حظيت زيارة وفد المؤتمر الوطني العراقي للولايات المتحدة باهتمام واسع من قبل الدوائر السياسية والإعلامية والأكاديمية الاميركية. وطرحت في الاجتماعات افكار مختلفة، بعضها خاص، كاقتراح اقامة منطقة شيعية آمنة في الجنوب، او الاعتراف بالحكومة الكردية الجديدة في الشمال، اما البعض الآخر فكان له طابع اكثر عمومية، تدرج من دعوة الادارة الاميركية الى تزويد المعارضة بالسلاح، الى طلب عونها على اقامة قيادة عراقية بدىلة في بغداد. ومن زاوية مقارنة، يمكن القول ان هذا التطور يختلف عن التجربة الاميركية السابقة في التعامل مع المعارضة العراقية من زاويتين اثنتين هما: المرونة والعلنية. فمن ناحية، يلحظ المتابع لمسار العلاقة الاميركية مع الاكراد احد ابرز فصائل المعارضة العراقية ان تلك العلاقة تراوحت في مجملها منذ نهاية حرب الخليج الثانية بين التحفظ والتجاهل. فبخلاف الدعم الاميركي لحماية الاكراد شمال خط عرض 36 عبر القوات المتمركزة جنوب شرقي تركيا، لم تُبدِ الادارة الاميركية قلقاً كبيراً على مجريات الامور في كردستان. فقبل بضعة ايام من اجراء الانتخابات التشريعية الكردية، صرح دافيد ماك نائب مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط بقوله: "إننا لسنا مهتمين بأن نرى حكومة جديدة في أربيل او حكومة جديدة في البصرة، نريد ان نرى حكومة جديدة في بغداد"، الامر الذي يعني ان الادارة الاميركية لا تهتم من الاكراد الا بالقدر الذي يخدم سياستها تجاه نظام صدام. اكثر من ذلك، يعتبر الاكراد ان الولاياتالمتحدة تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية الاخلاقية والقانونية عن مأساتهم بعد الحرب بسبب تعاميها عن قمع المروحيات العراقية لانتفاضتهم، الموقف الذي قد يفسر كجزء من توجه عام نحو مجمل القضية الكردية في ضوء الخبرة الاميركية المماثلة مع اكراد تركيا. ومن ناحية اخرى، تكشف سوابق اتصال الادارة الاميركية بالأكراد عن انها كانت تحاط على الأرجح بجو من السرية، كما سبق ان حدث بخصوص التنسيق الاميركي - الايراني - الاسرائيلي - الكردي في مطلع السبعينات. فإذا علمنا ان ما يصدق عليه طبيعة الاتصالات الاميركية - الكردية يصدق بدرجة اكبر على بعض فصائل المعارضة الاخرى بحكم حساسية وضعها وتعقيداتها الاقليمية، فهل يمكن القول في ضوء ذلك انه حدث تحول حقيقي في الموقف الاميركي من المعارضة العراقية؟ وإلى اي حد يصطدم هذا التحول - ان وجد - مع سياسات دول المنطقة؟ وما هو الدور الذي يمكن ان تلعبه المعارضة العراقية ذاتها؟ تلك بعض نماذج من الاسئلة التي تراود اعضاء وفد المؤتمر الوطني. في عددها الصادر قبل شهرين، نشرت دورية "ميدل ايست ريبورت" دراسة مهمة للكاتب العراقي فالح عبدالجبار حاول فيها تحليل اسباب انهيار انتفاضة آذار مارس 1991 في العراق. ويمكن اجمال هذه الاسباب في النقاط الآتية: 1 الحسابات الخاطئة: ومؤدى ذلك ان المعارضة العراقية بالغت إبان ازمة الخليج الثانية، ثم في حربها، في تصوير المدى الذي يمكن ان تبلغه القيادة السياسية في استنفار الروح الوطنية وتعبئة