حرائق كاليفورنيا: وفاة 11 شخصا والخسائر تقدر ب 135 مليار دولار    إسرائيل تخطط للسيطرة على 15 كم داخل سورية    القيادة تهنئ سلطان عُمان بذكرى توليه مقاليد الحكم في بلاده    ضبط (19418) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم" لرفع الوعي لسائقي دراجات تطبيقات التوصيل    السودان.. أكبر أزمة نزوح أطفال في العالم    وكيل "الشؤون الإسلامية" للمشروعات والصيانة: تدشين الأدلة الفنية للمساجد إنجاز نوعي برؤية شاملة ومعايير عالمية    نادي جازان الأدبي يكرم الزميلة خلود النبهان    وصول الطائرة الإغاثية السعودية التاسعة لمساعدة الشعب السوري إلى مطار دمشق الدولي    بندر بن سعود ل"الرياض": الفائزون بجائزة الملك فيصل سفراء المملكة عالميًا    أكثر من 300 جلسة رئيسية في النسخة الثالثة من قمة المليار متابع    طلبة منطقة "تعليم الرياض" يعودون غداً لمدارسهم لاستكمال الفصل الدراسي الثاني    «طائرة كوريا».. «الأسودان» توقفا قبل 4 دقائق من التحطم !    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    استمرار هطول الأمطار على بعض مناطق المملكة    «الضباب» يحوّل رحلة ليفربول إلى كابوس    خالد عبدالرحمن ل«عكاظ»: جمعنا أكثر من 10 قصائد وننوي طرح ألبومين سامريات    "النقد الدولي" يتوقع استقرار النمو العالمي في 2025    أمريكا وبريطانيا توسعان عقوبات كاسحة على صناعة النفط الروسية    البرلمان الألماني يبحث الأربعاء تفشي الحمى القلاعية في البلاد    الإعاقة.. في عيون الوطن    ابعد عن الشر وغني له    القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    فريق جامعة الملك عبدالعزيز يتوّج بلقب بطولة كرة السلة للجامعات    أمين الطائف هدفنا بالأمانة الانتقال بالمشاركة المجتمعية للاحترافية    مهاجم الأهلي: قدمنا مباراة كبيرة واستحقينا الفوز على الشباب    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    القبض على مقيم لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي بمكة المكرمة    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    أنشيلوتي يبدي إعجابه بالجماهير.. ومدرب مايوركا يعترف: واجهنا فريقًا كبيرًا    مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين في "المشغل الاقتصادي السعودي المعتمد"    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    إحباط محاولتي تهريب 6 كلجم «شبو» مخبأة في بطاريات وصناديق    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    الحمار في السياسة والرياضة؟!    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    المقدس البشري    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات كتاب باتريك سيل عن ابو نضال - عاصفة الصحراء انتهت بهزيمة كبرى لمنظمة التحرير ولو استجابت اسرائيل لعرض عرفات السلمي عام 1974 لكانت امور كثيرة تبدلت . ما علاقة ابو نضال بسعد الدين الشاذلي ؟ الاخيرة
نشر في الحياة يوم 06 - 04 - 1992

الحلقة العاشرة والاخيرة من كتاب باتريك سيل "ابو نضال: بندقية للايجار" تتضمن سراً مهماً يتناول وجود علاقة بين منظمة ابو نضال والفريق سعدالدين الشاذلي رئيس الاركان المصري خلال حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 والذي عاد الشهر الماضي الى القاهرة بعد نفي دام 14 عاماً. وفي ما يأتي الحلقة الاخيرة من هذا الكتاب:
بعد التصفيات الداخلية التي اجراها ابو نضال داخل منظمته في الفترة بين 1987 و1988، قرر عاطف ابو بكر، احد الرجال البارزين في هذه المنظمة، التمرد على ابو نضال والتخلي عنه وبناء جسور مع حركة فتح، وبالتحديد مع ابو اياد. كان ذلك في ربيع 1989.
بدأ عاطف ابو بكر باتخاذ سلسلة تدابير وقائية منها مضاعفة الاقفال على ابوابه، وتجنّد اصدقاء من منظمة احمد جبريل ليعملوا كحراس له، وتحذير ابو نضال من مغبة محاولة قتله. واشاع ابو بكر انه سيغادر متجهاً الى موسكو، وعدن، وبودابست، ليسمع فقط بان ابو نضال قال بانه يأمل ان يذهب ابو بكر الى بودابست حيث تكون مهمة قتله اسهل.
