تشهد إيران جدلاً ساخناً أساسه العلاقات الايرانية - الأميركية، بين مؤيد لاعادتها ومعارض ما زال متمسكاً بوصف الإمام الخميني لها بأنها علاقة الحمل والذئب. وبين الفريقين يقف الصامتون الذين يعملون من وراء الستار. ومع حلول الرابع من تشرين الثاني نوفمبر والتظاهرات المعتادة في مثل هذا اليوم من كل عام أمام المبنى السابق للسفارة الأميركية في طهران، يصبح الحديث عن العلاقات الايرانية - الاميركية ذا مغزى خاص. وفي هذا العام، وكأي عام يمرّ على احتلال السفارة الأميركية من قبل مجموعة "الطلبة السائرون على نهج الإمام الخميني"، ترتفع لهجة التنديد بالولاياتالمتحدة والداعين لاعادة العلاقات معها، لكن الرابع من تشرين الثاني الجاري يختلف عن الأيام السنوية التي سبقته كونه يحل وإيران تشهد جدلاً لم يتوقف بعد عن ايجابيات إعادة العلاقات الايرانية - الأميركية وحسنات المبادرة الايرانية في هذا الموضوع، ذلك ان دعاة العودة الى الحظيرة الأميركية - تحت واجهة إعادة العلاقات الديبلوماسية مع واشنطن - أثاروا هذا الموضوع قبل أيام قليلة من حلول ذكرى احتلال السفارة الأميركية التي أطلق عليها "الطلبة الثوريون" اسم "وكر الجاسوسية الأميركية" في توقيت دقيق وتنظيم مدروس قيل ان جماعة رابطة علماء الدين المناضلين - روحانيت - تقف وراء هذا الطرح الجديد الذي اختلف وتمايز عن طروحات مماثلة بأنه قدم هذه المرة مباشرة الى مرشد الثورة آية الله علي خامنئي. وأما التفاصيل فتعود أشهرا عدة الى الوراء قبل أن يقوم سعيد رجائي خراساني "الليبرالي الملتحي" وعضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان بتقديم اقتراح بعودة العلاقات الايرانية - الأميركية ويسلمها باليد الى مرشد الثورة خامنئي وفيها دراسة مفصلة - لم يكشف النقاب عنها بعد - عن النظام الدولي الراهن في ظل غياب الاتحاد السوفياتي كقوة كبرى تعادل سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية. فقبل الاحتفال بعيد الثورة في 11 شباط فبراير الماضي طلع الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية سعيد رجائي خراساني بمقال مثير نشرته صحيفة "رسالت" التي تمثل جناح روحانيت المسيطرة على البرلمان الحالي دعا فيه الولاياتالمتحدة والرئيس الأميركي كلينتون الى القيام بخطوات تقريبية مع ايران "إذا كان يريد حقاً إعادة العلاقات الايرانية - الأميركية". صراع روحانيت ورحانيون وقد يبدو الفرق كبيراً بين اقتراح خراساني السابق ودعوته الحالية مرشد الثورة خامنئي للموافقة على ان تصبح إيران صاحبة المبادرة في مشروع إعادة العلاقات مع الولاياتالمتحدة، لكن العارفين بشؤون جناح روحانيت الذي ينتسب اليه خراساني يدركون ان الأمور تجري في مواقيتها لأن هذا الجناح الذي أسقط منافسيه من جماعة علماء الدين المجاهدين "روحانيون" والحق بهم هزيمة كبرى في انتخابات مجلس الشورى في الربيع الماضي لم يحقق ما يريد من اكتساح غالبية مقاعد البرلمان والتضييق على الرئيس رفسنجاني ومشاركته - كرهاً - في صنع بعض القرارات المهمة، سواء في الداخل أو الخارج، لو لم يرفع شعار الاعتدال في مقابل التطرف والتشدد اللذين ميزا عمل الجناح المنافس، في وقت كانت إيران خارجة لتوها من حربها الطويلة مع العراق وفي ظل تحولات اقليمية ودولية وضغوط اقتصادية داخلية ونسيج