الجماهير وحشدها، على غرار ما حدث ابان الحرب مع إيران، لكن في الحالة الثانية كانت هناك مجموعة من المتغيرات الجديدة ابرزها وأهمها الحالة الاقتصادية المتردية، وعدم رغبة الشباب في مزيد من الحروب، وتضخم الجيش على نحو جعله يضم كثيراً من العناصر الساخطة لأسباب لا دخل لها فيها. ولقد باشرت تلك المتغيرات تأثيرها منذ المراحل الأولى لغزو الكويت وكانت سبباً مباشراً في اندلاع اعمال عنف في البصرة والموصل كونهما الأكثر تضرراً من الحرب مع ايران. وهنا، كان الخطأ الاساسي الذي وقعت فيه المعارضة، ليس فقط لكونها لم تلتقط المعاني التي تنطوي عليها تلك المؤشرات، لكن كذلك لأن أطرافا فيها مضت الى اقصى الطرف الآخر بدعمها النظام مخافة الطعن في وطنيتها بعد اتضاح البعد الدولي للقضية. 2 - افتقاد التنسيق: فمع قلة المعلومات المتاحة عن تلك الفترة اجمع شهود العيان على ان المشهد الذي تكرر تقريباً في مدن الجنوب والشمال، على حد سواء، كان تجمع بعض المواطنين للتنديد بصدام، ثم التحرك للاستيلاء على بعض المراكز الحيوية وإخلائها مع رشق صور الرئيس العراقي بالحجارة. وقد تكون هناك عوامل معينة جعلت الانتفاضة الكردية في الشمال اكثر انتظاماً من نظيرتها الشيعية في الجنوب، بالنظر الى الخبرة الكفاحية الطويلة للأكراد واطلاعهم على تطورات الاوضاع على ساحة القتال عبر علاقتهم مع الاحزاب القومية واليسارية، لكن المحصلة النهائية كانت انعدام التنسيق بين القطاعين الشمالي والجنوبي من جهة وبين مختلف مدن القطاع الواحد من جهة اخرى. وساعد على ذلك غياب القيادة الميدانية المزودة بشبكة من الكوادر المعاونة لها على جمع المعلومات والاستعداد لمواجهة تطورات الموقف بما يناسبها من بدائل، وأهم من ذلك كون القطاع الاوسط المكون من بغداد وما حولها وما يعرف بالمثلث السني، جوف تماماً من كل معارضة منظمة بسبب اشتداد القبضة الامنية البعثية على العاصمة. 3 - التزيد: وهو يؤخذ في هذا المقام بمعنيين هما التمحور على الذات والهجوم على الغير. فمن الملاحظ ان كون الانتفاضة الشعبية في الجنوب كما في الشمال بدأت بشكل تلقائي وغير منظم فان هذا ساعد على ان تركز حيثما كانت على خصوصياتها الذاتية، وهنا كان خروج شيعة الجنوب داعين لإعمال الحكم الشيعي. وعندما تدخلت المعارضة السياسية في مرحلة لاحقة فانها لعبت دوراً اساسياً في تأكيد الطابع الطائفي للانتفاضة، كل منها في نطاقه الجغرافي. وقد ارتبط بذلك وقوع كثير من اعمال العنف السياسي على الأفراد المنتمين الى بعض الطوائف والجماعات السياسية الاخرى، على نحو ما حدث ضد الشيوعيين في الشمال وبشكل اوضح في الجنوب. وفي تلك الحدود يمكن القول ان لب ما تأخذه هذه الدراسة على المعارضة العراقية انما يتصل بما يعرف بظاهرة "الاختزالية"، وتعني اعتقاد كل فئة او جماعة بجدارتها وأحقيتها المطلقة، مقارنة بالفئات والجماعات الاخرى، ويترتب على ذلك اختلال التقديرات وضعف او ربما انعدام التنسيق نتيجة تكوين كل جماعة لتصوراتها بمعزل عن الاخرى. والعراق بوصفه مجتمعاً متعدداً، فقد عرف مراراً هذه