اجتذبت شبه الجزيرة العربية منذ القدم اهتمامات العلماء والباحثين والرحالة. وبما انهم سطروا بعضاً مما رأوه في شبه الجزيرة العربية في عصرهم فإن تلك الكتابات تعد مصدراً مهماً من مصادر تأريخ شبه الجزيرة العربية، ويقتضي الحفاظ على تاريخها الحرص على تلك الكتابات، ودراستها دراسة موضوعية تكشف جوانبها الايجابية والسلبية. وتأتي ندوة "الرحلات الى شبه الجزيرة العربية" التي افتتحها أمير منطقة الرياض الامير سلمان بن عبدالعزيز ونظمتها دارة الملك عبدالعزيز خلال 21-24 تشرين الاول اكتوبر الماضي في اطار منهج الدارة في العناية بمصادر تأريخ الجزيرة العربية. وترجع اهمية الندوة الى ان كتابات الرحالة عن شبه الجزيرة العربية تعد مصدراً من المصادر التاريخية المهمة، وتمثل سجلاً شاملاً ومادة علمية تساعد الباحثين في التعرف الى جوانب كثيرة من تاريخها. ونظراً لأن شبه الجزيرة العربية تمثل منذ القدم نقطة جذب لكثير من الشعوب انجذب اليها الباحثون والمهتمون لما تميزت به من خصوصية وأهمية، فهي احدى مناطق الحضارات القديمة، وملتقى الطرق التجارية، ونقطة اتصال مهمة مع الحضارات الأخرى، إضافة الى ما برز في هذه المنطقة من أحداث سياسية كان لها أثر عظيم في شعوبها وصدى خارجي قوي لدى الدول الأخرى. وكان من أبرز العوامل التي دعت الرحالة للقيام برحلاتهم الى شبه الجزيرة العربية وجود المدينتين المقدستين مكةوالمدينة، والتنافس الأوروبي على الخليج العربي وقيام الدولة السعودية وامتدادها، ثم قيام الملك عبدالعزيز بتأسيس المملكة العربية السعودية. ان هذه العوامل وما رافقها من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية كانت مصدر جذب للرحالة والمبعوثين قاصدي الرسالة أو تقديم التقارير عن أحوال المنطقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عدت في ما بعد مصدراً مهماً لتاريخ شبه الجزيرة العربية، تعتمد عليها البحوث والدراسات التاريخية والجغرافية والاجتماعية. وهدفت الندوة الى التعرف الى الرحالة والمبعوثين على مختلف جنسياتهم ممن زاروا شبه الجزيرة العربية منذ مطلع القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي وحصر ما كتبوه عن المنطقة، والتعرف الى دوافعهم وتقاريرهم من خلال ما ظهر من أوراقهم، وما صدر من مؤلفاتهم، الى جانب التعرف الى تاريخ المنطقة الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من خلال كتابات الرحالة والمبعوثين وتقاريرهم ومشاهداتهم ووثائقهم. وهدفت الندوة ايضاً الى دراسة هذه الكتابات وتقديم التحليل المناسب لها وتقويمها وتصحيح أخطائها ومغالطاتها، وتقويم ما ترجم. ودارت الندوة حول خمسة محاور، الاول هو الرحالة والمبعوثون الذين زاروا شبه الجزيرة العربية منذ القرن السادس الى القرن العشرين، والثاني هو الرحالة والمبعوثون العرب الذين زاروا شبه الجزيرة العربية خلال الفترة نفسها، والثالث هو الرحالة والمبعوثون الآسيويون، والرابع هو دوافع الرحالة والمبعوثين واهدافهم، والخامس هو قيمة الرحلات الى شبه الجزيرة العربية بوصفها مصدراً من مصادر جغرافية شبه الجزيرة وتاريخها. يلخص الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني في الجامعة الاسلامية في المدينةالمنورة في بحثه عن "اهداف الرحالة الغربيين في الجزيرة العربية" ثلاثة اهداف هي: الاهداف الدينية والاستعمارية والعلمية. ويقول "في الغالب العام نجد ان تلك الرحلات خاضعة لأهداف التنصير التبشير بما فيها النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بل حتى الدينية"، اذ يرى ان حركة الاستشراق وحركة الكشوف الجغرافية خرجت من عباءة الكنيسة، وان الهدف الديني واضح بكل جلاء في انشاء كراسي الاستاذية للغة العربية