كان همّ ابو بكر الكبير قلقه على زوجته وابنته البالغة من العمر عشر سنوات. فقد خشي انه اذا اختطف وانتزعت منه مفاتيح بيته، فان رجال ابو نضال قد يأتون ويختطفون عائلته كذلك. وهكذا صار كلما غادر البيت يخفي مفاتيحه تحت حجر في حديقة مقابلة له عبر الطريق. وذات يوم، بينما كانت زوجته ترقبه من شباك في الطابق العلوي، شاهدته وهو يخفي المفاتيح. فنزلت لتستعيدها، وفي المساء طلبت منه توضيحاً. قالت: "من الواضح انك في خطر. ان من الافضل ان تخبرني. وكان سؤالها الاول عن ابو نزار. كانت تريد ان تعرف ما الذي حل به. وعندما اخبرها ابو بكر ان ابو نضال قتله في تشرين الاول اكتوبر السابق، قالت بانها خمنت ذلك عندما سمعته يتحدث بالهاتف مع زوجة ابو نزار في دمشق.
في 28 آب اغسطس 1989 تمكن عاطف ابو بكر من تدبير امر هربه الى الجزائر جواً، ثم شرع على الفور باتخاذ ترتيبات كي تنضم اليه وتلحق به زوجته وطفلته هناك. كان قد حصل على جوازي سفر ديبلوماسيين لزوجته، احدهما جزائري، والآخر يمني. وتحدث اليها بالهاتف بالتشيكية - وهي لغة كان كلاهما تعلمها عندما كان ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في براغ. فأمرها ان تأخذ طائرة اليوم التالي الى الجزائر العاصمة مستعملة جواز سفرها الجزائري. وتوخياً للسلامة، كان عليها ان تصطحب الى المطار جيرانهم الليبيين، والممثل المحلي لاحمد جبريل.
غير ان خيبة امل كانت بانتظارها. فموظفو المطار، الذين لا بد انهم كانوا من مؤيدي ابو نضال، ابقوها في الانتظار خمس ساعات وهم يتفحصون اوراقها، الى ان اقلعت الطائرة بدونها آخر الامر. فعرفت انها في فخ. وفي اشارة تحدٍ مزقت بطاقة الطائرة في وجه رجل ابو نضال في المطار، وقالت له: "قل لابو نضال ان كان يتحرق لقتال فعليه ان يقاتل اسرائيل، وليس امرأة". ولم تجرؤ على العودة الى بيتها، فطلبت من ممثل احمد جبريل ان يستضيفها وابنتها تلك الليلة.
وفي تلك الاثناء، في الجزائر، قرر عاطف ابو بكر ان لا يكون في استقبال الطائرة القادمة من ليبيا خشية ان يحاول ابو نضال قتله هناك. وهكذا ارسل شخصاً آخر، فعاد هذا ليبلغه بان زوجته لم تكن على متن الطائرة. فاتصل هاتفياً بممثل احمد جبريل في طرابلس، وتنفس الصعداء عندما علم ان زوجته وطفلته كانتا عنده.
"تحدثت اليها بالتشيكية. وقلت لها: "اتّبعي تعليماتي بدقة. انني سوف اتصل هاتفياً بجماعة ابو نضال كي اسألهم عن سبب المشكلة في المطار. وسوف ابدو طبيعياً في حديثي معهم تماماً. سأقول لهم بأنك تنوين ان تغادري يوم الاحد، واطلب منهم ان يجروا الترتيبات اللازمة. "وفي هذه الاثناء، عليك ان تغادري هذه الليلة الى تونس. سافري بجواز سفرك اليمني واطلبي من جيراننا الليبيين ان يذهبوا معك".
وهكذا غادرت زوجة ابو بكر بالسيارة مع ابنتها واصدقائها الليبيين فوصلت بسلام الى تونس بعد رحلة استغرقت اثنتي عشرة ساعة. وطار ابو بكر من الجزائر، فالتأم الشمل مرة اخرى. وعندئذ فقط عاد بصرها الى طبيعته.
دور سعدالدين الشاذلي
كان ابو بكر قيادياً بارزاً في الاوساط الفلسطينية، ولذلك كان هربه ضربة خطيرة لابو نضال. وفي تلهفه على الحد من ضررها ارسل ابو نضال وفداً الى الجزائر في تشرين الاول اكتوبر 1989 كي يعرض على ابو بكر تأشيرة دخول سويسرية له ولعائلته، ونفقات كاملة، علاوة على مكافأة نقدية من نصف مليون دولار، اذا وافق على وقف النزاع. كان الوفد برئاسة عضو المكتب السياسي شوقي محمد يوسف واسمه الحركي منير احمد، ويضم في عضويته رئيس المخابرات المخفض الرتبة عبدالرحمن عيسى. غير ان ابو بكر رفض، واجتمع بدلاً من ذلك بعبدالرحمن عيسى سراً، وبالاتفاق مع المخابرات الجزائرية اقنعه ان يهرب هو الآخر. ففعل، في اواخر تشرين الاول اكتوبر 1989، وانضم الى ابو بكر في الجزائر.
وفي 27 تشرين الاول اكتوبر، اصدر عبدالرحمن عيسى بياناً مطولاً يكاد يكون برمته مخصصاً لشجب "الاغتيالات العشوائية العمياء" لاعضاء المنظمة، ولا سيما اغتيال ابو نزار. وطالب بوضع الحقائق امام لجنة محلفين دولية.
وفي اول تشرين الثاني نوفمبر 1989 اصدر عاطف ابو بكر وعبدالرحمن عيسى بياناً مشتركاً كان في الواقع اعلاناً للحرب فقد اعلنا تشكيل "قيادة طوارئ" بهدف الاستيلاء على المنظمة ومعاقبة ابو نضال. وجاء في البيان "لقد سقط شهداؤنا في حروب خاطئة... وعمليات روما، وفيينا، والسودان، واثينا، وباريس وكراتشي كانت بلا معنى وقد اوقعت بنا ضرراً هائلاً. ولقد كان من الواجب ان يقاتل شهداؤنا في فلسطين، ولكن ابو نضال ادار ظهره للنضال العادل".
عاد ابو بكر الى فتح وهو يشعر بالفرج والخلاص. كانت فتح هي الحركة التي التزم بها طوال عمره. اما عبدالرحمن عيسى فكان رجلاً عملياً، وليس منظّراً. فقد ظل ملازماً لابو نضال ومن اقرب شركائه عشرين عاماً. كان عيسى يعرف الهوية الحقيقية للكوادر، ومواقع مخابئ الاسلحة والحسابات السرية في المصارف، ومحتويات الرسائل التي كان ابو نضال يتبادلها مع الحكومات واجهزة المخابرات الاجنبية. وعلى عكس ابو بكر، لم يكن عيسى يشعر بالحنين الى فتح، بل انه، لم يستطع ان يخلص نفسه بسهولة من فكرة الاعتقاد بان فتح كانت منظمة خائنة.
وكما فعل ابو نضال مع ابو بكر. ارسل مبعوثين عديدين لمغازلة عيسى واجتذابه للعودة الى ليبيا للتفاوض. وكان من بين هؤلاء الفريق سعدالدين الشاذلي، الذى كان رئيس اركان الجيش المصري اثناء حرب اكتوبر 1973، وكان لجأ الى الجزائر بعد ان اختلف مع الرئيس الراحل السادات. ولكن عبدالرحمن عيسى كان اذكى من ان يقع في مثل هذه المطبات. فقال للفريق الشاذلي: "فليرسلوا الي ابو نزار مبعوثاً. انهم يزعمون انه لا يزال حيّاً، فان كان ذلك صحيحاً، فليسمحوا لي بمصافحة يده، فان رأيت انه بخير، فسأعود". وكان عيسى يعلم بالطبع ان ابو نزار راقد في قبره منذ زمن طويل.
صباح 25 نيسان ابريل 1990، بينما كان عيسى يقف وحده خارج دارته على شاطئ البحر في ضواحي الجزائر، هاجمه ثلاثة رجال مقنعين بجوارب نسائية، وحاولوا الزج به في سيارتهم. غير انه ابدى بعض المقاومة. فأطلقوا عليه النار مرتين من مسدس بعد ان هاجموه بفأس، ثم هربوا وتركوه معتقدين انه مات. ولكنه اصيب بجروح شديدة في رأسه وجسده. وتمكن الجراحون في المستشفى العسكري بالجزائر من انقاذ بصره، ولكنهم اضطروا لاستئصال احدى كليتيه. واستطاع ان يتعرف على مهاجميه وهم من رجال ابو نضال.
وبمجرد اصدار عاطف ابو بكر وعبدالرحمن عيسى لبيانهما الذي يعلن اقامة قيادة الطوارئ، بدأت رسائل التأييد تتدفق من اعضاء آخرين ساخطين في لبنان وسورية والجزائر وسرعان ما راحت قيادة الطوارئ، بتسليح وتمويل من فتح وحماية من ابو اياد، تشن حرباً على ابو نضال في مخيمات اللاجئين في جنوب لبنان. وفي منتصف حزيران يونيو 1990 تبودلت الاغتيالات في الرشيدية، المخيم الذي يضم 15 ألف فلسطيني قرب صور، ثم تصاعدت الى معركة بالرشاشات هُزم فيها رجال ابو نضال هزيمة منكرة. وتلا ذلك اشتباك اعنف في ايلول سبتمبر الى الشمال على الساحل قرب صيدا في عين الحلوة، اكبر مخيمات اللاجئين في لبنان، الذي يأوي 150 ألف لاجئ. وفي معركة استمرت ثلاثة ايام قُتل 80 فدائياً وجرح 250 آخرين اثناء اجتياح مقر قيادة ابو نضال الحصين.
