حصلت "الوسط" على نسخة من المذكرة السرية التي سربها وفد العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، خلال انعقاد مفاوضات السلام السودانية في العاصمة النيجيرية أبوجا في 26 أيار مايو الماضي وتتحدث المذكرة عن مشروع تقسيمي يجزئ السودان إلى خمس دول هي: جنوب السودان، جبال النوبه، تلال الأنقستا، كردفان ودارفور، شمال السودان والجزيرة. وقبل تسريب المذكرة الرسمية بأيام قليلة بادر وفدا الحركة الشعبية إلى تضمين مناقشتهما تعبير " المناطق المهمشة"، وهو تعبير لم يكن متداولا في القاموس السياسي للحركة الشعبية لتحرير السودان، التي توحد جناحاها في أبوجا. فقط ظهر تعبير "المناطق المهمشة"، للمرة الأولى، في أدبيات الحركة الشعبية حين صدرت "مقررات توريت" في 10 أيلول سبتمبر العام الماضي، اثر اجتماع معهم عقده جون قرنق مع كبار مساعديه بعد الانشقاق الذي تعرضت له الحركة الشعبية في 30 آب أغسطس الماضي، بسبب رغبة الانشقاقيين لام أكول ورياك مشار في فصل جنوب السودان عن شماله، وإشاعة مزيد من الديموقراطية في صفوف الحركة الشعبية. وشهد لقاء توريت تعديل ميثاق الحركة الشعبية للمرة الأولى. ففي حين دعا الميثاق التأسيسي للحركة إلى "إقامة دول علمانية في السودان الموحد"، أقر مؤتمر توريت التعديل التالي: "إقامة دولة علمانية في السودان الموحد، وان تعذر إعطاء سكان الجنوب السوداني والمناطق المهمشة حق تقرير المصير". وبررت أوساط مقربة من جون قرنق هذا التعديل الجذري بقولها ل"الوسط": "إن سيطرة نظام الجبهة الإسلامية على الحكم في الخرطوم وتطبيق تجربة الدولة الإسلامية حول هدف الحركة الشعبية، كما ورد في الميثاق التأسيسي، إلى حلم مستحيل التحقيق". ولم ترد أية تفاصل في مقررات توريت عن "المناطق المهمشة" السودانية، وان يكن المفهوم تكرس لاحقا في الأدبيات السياسية للحركة، فقد تداولت أوساط جون قرنق مدلولات هذا التعبير، في ضوء المستجدات التي طرأت على الحركة الشعبية، عسكريا خلال العام الماضي، وفي ضوء تاريخ السودان الذي شهد حركات تمرد غير ذات أهمية في مناطق سودانية نائية وذات طبيعة قارية. وأبرز المستجدات العسكرية، خلال العام الماضي، امتداد نار التمرد العسكري الى جبال النوبة، وبروز اسم القائد العسكري يوسف كوة، النوبي الانتماء، الذي أدار بجدارة المعارك العسكرية مع الجيش السوداني داخل هذا الجيب المتمرد، المر الذي دفع بالخرطوم إلى الاهتمام بهذا الجيب نظرا إلى أن قبائل جبال النوبة تشكل قرابة 11 في المئة من القوات المسلحة السودانية. ولذا حرصت الخرطوم على محاصرة حريق التمرد في جبال النوبة خوفا من انتقال العدوى إلى مناطق أخرى تشكو من الإهمال الرسمي المزمن. أما تلال الأنقسنا ودارفور وكردفان فقد شهدت في السابق حركات تمرد لم تبلغ مستوى حركات التمرد في جنوب السودان حيث غالبية السكان هناك من المسيحيين والوثنيين، بينما المناطق المهمشة غالبية سكانها من المسلمين والوثنيين الخلاسيين وهم خليط من العرب والزنج. ولاحظ المراقبون أن وفد جون قرنق إلى مفاوضات السلام في أبوجا ضم قيادات عسكرية ومدنية تنتمي إلى "المناطق المهمشة". لم يكن اختيار تركيبة وفد قرنق مجرد صدفة، بقدر ما كان تعزيزا للخطة التقسيمية التي تشير إليها مذكرته السرية. والواضح أن قبول جون قرنق بخيار فصل الجنوب، كما جاء في مقررات توريت وضعه في مأزق صعب أمام القيادات العسكرية المنتمية إلى "المناطق المهمشة"، فهو لا يستطيع منح هؤلاء القادة مناصب قيادية في دولة جنوب السودان العتيدة، إذا قامت، وفي الوقت نفسه لا يستطيع التخلي عن هؤلاء القادة بمجرد أن يتحقق له ما يصبو إليه، أي انفصال جنوب السودان.