في الجامعات الأوروبية بدءاً بجامعة كمبردج عام 1633. ويؤكد الشيباني فكرته بسرد رحلات بعض الرحالة الغربيين مثل رحلة الايطالي لود فيكو دي فارتيما عام 1510 وهو الذي استطاع التخفي والتظاهر بالاسلام من اجل دخول مكةوالمدينة مع الحجاج بهدف خدمة البرتغاليين. ويسرد الشيباني ايضاً رحلة الاميرال الفونسو دي البوكرك البرتغالي الذي ابحر الى البحر الاحمر وخطط لاحتلال المدينةالمنورة للاستيلاء على تابوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم والمطالبة بفديته معلناً ان ثمنه هو كنيسة بيت المقدس لكنه فشل في مساعيه. وهناك ايضاً رحلة غريغور داكودرا البرتغالي عام 1516، وارتشيبالد فوردر البريطاني الذي جاء الى شبه الجزيرة العربية ودعا الناس بكل صراحة الى المسيحية وحاول ان يبيعهم نسخاً من الانجيل. ويرى الشيباني ان الجانب الاقتصادي هو احد جناحي الهدف الاستعماري مع الجانب السياسي، اذ تميز القرن السابع عشر بالصراع بين البرتغاليين وبين شركتي الهند الهولندية والبريطانية، واخذت كل من الشركتين تسعى لاقامة علاقات تجارية مع حكام اليمن والجنوب العربي. وقد استطاع بعض التجار الاوروبيين انشاء مراكز تجارية مختلفة على بعض السواحل اليمنية والخليجية خصوصاً بعد ان عرف الاوروبيون مشروب القهوة. فقام جودريان ببعثة الى صنعاء مثلاً، وكذلك القبطان الهولندي بيتر فان دي بروك، وهنري ميدلتون وغيره وكلهم كتبوا وسجلوا ملاحظاتهم وما شاهدوه في الجزيرة العربية واليمن. ويرى الشيباني ان اهداف الرحالة جميعاً لم تخرج عن رصد أوضاع الجزيرة العربية السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، لذا نجد اول من زار الاراضي المقدسة واعطى تقريراً عن رحلته ومشاهداته للوهابيين هو الاسباني باديا لبلي الذي تنكر تحت اسم علي بك العباسي، وحتى روسيا كانت لها اطماع في المنطقة، اذ ارسل القيصر الروسي، اولريخ جاسبر سيتزن، الذي قام برحلته الى الجزيرة العربية واستطاع ان يدخل مكة ليحصل على لقب حاج وبعدها ذهب الى اليمن وقتل هناك عام 1811. وتستمر الرحلات مثل رحلة السويسري جوهان لودفغ بور كهارت عام 1814 وهو الذي دوّن بشكل دقيق ملاحظاته عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وجورج اوغست وألين الفنلندي المسمى الشيخ عبدالولي الذي جاء الى نجد عام 1845 للحصول على معلومات عن طبيعة واهداف الوهابيين، والسير ريتشارد برتون عام 1853 الذي كلف بدراسة المنطقة الواقعة بين مسقط وبلاد الحجاز، وجيرالد ليتشمان عام 1909، وجون فيليبي الذي اسلم وسماه الملك عبدالعزيز آل سعود باسم عبدالله . وهناك داوتي تشارلز الذي التحق بقافلة الحجاج عام 1876 ويعتبر كتابه "رحلات الى الصحراء العربية" من افضل كتب أدب الرحلات لما تضمنه من مواد علمية مهمة، والليدي آن بلنت الانكليزية وزوجها ويلفرد بلنت في رحلتهما الى الجزيرة العربية للبحث عن الخيول العربية الاصيلة وهي سجلت مشاهداتها في كتاب بعنوان "الحج الى نجد مهد العنصر العربي" 1881 والايطالي كارلو غوارماني الذي ركز دراسته على شراء الخيول العربية ونشر كتاب بعنوان "شمال نجد رحلة من القدس الى عنيزة في القصيم" 1866. وجوليوس اوتنغ الالماني الذي قام برحلته الى الجزيرة العربية عام 1883 وحصل خلالها على آلاف النقوش الآرامية والنبطية واللحيانية ونشرها. ويشدد الشيباني على ان هؤلاء الرحالة أسهموا في التعريف بتاريخ الجزيرة العربية على رغم ان اكثرهم جاء لغايات سياسية بحتة، ويقول "لا شك في ان القيمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لتلك الرحلات لا تقدر بثمن لانها تؤرخ لحقبة زمنية اكتنفها الغموض، كما ان الاعمال التي قاموا بها وصبرهم على مناخ الجزيرة العربية، إضافة الى فقدان الدولة الامن والامان كانت سبباً في فقدان بعضهم حياته، كل ذلك يجعلنا نحترم الجهود بصرف النظر عن تلك الاهداف التي جاؤوا من اجلها". رحلة ناصر الدرعي وتحدث عبدالخالق احمدون عن كتاب "الرحلة الحجازية الصغرى" لأبي عبدالله محمد بن عبدالسلام بن ناصر الدرعي. واشار الى قيمة هذه الرحلة من الناحيتين العلمية والتاريخية. فمن الناحية العلمية تسجل الرحلة كثيراً من الاجوبة التي أجاب بها ابن ناصر عن الاسئلة التي وجهت اليه في قضايا مختلفة من التاريخ والعقيدة والعمران والفقه، إضافة الى اشتمال الرحلة على نصوص أدبية غاية في الاهمية، واللقاء مع العلماء والاستفادة من علمهم وافادتهم. ومن الناحية التاريخية طفحت رحلة الناصري بجملة من الاحداث التي تفيد في دراسة الفترة التي عاصرها في كل بلد مر به او اقام فيه، مثل هلاك ربع الحجاج في المدينةالمنورة عام 1212ه بسبب الرياح الحارة والعطش وغلاء الاسعار، ووقوع حالات السرقة في طريق الاعراب بين آبار السلطان والمويلح، وموت الأمير أحمد بن سلطان المولى سليمان بندر العقبة أواخر محرم 1212ه، وفرض مكوس باهظة على الحجاج من قبل أبي يوسف قاسم باي. رحلة البتنوني وتحدث عبدالعزيز صالح الهلابي من جامعة الملك سعود في الرياض عن "الرحلة الحجازية لمحمد لبيب البتنوني" التي وصف فيها جدة ومساكنها ومبانيها وشوارعها ومرافقها ومجتمعها ومجمل احوالها، وحظيت مكة بمقدار اكبر من اهتمام البتنوني اذ ركز على وصف بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة. وتطرق البحث الى المزارات لاظهار مدى تغير الاحوال بين فترة الحكم السعودي في عهد الدولة السعودية الاولى وبين عودة الحكم العثماني، كما ذكر تقدير السكان وتركيبهم وعاداتهم وحاول ابراز السلبيات في المجتمع المكي مثل سوء الانفاق وتردي الخدمات الصحية وسلوك بعض المطوفين ، اما وصفه للمدينة المنورة فركز فيه على وصف مسجد الرسول الكريم والقبة الطاهرة وبيت الرسول والمزارات الاخرى. الأدب الأوردي وفي بحثه "الرحلات الى شبه الجزيرة العربية في الأدب الأوردي" يقول جلال الحفناوي ان شبه الجزيرة العربية عموماً ومكةوالمدينة والحجاز خصوصاً احتلت مكانة سامقة في الأدب الأوردي عند مسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية الذين كتبوا رحلاتهم باللغة الأوردية وعبروا عن مشاعرهم نحو هذه البقاع المقدسة، واهتموا بذكر التفاصيل الدقيقة عن تاريخ شبه الجزيرة العربية وكذلك العادات والتقاليد والجوانب السياسية والاجتماعية والجغرافية والروحية، وظهر في الأدب الأوردي فرع أدبي خاص بالرحلة الى الحرمين الشريفين يسمى أدب الرحلات الحجازية. ويقول ان كتابات الرحالة الهنود عن شبه الجزيرة العربية تعد مصدراً مهماً من المصادر التاريخية ومادة رصينة يمكن أن تساعدنا في التعرف الى كثير من الجوانب المهمة في تأريخ شبه الجزيرة العربية، لأن هذه المنطقة الحيوية من العالم تمثل نقطة جذب مهمة للآسيويين عموماً ومسلمي شبه القارة الهندية خصوصاً. وكانت زيارة الحرمين الشريفين في مكةوالمدينة من العوامل الرئيسة في الرحلات الى شبه الجزيرة العربية في الأدب الأوردي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتعددت هذه الرحلات حتى تعدت 180 رحلة، لم يترك فيها الرحالة في الهند وباكستان معلومة الا ودونوها في رحلاتهم، وظهرت دراسات عدة في الآداب الاسلامية أكدت انفراد اللغة الأوردية بهذا الكم الهائل من الرحلات الى شبه الجزيرة العربية، وهذه الرحلات تحتاج الى هيئة علمية كاملة لدراستها وتحليلها. الرحلات المغربية وفي بحث حول "صورة الملك عبدالعزيز آل سعود من خلال بعض الرحلات المغربية الى شبه الجزيرة العربية في الفترة ما بين 1348 -1356ه/1930 - 1938م" يقول