وعلى كل حال فقد ظل ابو نضال يحتفظ بعدد من المعاقل: في القريتين المرتفعتين بقسطا وكرخا قرب صيدا، حيث تقبع اكثر لجانه حساسية في منطقة يسيطر عليها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وفي مدينة صيدا نفسها، حيث يقع مركز حاسوبه الآلي، ويعيش العديد من كوادره العليا تحت حماية رجل صيدا القوي، الزعيم الناصري، مصطفى سعد.
وفي صيف 1991 وفي هذه الاجواء تم اغتيال ابو اياد في تونس في 14 كانون الثاني يناير 1991.
من وراء اغتيال ابو اياد؟
ليس هناك ادنى شك في ان ابو نضال هو الذي قتل ابو اياد، مستخدماً حمزة ابو زيد كآلة تنفيذ في يده. وهذا امر اتفق عليه جميع الذين حاورتهم بشأن هذه القضية. ويستند هذا الرأي في المقام الاول على اعتراف حمزة نفسه. فقد اخبر مستجوبيه انه تلقى الامر بقتل ابو اياد من رجل في منظمة ابو نضال. وبالاضافة الى ذلك، فان الالفاظ التي شتم فيها ضحيته - مثل كلمة خائن، ومفسد للثورة الفلسطينية، "والعدو الداخلي" - هي بالضبط الالفاظ التي ظل ابو نضال يستعملها في شجب فتح سنوات طويلة. وفي لحظة اطلاق الرصاص على ابو اياد صرخ حمزة: "فليساعدك عاطف ابو بكر الآن!". وهذا دليل واضح على ان ابو نضال كان يريد الانتقام من الرجل الذي يعتقد ان ابو اياد زرعه في منظمته لتدميرها. وأثناء محاصرة الدارة طالب حمزة، كما سبق ورأينا، مراراً وتكراراً بجلب عاطف ابو بكر اليه. والمفروض انه كان يريد ان يقتله هو الآخر.
ولطالما اخبرني ابو اياد، والابتسامة الساخرة تعلو شفتيه، بأن ابو نضال يكرهه، ليس فقط بسبب محاولة كل منهما قتل الآخر، ولا لأن ابو اياد ابقاه خارج نطاق منظمة التحرير الفلسطينية، وهندس عمليات الانشقاق والهرب في منظمته، ولكن لأن ابو نضال لم يكن يطيق الاعتراف بأنه مدين لابو اياد بالمساعدة والحماية اللتين قدمهما له في سنواته الأولى. ولذا فانه يجب النظر الى اغتيال ابو اياد باعتباره التصفية النهائية لحساب قديم.
لقد كان لدى ابو نضال العديد من الاسباب كي يقتل ابو اياد، غير ان ضباط المخابرات العربية والاجنبية الذين حاورتهم تكهنوا باحتمال وجود "يد خفية" وراء عملية الاغتيال، وأن الشك يحوم حول ليبيا والعراق واسرائيل.
وتسلّم الاوساط الفلسطينية بأن العلاقات بين ابو اياد والعقيد معمر القذافي لم تكن ودية طوال سنوات. وهي تعود جزئياً الى كراهية شخصية، كما يقولون، وتعود في جزء آخر الى ارتياب القذافي في كون ابو اياد يتآمر للاطاحة به بالتعاون مع ليبيي منفي مقره في القاهرة، وهو عبدالمنعم الهوني، الرئيس السابق للمخابرات الليبية. ولا بد ان يكون القذافي غضب ايضاً من جهود ابو اياد لزعزعة استقرار منظمة ابو نضال التي كانت تحت حمايته، والتي يعتبرها ذراعاً من اذرع المخابرات الليبية. لكن ليست هناك ادلة على ان القذافي طلب فعلاً من ابو نضال اغتيال ابو اياد.
وذكر البعض ان صدام حسين، وليس القذافي هو الذي يقف وراء الاغتيال بحجة ان ابو اياد، على عكس ياسر عرفات، لم يكن سعيداً بتحالف منظمة التحرير الفلسطينية مع بغداد، وأنه كانت هناك حاجة لازالته كي يعيش ذلك التحالف. وبالاضافة الى ذلك كانت هناك في بعض الاحيان مزاعم بأن ابو نضال غادر ليبيا الى العراق قبيل اندلاع نزاع الخليج، فأعاد ولاءه الى راعيه الاول.