اجتماعي يشكو من رقع كثيرة غير متجانسة يجمعها الولاء الديني والوطني، قبل أن تتضح الأحوال ويصبح المواطن الايراني مشغولاً بلقمة العيش ومشغوفاً بشعار الانفتاح منتظراً نتائجه التي ما زالت في الخيال. في ظل تلك الظروف صعدت "روحانيت" الى سدة السلطة التشريعية وزاحمت رفسنجاني في قيادته السلطة التنفيذية بعد ان سيطر أقطابها والموالون لها على القضاء الذي يلعب دوراً مهماً جداً في إيران. تحضير الرأي العام وفي مثل هذه الأحوال كان طبيعياً ان يتركز العمل على إعادة العلاقات بين طهرانوواشنطن. واعتمد الساعون الى ذلك طرائق شتى من جس النبض الى تحديد بارومتر المزاج الشعبي ومدى حساسيته حيال موضوع خطير كهذا. في هذا الاطار مارست جماعات الضغط الموالية لعودة العلاقات بين طهرانوواشنطن طوال العام الجاري دوراً أقل ما يقال عنه انه يهدف الى تحضير الرأي العام الايراني للقبول بمبدأ إعادة العلاقات الايرانية - الاميركية من خلال إبراز الحديث عن الخطر الذي يمكن أن يتهدد إيران اذا ظلت بعيدة عن الولاياتالمتحدة. واللافت هنا أن الصحف الايرانية، المتشددة والمعتدلة على حد سواء، ساهمت من دون أن تدري في الأغلب في الوصول الى هذه النتيجة التي خلص اليها رجائي خراساني في الاقتراح الذي قدمه الى خامنئي. وكانت الصحف ولا تزال، ومن ورائها القوى المتشددة، بشكل خاص، سعيدة للغاية عندما يصدر تصريح عن مسؤول أميركي أو اسرائيلي يعتبر فيه إيران مصدر قلق للولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط، وفي موضوع السلام على وجه التحديد، وهذا الأمر يفيد منه المطالبون بعودة العلاقات مع واشنطن إذ يستثمرونه في التهويل بامكان تعرض إيران لضربة عسكرية أو حصار اقتصادي أو عزلة دولية. ومن هذا المنطلق أعد خراساني اقتراحه الذي اطلعت "الوسط" على مضمونه، وفيه تحذير من مغبة الإصرار على القطيعة مع الولاياتالمتحدة ونبذ العلاقات معها. وجاء في الاقتراح أيضاً ان الغرب والولاياتالمتحدة يسعيان الى إحلال الخطر الايراني محل الخطر الشيوعي السابق على منطقة الخليج والشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وأكثر من ذلك يحذر خراساني من أن تصبح إيران "عدوة" للعرب بعد الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي. وتحدث خراساني عن محاسن إعادة العلاقات مع واشنطن وتمكن إيران من التحرك بسهولة في المحافل الاقليمية والدولية. وتجدر الاشارة ايضاً الى ان الرئيس رفسنجاني الذي يفضل الصمت في مثل هذه الحالات، أي عندما يثار الحديث عن إعادة العلاقات مع الولاياتالمتحدة، قال في وقت سابق من هذا العام انه يتطلع الى اقامة علاقات متوازنة مع جميع الدول، باستثناء اسرائيل، وأكد - في شباط فبراير الماضي - انه ليس من سياسة حكومته إثارة العداء مع الدول، وقال "سنعمل على تعريف العالم بثورتنا، لكن ذلك لا يعني أبداً اننا سنتدخل أو نتواجد خارج حدود دولتنا". وأوضح في مؤتمره الصحافي النادر في ذلك الوقت ان قطع العلاقات مع الولاياتالمتحدة نتاج عرضي للسياسة التي اتبعتها الادارة الأميركية، وأعرب عن أمله في عودة العلاقات مع واشنطن، شرط ان تفرج الإدارة الأميركية عن الأرصدة الايرانية المجمدة منذ أكثر من 15 عاماً. وما فتئ الرئيس الايراني يكرر في أكثر من مناسبة رغبة بلادة في تطوير علاقاتها مع الدول الصناعية من دون استثناء، وحتى الانتقادات التي يوجهها بين الحين والآخر للولايات المتحدة لا تخرج عن دائرة "العتاب واللوم" لأن واشنطن تعمل على تضييق الفرص الايرانية للحصول على التكنولوجيا المتقدمة. ضربات محدودة؟ ومن المفارقات في موضوع العلاقات الايرانية - الأميركية ان الحديث في طهران لا يشير بتاتاً الى تنامي العلاقات التجارية، خصوصاً النفطية بين البلدين، إذ أرسلت العاصمة الايرانية وفوداً اقتصادية ونفطية مهمة الى واشنطن حيث اجتمعت مع رسميين أميركيين، بل أن أحد تلك الوفود الذي ترأسه مستشار لوزير النفط غلام رضا آغا زاده بحث في ملف الشركات الأميركية التي كانت ناشطة في إيران وتعويض خسائرها بعد نجاح الثورة، في وقت كانت التقارير الايرانية الخاصة تشير الى ما يمكن وصفه بخطوات نوعية تعكس ملامح المرحلة المقبلة للعلاقات بين الطرفين. وعودة الى تفاصيل اقتراح خراساني وخلفياته في شأن إعادة العلاقات مع واشنطن، فبعد مقال رجائي خراساني الذي أعقبه رفسنجاني بتصريحات بدت ايجابية عن هذه العلاقات، وبينما كانت الاعتراضات تنهال على المقال وكاتبه، حتى من جماعة "روحانيت" التي تسانده وتشاركه الرأي، أجرى وزير الخارجية علي أكبر ولايتي مقابلة صحافية خطط لها من قبل، لم يستبعد فيها استئناف العلاقات بين طهرانوواشنطن لكنه توقع أيضاً تعرض إيران لضربات عسكرية محدودة في ظل الادارة الأميركية الجديدة التي قال عنها أنها لن تختلف كثيراً عن الادارة السابقة التي مارست هذا النوع من الضربات العسكرية مع ايران. وأشار بالتحديد الى حادث اصطدام طائرات هليوكوبتر أميركية في صحراء طبس كانت تشترك في عملية عسكرية للافراج عن الرهائن في السفارة الأميركية، واسقاط طائرة الايرباص الايرانية المدنية بواسطة صاروخ أطلقته فرقاطة أميركية في مياه الخليج أثناء الفصل الأخير من الحرب العراقية - الايرانية، وهجمات البحرية الأميركية على منصات النفط الايرانية في الخليج. الانفتاح بشروط وبينما تمضي القيادات الايرانية في سياسة بث الرعب وتهيئة المقدمات النفسانية لاعادة العلاقات مع الولاياتالمتحدة الأميركية يرفض مرشد الثورة خامنئي بشدة اقتراح خراساني ويصف الذين وضعوه ب "السذج" و"المرعوبين"، من دون ان يغلق الباب نهائياً أمام رغبة رفسنجاني في الانفتاح على جميع الدول، شرط ألا تفقد الثورة الاسلامية مبررات قيامها والاستمرار في نظام الجمهورية الاسلامية. وهذا الموضوع أشار اليه رفسنجاني في حديث سابق بقوله أنه لا يجد مبرراً لاستمرار قطع العلاقات الايرانية - الأميركية اذا تمكنت واشنطن يوماً ما من اصلاح سياساتها حيال إيران. وبذلك يصبح واضحاً أن الرأي الذي تريد طهران تسويقه نحو الإدارة الأميركية الجديدة يكمن في أن تقوم واشنطن بالمبادرة لكي يتسنى للطرفين ترتيب عملية اخراج لإعادة العلاقات بينهما. وقد لا يبدو في الأمر أية غرابة إذا استضافت العاصمة الأميركية ومدن أخرى في الولاياتالمتحدة ندوات ومؤتمرات عن إيران والعلاقات بينها وبين الولاياتالمتحدة، وبعض تلك المؤتمرات والندوات يجري على مرأى ومسمع الرسميين الايرانيين الذين يشاركون فيه بصورة أو بأخرى، وكل ذلك من أجل تهيئة المزاج الشعبي الذي ما زال يعيش أيام الخميني وعداوته التقليدية للولايات المتحدة. وكانت "الوسط" نشرت في عددها الرقم 73 تاريخ 21 حزيران يونيو 1993 عشر توصيات خرج بها أهم مؤتمر عقد في واشنطن عن العلاقات الايرانية - الأميركية. وقال أحد الذين شاركوا فيه ل "الوسط" ان محاضرته في المؤتمر المذكور كانت خلاصة حوار أجراه مع المسؤولين الايرانيين الذين أبدوا - كما يقول - رغبة في إعادة العلاقات مع واشنطن. من يشتري النفط؟ ولكن لماذا هذا الجفاء بين البلدين، في وقت تحتل الولاياتالمتحدة المرتبة الأولى في قائمة مستوردي النفط الايراني؟ قبل أيام بثت الاذاعة الايرانية تعليقاً يشكل اجابة على هذا السؤال، قالت فيه ان الادارة الأميركية توصلت الى نتيجة تشير الى أن سياساتها في الخليج والشرق الأوسط ستبقى محكومة بالفشل من دون مشاركة إيران، وأضافت نقلاً عن مسؤولين ايرانيين ان الادارة الأميركية الحالية تعمل جاهدة لاعادة العلاقات مع ايران، أو فرض حظر تجاري دولي عليها وعزلها، إذا فشلت في ذلك. وكانت الاذاعة الايرانية تعلق على ضغوط تتعرض لها المانيا واليابان لتعديل علاقاتهما التجارية مع ايران، وقالت ان إيران تحظى بأهمية اقتصادية وموقع استراتيجي مهم يدفع الدول الصناعية الى اجراء اتصالات سرية وعلنية معها. وكشفت ان الاتصالات بين طهرانوواشنطن مستمرة منذ عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ولم تنقطع يوماً في عهد الرئيس كلينتون. وفي تعليق آخر قالت الاذاعة ان ما تتعرض له إيران خصوصاً لجهة الضغط على الدول التي تربطها بها علاقات جيدة، هدفه تحسين العلاقات الايرانية - الأميركية وقالت ان إدارة الرئيس كلينتون وصلت الى استنتاج يقول ان "سياساتها في الشرق الأوسط ستصبح كالنقش على الماء من دون إيران". المعارضة ولاحظ المراقبون في موضوع الجدل الأخير الذي شهده مجلس الشورى واعتراضات بعض اعضائه على رسالة رجائي خراساني ان رئيس المجلس ناطق نوري قطع على المعارضين الطريق وطالب خراساني بالامتناع عن "حقه" في الرد على المعارضين داعياً الى تجنيب البرلمان الخوض في مسائل خلافية، ما أثار حفيظة المتشددين من أنصار "روحانيون" الذين تساءلوا أين يمكن مناقشة هذه المواضيع الخطيرة اذا لم يكن بالامكان مناقشتها في البرلمان؟ خصوصاً ان سيف القانون مسلط على الصحف بعد اعتقال رئيس تحرير صحيفة "سلام" عباس عبدي الذي كان أحد الطلبة البارزين الذين احتلوا السفارة الأميركية قبل 14 عاماً. والطريف ان جماعة "روحانيون" التي ينتسب اليها عبدي وكانت جمدت نشاطها السياسي إثر هزيمتها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، استأنفت العمل السياسي، وقال زعيمها رئيس مجلس الشوري السابق مهدي كروبي ان مرشد الثورة طلب العودة الى مزاولة العمل السياسي، وأول عمل قامت به هو إصدار بيان شديد اللهجة يندد بالولاياتالمتحدة ويحض على محاربتها والتجمع في تظاهرات يوم الرابع من الشهر الجاري أمام مبنى السفارة الأميركية السابق. ودعت الجماعة أحد أقطابها البارزين علي أكبر محتشمي وهو من المغضوب عليهم واسمه على "اللائحة السوداء" وممنوع من السفر، ليلقي خطاباً أمام المبنى الذي أصبح أحد قواعد الحرس الثوري. وترى أوساط مطلعة ان خامنئي يريد من خلال السماح ل "روحانيون" بالبروز السياسي ثانية اعطاء الرئيس رفسنجاني قدراً أكبر من التحرك والمرونة واللعب بأوراق عدة تحقق لإيران أهدافها في إعادة العلاقات مع واشنطن من دون تنازلات كبيرة.