الظاهرة ليس فقط بين جماعة واخرى سنة وشيعة او عرب وأكراد ولكن بالدرجة نفسها في حدود الجماعة نفسها الاكراد - السنة ودفع لها ثمناً باهظاً. وهنا، فان الذين تنادوا الى الحكم الشيعي العراقي إبان انتفاضة 1991 ودعوا القوات المسلحة للانضواء تحت لواء المجلس الاعلى للثورة الاسلامية لا يعلمون انهم مدوا في اجل النظام لأنهم حركوا حساسيات داخلية وخارجية لا داعي لها. ولقد تناقلت وكالات الانباء كيف حمل هذا التطور بعض شيعة العراق على ايواء ذويهم من السنة بعد ما فزعوا اليهم مخافة البطش المحتمل. كما ان الذين غذوا او استفادوا او تعايشوا مع صراع الحزبين الكرديين الاهم الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني والحزب الديموقراطي بزعامة مسعود بارزاني ومع صراعهما مع فصائل الحركة الكردية الاخرى الحركة الاسلامية الكردستانية لاثبات الجدارة والاستحقاق، لا يعلمون كم سهلوا على صدام حسين مهمته بتوظيف صراعاتهم لصالحه، كما حدث اواخر الستينات وأوائل السبعينات. العلاقة مع دول الجوار تلعب المتغيرات الاقليمية دوراً اساسياً في تحديد فعالية المعارضة في بلد كالعراق يشكل بعض مواطنيه جزءاً من كل تتقاسمه الدول المجاورة بكثافات مختلفة وبدرجات مختلفة من التركيز الجغرافي والوعي السياسي. وتلك مزية وعيب في وقت واحد: هي مزية لكون التنوع على محاور الاوضاع الاجتماعية الاقتصادية والسياسية يمكن ان يكون عامل اثراء للمعارضة باستفادة كل طرف من المزايا النسبية للطرف الآخر، لكنها قد تكون عيباً لأن ديناميات العلاقة السياسية مع نظام الحكم في الداخل او مع نظم الحكم في الدول المجاورة قد تكون لها متطلباتها التي تضع احياناً مصالح ابناء الجماعة المعارضة المشتتة نفسها على طرفي نقيض. وقد نشأ عن حرب الخليج الثانية وضع اقليمي جديد اعاد صياغة علاقة المعارضة العراقية بدول الجوار على نحو مختلف، ذلك ان تركيا شرعت للمرة الاولى منذ عام 1923 في التفاوض مع اكراد العراق، خلافاً لسياستها السابقة القائمة على رفض الاعتراف بالهوية الكردية، سواء داخل بلادها او خارجها، وفي هذا الاطار ترصد دراسة للدكتور جلال معوض بعض ملامح التغيير في السياسة التركية بعد الحرب، منها ايواء زهاء نصف مليون من الاكراد النازحين من جحيم القصف العراقي ثم اعادتهم تحت حماية قوى التدخل الغربية. ومنها ايضا التلويح بفكرة الكونفدرالية العراقية التي تنقسم الى ثلاث مناطق: كردية في السليمانية واربيل وتركية في كركوك والموصل وعربية في ما خلا ذلك من مناطق وتضمنها كل من تركيا وسورية وإيران. بطبيعة الحال لم يمر هذا المنحى الجديد من دون اثارة جدل واسع بين مختلف القوى السياسية التركية، لكن التغيير في جوهره كان جزءاً من صفقة اكبر استهدفت تأكيد الوجه الديموقراطي لتركيا والسيطرة على زمام الموقف في العراق فضلاً عن وقف دعم الاتحاد الوطني الكردستاني لحزب العمال الكردي التركي المعارض، وتلك النقطة تحديداً تمثل جوهر التصادم بين كل من الالتزامات القومية والالتزامات السياسية لاكراد العراق. ونظراً الى كون التنافس التركي - الايراني تعددت محاوره، فلقد كان من المفهوم ان تحاول ايران التوفيق بين التزاماتها التقليدية تجاه الشيعة وبين التزاماتها الجديدة او المتجددة تجاه الاكراد. اكثر من ذلك كان التفكير في اسقاط نظام بغداد سبباً في ابتلاع ايران معارضتها للحكم الذاتي الكردي في العراق، والبحث في تنسيق جهود الشيعة والاكراد لزيادة فعاليتها، وفي هذا الاطار جاءت دعوة جلال الطالباني لزيارة طهران ولقاء باقر الحكيم رئيس المجلس الاسلامي الاعلى للثورة الاسلامية في العراق بحيث يمكن القول ان المتغيرات الاقليمية تصب حالياً في اتجاه توحيد صفوف المعارضة العراقية. بوش والمعارضة تربط اكثر التحليلات السياسية بين تغيير الموقف الاميركي تجاه المعارضة العراقية وبين انخفاض شعبية الرئيس جورج بوش بسبب الاوضاع الداخلية، وتشير الى ان بوش، وقد قرر الرهان على ورقة السياسة الخارجية في انتخابات الرئاسة، لا يتوقع منه ان يترك صدام حسين يفلت بنصره المعنوي بعد ازمة مبنى وزارة الزراعة، وهنا فانه يحتفظ بحقه في تأليب المعارضة العراقية ودعمها كبديل جاهز لاسلوب التدخل العسكري المباشر مع كلفته. وعلى رغم انه لا يزال من المبكر التكهن اذا كانت المحادثات الاميركية مع وفد المؤتمر الوطني العراقي المنبثق عن اجتماعات فيينا تمثل تغيراً فعلياً في الموقف من المعارضة العراقية ام لا، فانه ربما كان من الممكن الوقوف على العامل الأهم في تحقيق هذا التحول. ان الولاياتالمتحدة ليست على ثقة كبيرة في قدرة المعارضين العراقيين على ان يحكموا انفسهم، ولقد نشرت اخيراً دراسة بهذا المعنى اثارت نقاشاً موسعاً في الاوساط الثقافية الاميركية وهنا يمكن القول ان تطور الموقف الاميركي من المعارضة العراقية يعتمد الى حد بعيد على قدرة هذه الاخيرة على "تعريف" نفسها، والاصطلاح منقول عن الدكتور محمد محمود عبدالرحمن احد اقطاب المعارضة الكردية، ويشير الى اشاعة روح المعارضة بين مختلف العراقيين لأنه باختصار ليست هناك "اية قوة منفردة - كردية كانت او عربية - تستطيع اسقاط النظام" ولئن كان المؤتمر الوطني العراقي يمثل خطوة في هذا الاتجاه فان من الممكن بل من الضروري فتح هذا المؤتمر على مزيد من الفعاليات العراقية. لا سيما من داخل المؤسسة العسكرية، وتلك النقطة الاخيرة توليها الولاياتالمتحدة اهمية بالغة حتى يمكنها ان تعطي ثقتها للمعارضة ومن زاوية اخرى يمكن القول ان مبدأ "تعريف" المعارضة يحقق فائدتين اضافيتين: الاولى: هل من الصعب على اية جماعة بذاتها ان تحتكر لنفسها حق المعارضة لأسباب تاريخية او موضوعية، الامر الذي يعد ضمانة اساسية لقيام ديموقراطية تعددية حقيقية في عراق ما بعد صدام؟ والثانية: تأكيد الاتجاه الذي تصب فيه حالياً المتغيرات الاقليمية ومنع دول الجوار من ابراز جماعة بذاتها لاعتبارات مصلحية على حساب ما دونها من جماعات. ان لحظة توحد نادرة تحققت بين الارادات الداخلية والاقليمية والدولية، فمتى ينتهي العد التنازلي لتغيير نظام العراق؟ * خبيرة بالشؤون العراقية واستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة.