تتصدر قضية الاستاذ الجامعي الدكتور نصر حامد أبو زيد قائمة الاحداث البارزة التي شهدتها حركة الثقافة المصرية خيال العام 1993. فالقضية، بتفاعلاتها وبالسجالات التي شهدتها، كادت تغطي علي كل ما عداها، على الرغم من ان مجموعة من الاصدارات الجديدة والمسرحيات والافلام والمواسم الابداعية والمهرجانات التي لا حصر لها، جاءت لتميز الحصيلة الثقافية في فترة حاسمة شهدت رحيل عدد من المثقفين البارزين ممن لعبوا دوراً اساسياً في الحياة الفكرية والابداعية، مصرياً وعربياً. ففي شهر نيسان ابريل الماضي، تفجرت أزمة في جامعة القاهرة، عقب رفض لجنة الترقيات - وهي "لجنة علمية" - ترقية أبو زيد. ولم تمض ايام الا وكانت "القضية" انفجرت خارج اسوار الجامعة، لتثير سجالاً لم تشهده مصر منذ العشرينات، ولتعيد الى الاذهان ما اثاره ذلك العهد من صدور كتب مثل "الاسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرزاق، و"في الشهر الجاهلي" لطه حسين. فلجنة الترقيات اعتبرت اعمال الدكتور أبو زيد "تحريفاً واساءة الى القيم الروحية"، وغير جديرة بالتالي بأن تعتبر ابحاثاً علمية جادة، لذا أوصت بعدم ترقية مؤلفها. وأقرت جامعة القاهرة توصيات اللجنة، فكان ان تحرك قسم اللغة العربية في كلية الآداب ضد القرار، واعتبر قرابة 70 استاذاً انه قرار ظالم اذ ليس هناك اي غبار على الكفاءة الاكاديمية للدكتور أبو زيد الذي يستحق الترقية دون ادني شك. هكذا خرجت القضية من الجامعة الى الساحة الثقافية والاعلامية، وسرعان ما تخطت الاطار المحلي لتصل اصداؤها الى اكثر من عاصمة عربية وغربية. وشاركت أقلام مصرية بارزة في الادلاء برأيها فوق صفحات الصحف والمجلات، كما دخل دائرة النقاش كتاب وسياسيون ورجال دين، فتحول الحادث الجامعي الى قضية رأي عام. ولم يفلت ابو زيد من تهديد الارهابيين الذين اعلنوا تجنياً "كفر" الرجل و"ارتداده"، فأصبح هدفاً لانتقادات وهجمات شرسة من قبل خطباء وكتاب لم يقرأوا اياً من ابحاثه. لا بل ان الامر بلغ بمنتقديه حداً فاق كل عبثية: فبعد "تكفيره"، وباعتباره زوجا لامرأة مسلمة هي الدكتورة ابتهال يونس استاذة حضارة القرن العشرين في قسم اللغة الفرنسية في كلية آداب القاهرة، رفع احد المحامين المتشددين دعوى قضائية للتفريق بين أبو زيد وزوجته والحكم بارتداده، وذلك امام دائرة الاحوال الشخصية في محكمة الجيزة الابتدائية. وانقسم الرأي العام المصري الى فريقين: الاول يدعو الى عزل الكاتب فكرياً، وحتى الى تصفيته جسدياً، والثاني يستميت في الدفاع عن نزاهة الرجل، وجدارته الاكايمية، وحريته الفكرية. وبات البعض يخاف عليه من غدر المتطرفين، ومن المصير البشع الذي لاقاه كاتب مصري اخر هو فرج فودة قبل عامين. ومن الذيول المفجعة لقضية الدكتور أبو زيد، وفاة الكاتب والصحافي محمد جلال كشك، احد اشد منتقديه، في الاسبوع الاول من كانون الاول ديسمبر اثناء مناظرة تلفزيونية بينهما، كانت تجريها احدى الاقنية الاميركية بين مصر والولايات المتحدة مكان اقامة كشك، عبر الاقمار الاصطناعية. قوافل الثقافة و"أولاد حارتنا" ومناخ الارهاب طغى، بشكل عام، على الحياة الثقافية المصرية خلال عام 1993. حيث تحرك الادباء والفنانون في 8 نيسان ابريل الماضي، فتظاهروا وألقوا كلمات عاصفة ضد الارهاب من قلب "مقهى وادي النيل" ميدان التحرير في القاهرة الذي كان تعرض لعملية تفجير ذهب ضحيتها الأبرياء. وفي 13 نيسان ابريل، قررت وزارة