تدهور الوضع الأمني في الجزائر بشكل خطير بعد أن صعَّدت "الحركة الاسلامية المسلحة" عملياتها بشكل مثير. ففي سيدي بالعباس أحرقت عناصر من الحركة مصنعاً كبيراً لأجهزة التلفزيون والراديو، مما يشكل خسارة باهظة للصناعة الالكترونية في الجزائر. وفي قصر البخاري وسط البلاد نصب مسلحون كميناً، أودى بحياة 14 جندياً، حسب المصادر غير الرسمية. وفي منطقة سطيف لاحظ المراقبون أن البيانات الرسمية حول "العمليات الارهابية" عادت للحديث ثانية عن "مجموعة بلدة جميلة"، بعد أن أعلنت سابقاً أنها أبيدت عن آخرها! ويبدو هذا التصعيد الذي يكلف الجزائر غالياً في الأرواح والاقتصاد كردٍ مباشرٍ على حكومة رضا مالك التي تحاول تمرير "الحل الأمني"، على عكس التيار الذي يطالب باجراء مصالحة وطنية حقيقية في أقصر الآجال، لوقف النزيف المستمر منذ حوالي السنتين. واعتبر المراقبون ان حكومة رضا مالك أثبتت على نفسها بسرعة "تهمة" اللائيكية العلمانية والشيوعية، خصوصاً من خلال ممارستها على الصعيد الاعلامي، اذ سارع وزير الاتصال الجديد محمد مرزوق الى تعيين رجاله في أهم المواقع الاعلامية والى إيقاف عدد من الصحف الصادرة بالعربية، بحجة "العامل التجاري"، فارضاً بذلك سياسة الرأي الواحد والحزب الواحد، في خطوة تذكّر بما كان سائداً في البلدان الشيوعية. ومن مظاهر السيطرة على المؤسسات الاعلامية من قبل رافضي المصالحة الوطنية والحوار مع "الجبهة الاسلامية للانقاذ" المنحلة، الرد المتطرف على خبر تأسيس "لجنة مصالحة وطنية"، برئاسة الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، الذي يعتبر أن لا مفر من محاورة الجبهة والتعايش معها. وذهب التطرف بصحيفة "لو ماتان" الشيوعية عدد 25/9/93 الى حد وضع "المصالحة" في كف و"السلم الاجتماعي" في كف ثانية. ولم تتحرج من وصف أنصار المصالحة، من أمثال الدكتور طالب الابراهيمي والرئيس السابق أحمد بن بله بأقبح الصفات. وإذا كان الجناح الذي يرفض الحوار ويؤيد الذهاب بالحل الأمني الى غايته القصوى له مواقعه القوية، إلا أنه يعاني من نقاط ضعف قاتلة، أهمها: 1- ضيق قاعدته الشعبية، اذ يعتمد أساساً على الشيوعيين والعلمانيين وهم نخبة ضئيلة أحرزت في الانتخابات المحلية سنة 1990 واحد في المئة من الأصوات. ولم يفز "التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية" بربري علماني المقرب من رضا مالك بأي مقعد في الانتخابات النيابية الملغاة. وأخطر من ذلك ان هذه الطائفة متهمة ب "الالحاد" من قبل جماهير الاسلاميين، وقد زاد مدير التلفزيون الجزائري الجديد الطين بلّة، عندما دشن عهد "اصلاحاته" بالغاء الآذان! 2- عجزه عن فتح آفاق سياسية جدية أمام البلاد. فرضا مالك يبدو مرفوضاً من الجبهات الثلاث الفائزة في انتخابات 26 كانون الأول ديسمبر 1991، وهي: جبهة الانقاذ، جبهة التحرير، جبهة القوى الاشتراكية. والأخيرة - وهي أقرب الجبهات الثلاث اليه - اعتبرته "من أبرز منظري مرحلة الحزب الواحد"! وكانت "الوسط" التقت السيد عبدالحميد مهري الأمين العام لجبهة التحرير غداة استقباله من قبل الرئيس كافي أخيراً، وتبين ان اللقاء لم يفتح أي أفق لأي حوار جدي. ولاحظت "الوسط" استياء كبيراً لاستمرار المضايقات التي تتعرض لها جبهة التحرير، مثل تأميم مجلتي "الثورة الافريقية" وهي الناطقة باسم الجبهة بالفرنسية و"الوحدة" الناطقة باسم اتحاد الشبيبة التابع لها. بالاضافة الى استمرار عملية طرد الجبهة من مقراتها، كما حدث أخيراً في الأغواط وبسكرة. أما الطرف الوحيد الذي يبدي نوعاً من التفاؤل في الظرف السياسي الراهن فهو الرئيس السابق أحمد بن بله الذي يفهم من صمته انه "موعود بشيء ما" مثل "لجنة المصالحة الوطنية" أو رئاسة "المجلس الاستشاري الوطني" بعد توسيعه ليضم ممثلي الأحزاب والجمعيات. لكن بن بله من أنصار المصالحة الوطنية، ولا يتصور "حواراً حقيقياً" من دون مشاركة "جبهة الانقاذ". لذلك فإن الطائفة الرافضة للحوار بزعامة مالك لا يمكن أن توظف بن بله لمصلحتها لأنه موضوعياً مع الجناح المنافس الذي أصبح يشكك في نجاعة الحل الأمني الذي يتمسك به الشيوعيون والعلمانيون. فهل يعني ذلك ان "طبخة المرحلة الانتقالية" تُحضر خارج دائرة رضا مالك وأنصاره؟ وفي هذا السياق ما حقيقة الأنباء التي تحدثت عن انشاء لجنة مصالحة وطنية برئاسة أحمد طالب الابراهيمي؟ فعلى رغم ان جماعة مالك نفت هذه الأنباء إلا أن مؤشرات كثيرة تدل على أن قادة الجيش يبحثون مع المجلس الأعلى للدولة الثنائي كافي - نزار خصوصاً، عن مخرج سياسي للأزمة، قد يكون "لجنة مصالحة وطنية" بالفعل، من 7 أعضاء. وحسب بعض المصادر المحلية فإن الجيش يكون عيَّن ممثليه في هذه اللجنة وعددهم ثلاثة. وتقول المصادر نفسها ان الابراهيمي سيكون من بين الأعضاء المدنيين، وكان من المرشحين لعضوية لجنة المصالحة قاصدي مرباح الذي اغتيل في 21 آب اغسطس الماضي. أي في اليوم نفسه الذي عين فيه مالك رئيساً للحكومة. كل هذه الوقائع تشير الى وجود سباق رهيب ضد الوقت، بين جناح "الحل الأمني" وجناح "الحل السياسي" في أروقة الجيش والسلطة ومن الطبيعي أن يزداد التنافس حدة مع اقتراب مواعيد آخر السنة برحيل المجلس الأعلى للدولة، على الأقل في صيغته الراهنة. وفي هذا السياق يتوقع المراقبون الكثير من المفاجآت السارة للبعض والمحزنة للبعض الآخر.