صحيح ان عرفات كان اعلى صوتاً من ابو اياد في تأييد صدام خلال ازمة الخليج. على انه لم يكن هناك اختلاف بينهما حول الموقف الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية الا وهو: التمسك بمبدأ الانسحاب العراقي من الكويت ومحاولة تجنب الحرب في اطار حل عربي للازمة.
وكان صدام حسين يطالب بالربط بين قضيتي فلسطين والكويت. وكان بحاجة الى دعم فلسطيني، بل والى اي دعم عربي يتمكن من حشده. ولكي ُيسبغ على نزاعه مع الكويت بُعداً عربياً فقد اصطنع موقف بطل الفلسطينيين من اول ايام الازمة. ولهذا كله فانه لا معنى للافتراض بأنه اختار تلك اللحظة الحرجة، والحرب على بعد ساعات فقط، لكي يقتل فيها اقرب المقربين لعرفات.
وفي تحقيقاتي لم اجد ما يؤكد نبأ انتقال ابو نضال الى بغداد. فحسب افضل معلومات مصادري، ظل ابو نضال طيلة مدة الحرب في ليبيا، حيث ابقاه القذافي - الذي كان يخشى من انتقام التحالف - تحت سيطرة محكمة. وحسب مصادر المخابرات الغربية، فان القذافي لم يسمح لابو نضال حتى باستخدام محطة اذاعته اثناء النزاع، خشية ان تُتهم ليبيا برعاية الارهاب الدولي. ومن المذهل انه لم يتم الابلاغ عن وقوع عمل ارهابي واحد يمكن ان يعزى الى ابو نضال طوال ازمة الخليج كلها في اي مكان من العالم كله، الا اغتيال ابو اياد. ولو كان صدام هو المسيطر على زمام ابو نضال في تلك اللحظة، كما يدّعي البعض، لاستخدمه بطريقة افضل ضد اعداء العراق المتعددين.
من بين الآباء المؤسسين الاربعة لفتح لم يبق سوى ياسر عرفات. فمحمد يوسف النجار قتله فريق اغتيال اسرائيلي في بيروت 1973، وخليل الوزير ابو جهاد، القائد العسكري الاعلى، قتله الكوماندوس الاسرائيليون في تونس عام 1988. ويبدو ان من المنطقي النظر الى مصرع ابو اياد ورفيقه ابو الهول كجزء من ذلك المخطط المنهجي.
لقد تمت عملية القتل في كانون الثاني يناير 1991 عشية هجوم قوات التحالف على العراق. فمنذ ان غزا العراق الكويت في آب اغسطس 1990 كانت اسرائيل تلح على استعمال القوة ضد صدام حسين. ولذلك ظلت في تصريحاتها العلنية ومناشداتها الخاصة وفي اتصالاتها مع الحكومة الاميركية وغيرها من الحكومات، ظلت اسرائيل تضغط بتصميم من اجل الحرب، كما انها ضمنت الحصول على تعهدين مهمين من الرئيس بوش: اولهما ألا تقبل الولايات المتحدة، اي ربط بين احتلال العراق للكويت واحتلال اسرائيل نفسها للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان وجنوب لبنان - ولم يكن وارداً في اي حال ان تقبل واشنطن مثل هذا الربط - وثانيهما ان تقوم اميركا بتدمير اسلحة العراق النووية والكيماوية والجرثومية وإلا فستقوم اسرائيل بهذه المهمة بنفسها.
في عام 1967 اعطت غلطة عبدالناصر، التي ارتكبها حين أغلق مضائق تيران، اسرائيل الفرصة لتسحقه. وفي عام 1990 اعطى صدام حسين بدوره العالم ذريعة للحرب، وكانت اسرائيل مصممة، في هذه المرة ايضا، ان تجني منها اكثر الثمار. فخلال حربه مع ايران التي استمرت ثماني سنوات، حصل العراق على صواريخ بعيدة المدى، واسلحة كيماوية وطوّر انظمة اخرى وكانت كلها تشكل تحدياً للتفوق الاسرائيلي. وكان هذا امرا مذعراً لاسرائيل. ومن هنا جاء تلهفها على ان ُتشن الحرب على العراق، لأنها كانت تعلم ان تدمير قوة العراق العسكرية يمكن ان يغير بيئتها الاستراتيجية تغييراً جذريا مشابها للتغيير الذي احدثته هزيمة مصر عام 1967. وأتاحت اخطاء صدام حسين المجال لذلك.
وفي 14 كانون الثاني يناير 1991 وبينما كان انذار الامم المتحدة على وشك النفاد والعالم يحبس أنفاسه، أقدم رجل ابو نضال حمزة أبو زيد، على قتل ابو إياد وابو الهول رئيسي جهازي مخابرات وأمن منظمة التحرير. وعند وصول الخبر الى بغداد طار عرفات الحزين منها عائداً الى تونس ليشيع رفيقيه الصديقين. ودخلت الحركة الفلسطينية في خضم البلبلة والفوضى. وما إن بدأت عاصفة الصحراء تنطلق فوق العراق حتى دخلت منظمة التحرير الفلسطينية في تجربة هزيمة اخرى جديدة.
مسؤولية منظمة التحرير
بعد اغتيال ابو اياد حاولتُ الاتصال بعدد من المنشقين عن ابو نضال او الهاربين من منظمته. لكنهم بدأوا يتوارون عن الانظار. ذلك ان اغتيال ابو اياد حرم كثيرين من حاميهم. ففي تونس، التي ذهبت اليها منظمة التحرير الفلسطينية بعد طردها من بيروت في عام 1982، بدا الامر وكأن احدهم قد قلب عش نمل ظهراً لبطن، بحيث هرع سكانه الى كل اتجاه. ولم تكن منظمة التحرير استعادت أعصابها منذ ان قتل الاسرائيليون قائدها العسكري ابو جهاد في تونس عام 1988. وقد زاد اغتيال ابو اياد الامور سوءاً. وبقتل ابو اياد اثبت ابو نضال انه قادر على ضرب القمة نفسها في اجهزة الامن والمخابرات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. فلم يعد هناك احد سالماً. واتضح ان منظمة عرفات انكشفت مرة اخرى كمؤسسة متراخية، مترهلة، فوضوية، ومخترقة، فلم يعد احد يثق بأحد. وانحطت معنويات المنظمة بشكل مروع رهيب.
كما ان عاطف ابو بكر وزملاءه في قيادة الطوارئ وقعوا في مأزق صعب. كانوا اقسموا على انتزاع المنظمة من يدي ابو نضال. اما وقد خسروا ابو اياد، فإنهم تفرقوا وهم يخشون على انفسهم من القتل. فغاص بعضهم تحت الارض. وهناك آخرون مثل ابو بكر نفسه، ممن اصبحوا مفلسين، فجمعوا ما استطاعوا وغادروا تونس بحثا عن ملاذ اكثر أمنا في الخارج. ولا يكاد احد من هؤلاء الرجال يعرف عدد المرات التي أرغم فيها على حزم حقائبهم.
ثم ان الكارثة التي عانت منها منظمة التحرير الفلسطينية سرعان ما صارت ابشع بكثير، من خلال الهزيمة المذلة لصدام حسين، الذي كان عرفات أيده. وهكذا فإن عرفات، الذي كان يريد ان يعترف به الغرب، وجد نفسه مداناً من قبل جزء كبير من الغرب، ومن قبل معظم العرب كذلك. فتوقف هؤلاء عن إرسال الاموال الى منظمة التحرير. وضاق كثير من الفلسطينيين ذرعا بعرفات، رغم ان معظمهم لا يستطيع ان يقول ذلك بصوت عال. كان الهيكل الاساسي للمقاومة الفلسطينية خارج الاراضي العربية المحتلة ينهار. وضاعت سدى سنوات من الجهد الديبلوماسي، فيما اخذت منظمة التحرير تبدو اكثر ضعفا وعزلة من اي وقت مضى.
وكان سوء حظ عرفات من حسن حظ ابو نضال، رغم ان الخارجيين لم يفهموا ذلك دائما في حينه. فخلال نزاع الخليج، تكهنت الصحافة الغربية بأن ابو نضال سيضع ارهابييه تحت تصرف صدام حسين، راعيه الاول. غير ان ذلك دل على سوء فهم لأبو نضال، الذي كان أدهى من ان يدعم طرفا خاسراً. ثم انه ما كان يختار الطرف نفسه الذي اختارته منظمة التحرير.
لقد خدم ابو نضال دولا عدة لها مصالح كثيرة. وطوال حياته، كان الخيط الناظم لأعماله هو عداؤه لياسر عرفات ومنظمة التحرير. وهو عداء شاطره إياه كل واحد من رعاته الذين اشرفوا عليه. وهذا يعطي الدليل المؤشر على نجاحه. لقد ظلت اسرائيل ترغب في تدمير منظمة التحرير اعواماً طوالاً. كما ان رعاة ابو نضال العرب وجدوا في منظمة التحرير تهديداً لهم. فقد شعروا بأن من الضروري احتواءها واضعافها، كي يحبطوا طموح عرفات في صنع سياسته بصورة مستقلة. ولقد ابقى ابو نضال الحركة الوطنية الفلسطينية في الحضيض سنوات طويلة، واستفاد من ذلك العرب والاسرائيليون على حد سواء.