عبدالكريم كريم ان سيرة الملك عبدالعزيز آل سعود منذ استرجاعه مدينة الرياض عاصمة أجداده التي توجت بالاعلان عن قيام المملكة العربية السعودية، موجودة في سبع رحلات مغربية تمت في الفترة ما بين عامي 1348 و1930 و1356 و1938م قام بها حجاج مغاربة تشرف بعضهم بالسلام على الملك عبدالعزيز أثناء موسم حج عام 1353ه/ 1935مثل الشاعر المغربي محمد بن ابراهيم الذي ألقى بين يدي الملك عبدالعزيز قصيدة تخلد مسيرته الجهادية خلال ثلاثين عاماً، والعالم محمد داود الذي أهدى الملك عبدالعزيز مجموعة من أعداد مجلة "السلام" التي كان يصدرها في مدينة تطوان وعكست أصداء المناوشات المسلحة على الحدود السعودية - اليمنية وكيف انتهى الأمر بعقد معاهدة الأخوة والصداقة بين المملكتين. ومن جهة أخرى اغتنم الشاعر محمد اليمني الناصري والمجاهد أحمد معنينو في رحلته الثانية الاحتفال الذي أقامه الملك عبدالعزيز أثناء موسم حج عام 1356ه/1938 للقيام بالدعوة الى القضية المغربية وما يعانيه الشعب المغربي من الاستعمار الفرنسي والاسباني. وأبرزت رحلات احمد معنينو الأولى 1348ه والحسن بن الطاهر وعزيز عام 1351ه والصديق الشدادي عام 1356ه جوانب مهمة في الحياة السياسية والادارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمملكة وهي في السنوات الأولى من قيامها. رحلة جون فيليبي وقدم عبدالله بن عبدالرحمن آل عبدالجبار دراسة تحليلية لكتاب "مرتفعات جزيرة العرب" لجون فيليبي، تناولت أهمية الكتاب لدارسي تاريخ المملكة العربية السعودية عموماً والمناطق الجنوبية الغربية خصوصاً خلال فترة حكم الملك عبدالعزيز، والكتاب سفر ضخم يسجل مشاهدات فيليبي في جنوب غربي المملكة خلال عام 1936 -1937 والتي شملت المناطق الممتدة من السليل شرقاً وحتى البحر الأحمر غرباً، ومن مكةالمكرمة شمالاً وحتى الحدود اليمنية جنوباً. قدم الجزء الاول من الدراسة تفاصيل رحلة المؤلف في المملكة خصوصاً المناطق الجنوبية الغربية التي تشكل جل مادة الكتاب، اذ تتبع خطى فيليبي عبر أبواب وفصول الكتاب وتحديد الأقاليم والقرى والقبائل التي زارها الرحالة وأبرز مواضيع الفصول. يركز الجزء الثاني على أهمية كتابات المؤلف عن جنوب المملكة العربية السعودية، والمجالات المتاحة للاستفادة من المادة العلمية المتوافرة عند اجراء الدراسات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية من خلال الاستشهاد بالأمثلة والنصوص التي دوّنها فيليبي. . التوصيات أوصت الندوة في ختام اعمالها بإعداد قاعدة معلومات عن أدب الرحلات وعن اعمال الرحالة الذين زاروا الجزيرة العربية ونشرها في كتاب توثيقي تحت اشراف دارة الملك عبدالعزيز والبدء في اعمال الرصد البيبليوغرافي للرحلات باللغات المختلفة كافة. وحثت الندوة الجامعات على المشاركة بفاعلية من خلال توجيه الطلاب والطالبات فى برامج الماجستير والدكتوراه لتسجيل موضوعات تتعلق بتاريخ شبه الجزيرة العربية ومؤلفات الرحالة ونقدها. كما اوصت بانشاء وحدة متخصصة لأدب الرحلات الى الجزيرة العربية فى دارة الملك عبدالعزيز تشتمل على الاصدارات والبحوث والمقالات والدراسات والمراجعات المتعلقة بالرحلات الى شبه الجزيرة العربية وترجمة الرحلات التي دونت باللغات غير العربية ونشر المناسب منها في سلسلة متخصصة مع التعليقات اللازمة. ودعت الى اعداد دراسات متخصصة لنقد ومراجعة وتصحيح الاخطاء والمغالطات التى وردت في مؤلفات بعض الرحالة الغربيين ونشر هذه الدراسات بعدد من اللغات في اصدار خاص. وأوصت بقيام دارة الملك عبدالعزيز باعداد كشاف علمي يفهرس المواد الواردة في كتب الرحلات الى شبه الجزيرة العربية بحسب مواضيعها وتخصيص جائزة تشجيعية لمن يقدم وثائق ومخطوطات عن شبه الجزيرة العربية.