الثقافة اطلاق "قطار الثقافة" الذي طاف على المحافظات حاملاً خطاب التنوير في مواجهة التطرف. لكن حملة التوعية الشعبية هذه لم تلبث ان توقفت مهمتها فجأة، بعد جدل ثقافي حاد، وهي لم تنجز سوى رحلة واحدة! وخلال العام، أصدرت "الهيئة المصرية العامة للكتاب" في القاهرة، مجموعة كتب تحت عنوان "المواجهة"، تهدف الى نشر فكر التنوير، ومقاومة الارهاب الفكري. شملت السلسلة مولفات معروفة لكتاب عرب من رواد الفكر النهضوي، او لكتاب بارزين من العقود الاخيرة. كما تجمع كتاب مصر وشعراؤها في "اتيلييه القاهرة" في منتصف حزيران يونيو مستنكرين اغتيال الكاتب الجزائري الطاهر جعوط، وأصدر الشاعر أحمد عبده المعطي حجازي بياناً شهيراً يندد بالارهاب والتطرف، ووقعه عدد كبير من اهل الثقافة والابداع. وضجت الاوساط الادبية بأصداء حملة صحافية ضد نجيب محفوظ، شنتها صحيفة حكومية "جديد"، محاولة اعادة فتح ملف "اولاد حارتنا". الا ان حجم الحملة المضادة التي حشدت لها ابرز الاسماء المصرية، ما لبث ان وضع حداً نهائياً لتلك المحاولة الفاشلة. وفي آب اغسطس صرح محفوظ لمجلة "لوبوان" الفرنسية انه، رغم التهديدات الكثيرة التي وصلته، لايزال منتظماً في كتابة مقالته الاسبوعية في "الاهرام" وانه يرفض تأمين اي حراسة شخصية له! سهير البابلي تعتزل ... في اطار المناخ نفسه الذي طبع العام الثقافي، صدرت مجموعة كتب مجهولة المصدر ضد وزارة التعليم، وتحمل عنوان "المؤمرة". جاءت الكتب جزءاً من ردة فعل بعض المتشددين على سياسة وزير التعليم الهادفة الى تطوير مناهج التعليم في مصر. وفي شهر تموز يوليو اعلنت الفنانة سهير البابلي اعتزال الفن وارتداء الحجاب. وشنت الممثلة المعروفة هجوماً عنيفاً على الحياة الفنية برمتها. وكان من الطبيعي ان ينعكس هذا المناخ المتوتر على المناسبات الثقافية الكبرى في القاهرة. فمهرجان "المسرح التجريبي" الذي سلط الضوء، كالعادة، على الحالة المذرية للمسرح المصري جاء يحمل رداً واضحاً على الخطاب المتزمت، بينما خصص "مهرجان القاهرة السينمائي" السابع عشر، ندوات وحلقات لمناقشة موقع الابداع من العنف والارهاب. ولم تمر التظاهرة بسلام رغم الحماية المشددة، اذ قام متطرفون - قبل يومين من انتهائها - باعتداء مسلح على صالتي "ماجدة" و"المروة" اللتين تعرضان أفلام التظاهرة في منطقة حلوان، مخلفين عدداً من القتلى والجرحى. الوجوه التي غابت من السمات الاساسية للعام 1993، رحيل عدد لافت من المبدعين والمفكرين الذين يأتي رحيلهم اشبه بصرخة يأس واحتجاج، او اقرب الى انسحاب صامت يعلن انتهاء مرحلة خصبة في مسيرة الحركة الثقافية العربية. ففي 25 شباط فبراير غاب الاديب محمد حسن الزيات وزير الخارجية الاسبق. وفي 26 نيسان ابريل مات الجغرافي الكبير الدكتور جمال حمدان محترقاً في شقته حيث كان يعيش في عزلة خصبة، "غريباً في وطنه" بتعبير ابي حيان التوحيدي. ثم انطفأ في أيلول سبتمبر الفيلسوف زكي نجيب محمود، تاركاً في الحياة الفكرية فراغاً لا يعوض في المرحلة الدقيقة التي نعيش. وفي تشرين الاول اكتوبر انطفأ الناقد المعروف علي شلش، كما رحل الناقد احمد محمد عطية واخيراً الصحافي محمد جلال كشك. وشهد علم الفن غياب عدد من الوجوه البارزة التي احبها الجمهور، وتركت بصماتها على العقود الاخيرة من هذا القرن. ففي يومين متتاليين من شهر آذارمارس، رحل الفنان المسرحي عبدالله غيث وقائد الاوركسترا احمد فؤاد حسن. وفي 3 نيسان ابريل