وقد اعلن الزعماء العرب عن دعمهم للقضية الفلسطينية، غير انهم لم يثقوا بمنظمة التحرير الفلسطينية التي غالبا ما كانت تتحدى سلطاتهم في بلادهم نفسها، وتجتذب الضربات الانتقامية الاسرائيلية، بل وتهدد بجرهم الى الحرب. وينبغي ان تتحمل منظمة التحرير جزءا من اللوم على هذا العداء العربي لها. فقد سمحت لنفسها ان تتورط في المشاحنات العربية. فاصطدمت في اوقات مختلفة بمصالح الدولة في كل من الاردن، ولبنان، وسورية، وتونس، وحديثاً جداً في الكويت. ثم ان موظفيها البيروقراطيين لا كفاءة لمعظمهم. كما انها تعلقت زمناً اطول من اللازم بشعارات تفوح منها رائحة الحروب، وكانت بطيئة الى درجة قاتلة في تحديد اهداف سياسية واقعية ولم يكن يرجى منها امل في عرض قضيتها على الغرب، بل كانت مجموعة من الاصوات المتبلبلة المتباينة المتناقضة التي يخدم كل منها ذاته، بدلاً من ان تكون حركة تحرير متجانسة منضبطة.
ومع ذلك لا يزال الفضل يعود الى عرفات في ادانة الارهاب ومحاولة البحث عن تسوية مع اسرائيل بالمفاوضات منذ عام 1974. وهذا موقف افزع الرافضين من العرب والاسرائيليين الى درجة ان اكثر الحمائم التزاماً في منظمة التحرير اغتيلوا على يد قتلة اسرائيليين وعرب. والحقيقة ان منظمة التحرير الفلسطينية ظلت اعواماً طويلة الضحية الرئيسية للارهاب، وليست مرتكبته، وهذا نقيض المفهوم الشعبي الشائع الذي تشجعه اسرائيل وتروج له في دعايتها.
واليوم، فإن منظمة التحرير تبقى، في غياب البديل، محط انظار الفلسطينيين على رغم انها مضروبة ومتعثرة الخطى تترنح تحت هجمات اسرائيلية وعربية. وسيغادر عرفات المسرح عاجلاً ام آجلاً، وقد تنسحق الانتفاضة او تموت من التعب المنهك، غير ان الوطنية الفلسطينية لن تختفي، وربما تصبح اكثر عنفاً وضراوة مادام هناك خمسة ملايين من البشر الاحياء الذين يسمون انفسهم فلسطينيين. والى ان يتم للفلسطينيين الانتصاف من المظالم التي هم على حق في الشكوى منها، فإن الفلسطينيين والعرب لن يعيشوا في سلام مع اسرائيل.
ولقد كان كثير من تلك المشاكل - كالاحتلال الاسرائيلي، والمقاومة الفدائية، والام المدنيين، والارهاب - نابعاً من انتصار اسرائيل عام 1967 على مصر وسورية والاردن، عندما احتلت اجزاء كبيرة من الاراضي وبرزت كقوة استعمارية اقوى بكثير من جيرانها كلهم مجتمعين. وكان اسحق دويتشر، مؤرخ الثورة الروسية، واحداً من اول الذين لاحظوا بأن استعمار مليون عربي او يزيد سوف يؤذي اسرائيل ويضرها. وقد اقتبس عبارة المانية مريرة: "انك تستطيع ان تقود نفسك بانتصار… الى قبرك". فبعد ايام قليلة فقط من حرب الايام الستة قال دويتشر - وهو يهودي من اعداء ستالين البارزين - في مقابلة اجراها معه مندوب مجلة نيولفت ريفيو: "لم استطع ان اتفرج الا باشمئزاز على المشاهد التلفزيونية من اسرائيل في تلك الايام: استعراضات عنجهية الغزاة ووحشيتهم، وانفجارات المشاعر الشوفينية، والاحتفالات المعربدة بالنصر الشائن، وتناقض ذلك كله بحدة مع صورة آلام العرب والدمار والاسى في ديارهم، والنزوح الجماعي للاجئين الى الاردن، وجثث الجنود المصريين الذين قتلهم الظمأ في الصحراء. ونظرت الى شخصيات العصور الوسطى من الحاخامات وهم يتراقصون طرباً عند حائط المبكى، وشعرت كيف اطبقت على البلاد اشباح النزعة الظلامية التلمودية المغرقة في رجعيتها - وانا اعرف هذه الاشباح جيداً - وكيف تنامى في اسرائيل هذا الجو الرجعي الكثيف الخانق. ثم جاءت المقابلات الكثيرة مع الجنرال دايان، "البطل"، و"المنقذ" ذي العقلية السياسية التي لا ترقى الى عقلية رقيب اول في فوج عسكري، يتبجح بلهجة مسرحية صاخبة عن عمليات الضم والالحاق، ويتقيء قسوة العلوج الخشنة الغليظة عن مصير العرب في المناطق الحرة المغزوّة "ما الذي يهمني من امرهم؟ فبقدر ما يتعلق الامر بي يمكنهم البقاء، ويمكنهم الذهاب، فالمسألة سيّان".
