والرحلات مثيرة للملل لأنها تعامل السفر وكأنه الهدف الأساسي في الحياة. لكن الأمر ليس كذلك إطلاقاً". على رغم ذلك، كان السفر مصدر سعادة دائم بالنسبة لستارك ووصفت شعورها هذا وقالت: "انا أشعر وكأني في منزلي دائماً أثناء السفر، أعرف ان الشمس التي تغيب في حضرموت هي نفسها التي تغرب في شيشستر أو أي مكان آخر. وهذا يجعلني أحس بالاتحاد مع باقي العالم". لكن اللافت في كتب ستارك هو مدى صدق استقرائها للمستقبل. إذ كتبت قبل نصف قرن تقريباً عن المشكلة الفلسطينية، والعرب والنفط، وعلاقة الغرب مع الشرق الأوسط. واليوم، يشعر القارىء لكتاباتها هذه بنوع من الدهشة لقربها الشديد من الواقع الحالي. ميداليات بالجملة وربما كانت براعة هذه السيدة السبب وراء كونها المرأة الوحيدة التي حازت على ميدالية بورتون من "جمعية وسط آسيا الملكية". كذلك نالت جوائز عدة تقديراً لشجاعتها ومكانتها الأدبية وانجازاتها في السفر والرحلات. ومن بين هذه الجوائز ميدالية باك غرانت من "الجمعية الملكية الجغرافية" البريطانية، وجائزة سايكس التذكارية من "جمعية وسط آسيا الملكية"، وميدالية مونغو بارك من "الجمعية الملكية الجغرافية الاسكتلندية". الى ذلك، قلدتها ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية وسامي "صليب الامبراطورية البريطانية" و"سيدة الامبراطورية البريطانية" عامي 1953 و1972 على التوالي. لكن فرييا ستارك استقبلت جميع هذه الجوائز ببساطة ربما نتجت عن عيشها في الصحراء لفترات طويلة. وعن ذلك تقول: "انها الجوائز تشعرني بالفرح، ولكني كنت سعيدة تماماً من دونها... فالسفر هو وسيلة جيدة لتمضية حياة الانسان". من مؤلفات فرييا ستارك في أدب الرحلات: - وادي الحشاشين - أبواب الجزيرة العربية الجنوبية - شتاء في الجزيرة العربية - رسائل من سوريا - صدى الرحلة - قوس الأبراج - الشرق هو الغرب - درب الإسكندر - الركوب الى دجلة - روما على الفرات - مئذنة جام السيرة الذاتية: - ما وراء الفرات - شاطىء البخور - غبار في مخلب الأسد مقالات: - قمة في داريان أدب المراسلات: المجلدات 1 حتى 8.