غادرنا الفنان القدير عبدالعظيم عبدالحق. وفي 28 من الشهر نفسه، عاد من باريس جثمان الكوريغراف علي رضا بعد صراع مرير مع المرض. وفي 11 ايار مايو انطفأت الفنانة الرقيقة المعتزلة هالة فؤاد، ثم توفي الفنان صلاح قابيل، وبعدهما رحل الموسيقار الكبير بليغ حمدي بعد رحلة المرض والتشرد الطويلة في عواصم الغرب. وأقيمت في مصر مهرجانات لا حصر لها، حتى أطلق أحمدعبدالمعطي حجازي على وزارة الثقافة لقب "وزارة المهرجانات"، فما كان من وزير الثقافة فاروق حسني الا ان اعرب عن اعتزازه بهذه التسمية! فقد احتفل "معرض القاهرة الدولى للكتاب" بيوبيله الفضي، وأقيم "مهرجان الشعري في كلية التربية جامعة الاسكندرية، وندوة "العرب في عالم متغير"، وندوة "المنظمة العالمية للملكية الفكرية"، و"مؤتمر الفكر والابداع العالمي" برئاسة المفكر لطفي الخول، و"مؤتمر الفكر والابداع العالمي" برئاسة المفكر لطفي الخولي، و"مهرجان الاسماعيلية الدولي الثالث"، و"المؤتمر العلمي الثالث للموسيقى"، ومهرجان السينما التسجيلية والفن التشكيلي، واحتفالات الاسكندرية في مناسبة مرور مئة عام على ميلاد بيرم التونسي، و"مؤتمر الطهطاوي" في سوهاج، ومهرجان العيد المئوي لميلاد محمود تيمور، و"المهرجان الثالث للافلام الروائية"، و"المهرجان الدولي الثاني للموسيقى الشعبية" في اسيوط، و"مهرجان الاسكندرية السينمائية الدولي"، و"مهرجان القاهرة الدولي الخامس للمسرح التجريبي"، و"معرض القاهرة الدولي العاشر لكتب الاطفال"، و"مهرجان الشعر العربي الاول"، و"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي السايع عشر". واستمر السجال حول "الخصخصة" ثقافياً، ودفع جزء من القطاع العام المسرح، السينما في أحضان الرساميل الخاصة ومنطق السوق. اما على صعيد المعارك الادبية، فإن رواية "دنقلة" للكاتب النوبي ادريس علي، أثارت حفيظة اهل النوبة لأن الكاتب اوردي اماكن وأسماء وأحداثاً حقيقية تطال "شرفهم"، فعقدوا "محاكمة" للكاتب، وأدانوه وطلبوا منه الاعتذار والا تم اللجوء الى القضاء. كما اثارت جوائز الدولة التقديرية ردود فعل واسعة، اذ فازت بأغلبها هذا العام شخصيات تتولى مناصب حكومية رئيسا مجلس الشعب والوزراء. وما زال المعنيون يذكرون حتماً حكاية الدعوى القضائية التي رفعها محام مصري ضد الكاتب رجاء النقاش، بصفته رئيس تحرير "الكواكب"، على اثر تعليق كتبه الاخير على حوار اجرته المجلة مع سهير البابلي. وطالب المحامي بسحب كتب النقاش من الأسواق. كما غضب المثقفون المصريون من تجميد عضوية "اتحاد كتاب مصر" في "الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب" خلال اجتماع عمان. وأثير جدل واسع حول الآثار المصرية الموجودة في اسرائيل منذ 25 عاماً، وشكلت لجنة لاستعادتها. ووجهت انتقادات الى المفكر حسن حنفي بسبب تصريحه في ندوة أدبية ان "هوس البحر" لراوية راشد تتفوق على ادب نجيب محفوظ، مع ان نقاداً معترين شككوا في كون رواية راشد صاحبة الرواية لها، والقضية ما زالت امام المحكمة. ومن الاحداث الثقافية المهمة الاخرى استقلال "دار الكتب المصرية" عن هيئة الكتاب، وهو مطلب ثقافي ملح منذ سنوات. وصدر في القاهرة "أخبار الادب"، أول صحيفة اسبوعية متخصصة في شؤون الثقافة، و"ابن عروس" اول مجلة للشعر العامي في مصر. وبين زوار مصر البارزين خلال العام نشير الى نادين جورديمر الحاصلة على جائزة نوبل 1991، والمفكر الاميركي الشهير نعوم تشومسكي.