في واحد من اكثر اعمال العنف دموية في بلفاست، عاصمة ايرلندا الشمالية، منذ تجددت الحرب الاهلية في الاقليم قبل نحو 25 عاماً، احالت متفجرات زرعها "الجيش الجمهوري الايرلندي" الكاثوليكي مبنى قريباً من مقر قيادة منظمة "ارهابية" بروتستانتية الى اثر بعد عين، وأدت الى مصرع تسعة من الابرياء وجرح 57. الا ان الابرياء لا يدخلون في حساب المجموعات المسلحة في ايرلندا على اختلاف انتماءاتها. اذ قتل "ارهابيون" بروتستانت في الشهرين الماضيين عدداً من الكاثوليك سقط آخرهم 73 عاماً بعد الحادث المريع بأيام. وذكر "الجيش الجمهوري" في بيانه ان العملية جاءت انتقاماً للضحايا "الكاثوليك الابرياء". وبينما سارع القادة السياسيون، وفي مقدمهم رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور ونظيره الايرلندي البرت رينولدز، الى التنديد بالجريمة، لا يتوقع العارفون بتاريخ النزاع الدامي، الذي اندلعت اولى "معاركه" في العام 1916 واقتتل فيه "الاخوة" الكاثوليك الجمهوريون والبروتستانت الاتحاديون مع بعضهم البعض ومع البريطانيين، ان يغفر البروتستانت لپ"اعدائهم" هذه الضربة الموجعة التي وجهت اليهم في عقر دارهم. والكاثوليك، الذين يمثلون حوالي 90 في المئة من سكان الاقليم، يعلمون ان المنظمات "الارهابية" البروتستانتية تستعد لشن هجمات مضادة. فالانتقام، كما زعمت الاطراف المتنازعة دوماً، هو سبب استمرار الحرب الاهلية وغليانها المتفاقم. ولكن الابرياء الذين سقطوا، او سيسقطون، لا يمثلون الخسارة الوحيدة هذه المرة، فضيحة الانفجار الاولى كانت "مبادرة السلام" التي نسفها "الارهاب" الجمهوري على رغم الاحتمالات القليلة بنجاحها، اذ كان الامل بالعثور على حل شامل للنزاع تجدد مع اذاعة بيان في ختام اجتماعات سرية عقدها، على مدى خمسة اشهر، اثنان من ابرز زعماء المعسكر الجمهوري هما رئيس حزب "العمل والديموقراطية الاجتماعية" جون هيوم، وزعيم حزب "شين فين" الجناح السياسي لمنظمة "الجيش الجمهوري الايرلندي" جيري آدامز، حيث اعربا عن قناعتهما بامكان التوصل الى "اتفاق يشكل قاعدة صلبة للسلام". وأضافا ان "مناقشاتهما الهادفة الى وضع خطة سلام تشترك فيها الاطراف كلها" حققت، للمرة الأولى، "نجاحاً لا بأس به". الى ذلك تسلمت حكومة دبلن تقريراً يضم خلاصة اقتراحاتهما التي ستبحث فيها مع الحكومة البريطانية. وعلى رغم رفض لندن "واصدقائها" الاتحاديين مشروع المفاوضات مع "من يقومون بأعمال العنف او يؤيدونها آدامز" على حد تعبير ميجور، عُلم ان جهوداً حثيثة بُذلت في الخفاء لاقناعهم بالبحث في اقتراحات الزعيمين الجمهوريين التي اشاد بها رئيس حكومة دبلن كنواة لحل نهائي. وأثمرت هذه الجهود حين اعرب احد النواب الايرلنديين البروتستانت في مجلس العموم، عن تفاؤله المتحفظ بامكان الاستفادة من مبادرة هيوم - آدامز. الآن اصبحت هذه التطورات الايجابية في ذمة الماضي، بعدما فوتت المنظمة "الارهابية" فرصة السلام على ايرلندا على رغم ان احد قيادييها وصف نتائج المباحثات السرية "الجمهورية" بأنها "بداية مبشرة" فالانفجار لم يُحرج هيوم فحسب، بل دفع الاتحاديين والحكومة البريطانية الى التشديد من جديد على رفضهم القاطع الحوار مع "شين فين". حتى ان لندن اعلنت ان آدامز شخص غير مرغوب فيه يحظر عليه دخول المملكة المتحدة، وتحداه ميجور بايقاف الارهاب اذا كان جاداً في بحثه عن السلام، والكف عن تقديم "اقتراحات تمثل محاولة للابتزاز". لكن آدامز وهيوم النائب البريطاني المعتدل، ليسا عرفات ورابين مع ان جلوسهما الى طاولة المفاوضات اشبه بالاختراق الفلسطيني - الاسرائيلي. من هنا ليس بوسع اي منهما اتخاذ خطوات ملموسة على طريق ايقاف النزيف الذي قد يستمر بسبب تعنت الارهابيين من المعسكرين، وخلافاتهم الداخلية الكفيلة بنسف اي اتفاق لا يحظى بموافقة اعضاء الجبهة كلهم. فهل يستطيع مشروع حساس يهدف الى احلال سلام شامل ان يفوز برضى الارهابيين جميعاً؟