"... العرب قادمون من موروبو قريباً... سنبقى في كوبوكو، ولن نعود الى كايا حتى يعود السلام الى المنطقة...". العرب هم الجيش السوداني، وموروبو أخر بلدة استعادتها القوات السودانية من "الحركة الشعبية لتحرير السودان" على الحدود الاوغندية. وكايا بلدة سودانية على الحدود مع اوغندا فر منها سكانها الى كوبوكو داخل اوغندا. والمتحدثون هم بعض من اللاجئين السودانيين الفارين من الحرب في المنطقة. فالسودانيون اهل كايا، او بعضهم على الاقل، لا يعتبرون انفسهم عرباً. وغالبية الجنوبيين في السودان لا يعرفون لأنفسهم هوية انتماء سوى الهوية القبلية. اذ ان الحرب الاهلية المندلعة في شكل متقطع، منذ نحو اربعين عاماً في هذا البلد مزقت الروابط بين معظم الاقاليم الجنوبية وبين الخرطوم في شمال البلاد. وأدت هذه الحرب خلال السنوات العشر الماضية، استناداً الى إحصاء نشرته الاممالمتحدة منذ نحو اسبوعين، الى مقتل 3،1 مليون شخص، وتشريد نحو ثلاثة ملايين آخرين نزحوا في داخل البلاد او تهجروا خارجها. فانتشروا في المناطق الحدودية لست دول من اصل تسع تحيط بالسودان هي اوغندا واثيوبيا وزائير وكينيا وتشاد وافريقيا الوسطى. وتوقفت المعارك جزئياً اخيراً في الجنوب بين القوات الحكومية وبين "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، لكن التوتر الذي يصاحبه معاناة اللاجئين الهائمين في الغابات لا يزال يسود المكان. وكايا التي كانت حتى وقت قريب بلدة مزدهرة تتوافر فيها كل اسباب الحياة الآمنة والمستقرة، بدت مخيفة، خالية الا من عساكر قرنق. سكانها الخمسون الفاً هجروا منازلهم واكواخهم الى الغابات على تخوم منطقة كوبوكو التي تبعد مسافة عشرة كيلومترات من الحدود السودانية. وتسيطر على كايا الان "الحركة الشعبية لتحرير السودان" التي يتزعمها العقيد جون قرنق، وصارت حالياً القاعدة الخلفية لحركته. ويقول القائد العسكري في المنطقة بيتيا ديليغا ل "الوسط"، ان موروبو التي تبعد مسافة عشرين كيلومتراً شمال كايا سقطت في 8 آب اغسطس الماضي عندما تقدمت نحوها قوات حكومية برية تحت غطاء جوي. وذلك بعدما تركت هذه القوات حامية يي في نهاية تموز يوليو الماضي. وكانت القوات الحكومية تحتاج الى ثلاثة اسابيع للوصول الى موروبو، لكن ديليغا اصر على ان الهجوم كان مفاجئاً. ويتهم ديليغا حكومة الخرطوم بخرق وقف النار المتفق عليه دولياً، لكنه لا ينسى في الوقت نفسه وضع اللوم، في سقوط موروبو، على "الحركة الشعبية المتحدة لتحرير السودان" التي يتزعمها رياك مشار، المنشق عن قرنق. ويقول: "كنا نقاتل الجيش الحكومي السوداني، وفجأة اكتشفنا اننا نقاتل اخوتنا في جناح الناصر جناح مشار في الوقت نفسه". واياً كان السبب في سقوط البلدة، فان "الحركة الشعبية" - جناح قرنق، خسرت بسقوط موروبو طريق امدادات مهم في جنوب السودان. فهي تقع على احد الطرق الشرقية الغربية التي يستخدمها رجال قرنق لامداد قواتهم في اقليم غرب الاستوائية بالاسلحة والمؤن. ورغم الحصار الشديد الذي يفرضه الجيش الحكومي على "الحركة الشعبية"، فان ديليغا يؤكد: "ان قواتنا تحاصر موروبو الان، وسنستعيدها قريباً". لكن المسؤولين في حركة قرنق يرددون الكلام نفسه منذ نحو عامين وحتى اليوم اثر سقوط كل مدينة وبلدة وقرية في ايدي الجيش الحكومي. كذلك كانوا ولا يزالون يرددون انهم سيستعيدون مواقعهم خلال موسم الامطار الذي يعيق تقدم الدبابات والعربات العسكرية الحكومية. ومر، منذ بدء الهجمات الحكومية وحتى اليوم موسما امطار، ولم تسترد قوات "الحركة الشعبية" قرية واحدة. بعد سقوط موروبو، فر سكان بلدة كايا القريبة الى داخل الاراضي الاوغندية تاركين خلفهم كل ممتلكاتهم. وتقع كايا بين هضبتين، احداهما في السودان والثانية في اوغندا. ويفصل بين البلدين خط رفيع مرسوم على الجسر الضيق فوق نهر كايا. وعلى مسافة خطوات من الجانب السوداني، بدا ميزان ضخم خلفه مستودع كبير. وكان وجوده هناك لغزاً سرعان ما بدا حله سهلاً، عندما تذكرت ان حكومة اوغندا كانت تمنح قرنق معونات وامدادات عسكرية سراً عبر الحدود انطلاقاً من كايا. وفسر مراقب للحرب السودانية العلاقة القوية بين "الحركة الشعبية" واوغندا، بان الرئيس الاوغندي يوري موسوفيني يؤمن بمنطق بسيط، لكنه منطق قاتل. اذ يرى في الحرب الاهلية السودانية محاولة من العرب للسيطرة على الافارقة، لذلك يشعر انه مضطر لمساعدة الافارقة، ويعتبر نفسه حصناً ضد انتشار الموجة الاسلامية الاصولية في القارة السوداء. ولهذا السبب ايضاً، تعتبر كايا شرياناً حيوياً للرئيس موسوفيني كما للعقيد قرنق. وكان ذلك احد الاسباب الرئيسية التي حدت بالجيش الحكومي التوجه نحوها والضغط عليها من موروبو. الامر الذي ادى الى فرار اهلها من دون حصول أي معارك داخلها. وفي وسط كايا، شارع طويل على جانبيه مبان منخفضة وُضع على بعضها لافتات في شكل ظاهر كُتب عليها "وزارة الصحة.. وزارة المال.. دائرة الهجرة" وغيرها. وفي منتصف الشارع باحة صغيرة أُطلق عيها اسم "ساحة الحرية"، تحيط بها اشجار وارفة. وفي الساحة تجلس مجموعة من العساكر في ظلال الاشجار، يتمنطقون بنادق من طراز "كلاشنيكوف" ويتبادلون الاحاديث، وينشدون أغاني ضد الحكومة على وقع عُود صنع محلياً. وتقول اغانيهم التي ينشدونها بلغتهم المحلية وترجم لي مرافقي بعضاً منها "سنجهز على البشير الرئيس السوداني... سنعود الى جوبا... سنزحف الى الخرطوم". وتبدو امامهم ابواب وزارتي الزراعة والصحة مخلوعة، فيما نهبت محتوياتهما على الارجح، او نُقلت الى اماكن اكثر امناً. ويقول أحد العساكر من ابناء كايا عن بلدته "ان ما حصل للبلدة مؤلم ويثير الشفقة، فكايا كانت اكثر الاماكن تطوراً في كل جنوب السودان". وزاد من عزلة البلدة اخيراً اعلان اوغندا اغلاق حدودها رسمياً قرب كايا. لكن السلطات تسمح للاجئين بالعبور من كايا الى بلدة عُروى في الجانب الاوغندي حيث يصحبهم موظفون من الهيئة العليا للاجئين الى مخيمي كوبوكو واورابا على مسافة نحو عشرة كيلومترات. اما العسكريون من "الحركة الشعبية" الذين يطلبون اللجوء في اوغندا، فيُجردون من بذلاتهم العسكرية واسلحتهم قبل السماح لهم بالعبور الى عروى. ويبلغ مجموع عدد اللاجئين الذين عبروا الحدود الى المخيمات الاوغندية منذ تموز يوليو الماضي وحتى اليوم اكثر من 150 ألفاً. وفي مخيم كوبوكو، تجمع نحو 40 الف لاجيء، يعيشون تحت اغطية بلاستيكية تقيهم حالياً حرارة الشمس، لكن لن تقيهم البرد والمطر عندما يبدأ موسم الشتاء قريباً. وعلى رغم اوضاعهم المعيشية التي لا يُحسدون عليها، فان جميع الذين التقيتهم اكدوا انهم لا يرغبون في العودة الى كايا قبل ان يعود السلام الى كل جنوب السودان. وازداد قلق اللاجئين اخيراً، بعدما فشلت المحاولات الكثيرة للاتفاق بين أجنحة الحركات السودانية الجنوبية نفسها من جهة، وبين هذه الحركات والحكومة السودانية من جهة اخرى. وتتوج هذا القلق أخيراً باعلان جناحي قرنق ومشار في بيان اثر اجتماع عقد بين الجانبين برعاية وزارة الخارجية الاميركية في واشنطن، ان أي اتفاق مع الحكومة لانهاء الحرب، يجب ان يتضمن "حق تقرير المصير لجنوب السودان وجبال النوبة ومناطق مهمشة أخرى". واكدا مواصلة القتال ضد الحكومة الحالية وضد أي حكومة مقبلة لا تعترف بحق تقرير المصير للجنوب. اسقف مدينة يي السودانية سولومونا سيي الذي فر الى شمال اوغندا حديثاً، ينتقد حكومة الخرطوم بشدة، لكنه في الوقت نفسه يضع اللوم في هزائم "الحركة الشعبية" على الانقسام الذي حصل داخلها وجعلها اجنحة متنافسة. ويستشهد في ذلك بحكمة دينية ويقول: "ان منزلاً منقسماً على نفسه لا يمكنه الصمود والوقوف لوحده". ويضيف: "ان انقسام الحركة الشعبية الى جناحين ادى الى تقدم القوات الحكومية. ولو لم يحصل الانشقاق، كان بامكانهم مواجهة زحف قوات الخرطوم كما فعلوا في السابق". اما اسقف كايا الكاثوليكي بيتر دادا، فلجأ ايضاً الى شمال اوغندا. ويؤيد "الحركة الشعبية" بشدة، ويصف الوضع الحالي للاجئين بأنه "لا يزال مأسوياً. وعندما فر أهالي كايا الى كوبوكو عاشوا لاكثر من اسبوعين في العراء من دون مأوى أو اغذية كافية، وتوفي اكثر من 350 شخصاً منهم من جراء داء السحايا، وغالبيتهم اطفال تحت سن الخامسة". وعن سبب اخلاء اهالي كايا بلدتهم على رغم ان الجيش السوداني لم يحاول دخولها، يقول الاب دادا: "عندما قصفت الطائرات الحكومية المناطق المجاورة لكايا، طلب قائد الحركة الشعبية من السكان إخلاء البلدة تحسباً من حصول معارك داخلها اذا ما حاولت القوات الحكومية الدخول والسيطرة عليها. وخرج سكان كايا بسرعة لانهم خائفون. ولا زلنا نعتقد ان العرب قادمون وسيحاولون احتلال البلدة".