لو استجابت اسرائيل لعرض عرفات
واني لاتساءل ماذا كان دويتشر سيقول في شامير، ورابين، وشارون، وآرينز، وغيئولا كوهين، والبقية، وتكسير العظام بالضرب المبرّح، وحالات التعذيب، ومعسكرات الاعتقال الرهيبة المروعة، ومنع التجول الذي لا يرحم، وفرق القتل، والاطفال الذين يسقطون صرعى بالعشرات، والامرأة الفلسطينية ابنة التسعة عشر عاماً التي قرأت عنها منذ ايام وكيف أُرغمت على ان تلد بينما يداها مشدودتان بالاصفاد الى قضبان سريرها في مستشفى اسرائيلي؟
كيف يستطيع اليهود، الذين عرفوا الاما اقسى بأنفسهم ان يفعلوا مثل هذه الاشياء؟ ذلك ان حياة ابو نضال التعسة البائسة ما كانت لتسير على هذا النحو لو قبلت اسرائيل التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 عندما ارسل عرفات رسائله الاربع الى هنري كيسنجر وابلغه فيها انه مستعد للجلوس الى مائدة المفاوضات.
ويقول الكاتب الاسرائيلي عاموس اوز بأن الاسرائيليين والفلسطينيين ُجنّ جنونهم، وانه من اجل حمايتهم من جنونهم هذا، يجب الفصل بينهم الى ان يتمكنوا من استعادة شيء من التعقل. وكتابي هذا عن ابو نضال يصف حالة اختلال عقلي. وقد كتبته لاوضح نوع الجنون الملطخ بالدماء الذي يجري خلف الكواليس. فالفلسطينيون والاسرائيليون يقتتلون على قطعة ارض بحجم منديل الجيب - الضفة الغربية - التي احتلتها اسرائيل عام 1967. فآمال الفلسطينيين في الحصول على هوية، وعلى استعادة احترامهم لانفسهم، ترتكز على هذه الشريحة او الشظية من الارض، اذ ان اي شيء اقل من حكم انفسهم بأنفسهم هناك يعني استمرار الشتات او العبودية المريرة. فهم يقتلون وُيقتلون ليستعيدوها. غير ان كثيراً من الاسرائيليين الزاعمين بأن الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من "ارض اسرائيل" مستعدون للقتل وللموت بدلاً من التخلي عنها. ومن دون السلام فإن المستقبل ينذر بالمزيد من الارهاب والارهاب المضاد من النوع الوحشي القاسي الذي وصفته في هذا الكتاب.
وعلى مدى السنوات، بدأت اعتقد ان امن اسرائيل على المدى البعيد لا يعتمد على سحق الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير بل على التفاهم معهما. فوجود دويلة فلسطينية على حدود اسرائيل هو ابعد ما يكون عن تهديدها، بل انه سيقويها بأن يكسبها قبولاً في اسرة الشرق الاوسط.
ويميل الاسرائيليون الى التعبير عن وضعهم بعبارات ومصطلحات وجودية، وكأنهم تحت التهديد المستمر بالانقراض، ولكن اسرائيل لا تواجه تهديداً لوجودها، فقد كانت اخر مرة واجهت فيها مثل هذا التهديد هي فترة الهدنة القصيرة اثناء حرب عام 1948، كما اعترف بذلك علناً عازر وايزمن، بطل الحرب الاسرائيلي وقائد القوى الجوية السابق. فالنقاش اليوم لا يدور حول وجود اسرائيل - اذ ان هذه المسألة حسمت منذ اربعين عاماً - بل حول شروط وطبيعة السلام الذي يجب ان تقيمه مع الارض العربية الداخلية المحيطة بها. وهو سلام اتوق اليه بشدة، باعتباري واحداً ممن انهمكوا في دراسة المنطقة طيلة العقود الثلاثة الماضية.
وعلى رغم ان العرب يريدون السلام، فإن هناك في تقديري شيئين لن يقبلوهما، واذا اصرت اسرائيل عليهما فمن المؤكد ان يولدا مزيداً من العنف الارهابي الذي يشبه عنف ابو نضال، وحروبا اخرى مع مرور الزمن. واول هذين الشيئين هو دوام قهر الشعب الفلسطيني وتشريده، فإذا كانت اسرائيل تريد السلام فإن عليها ان تفسح مجالاً لوطن فلسطيني، كشريك لا كخصم، ضمن حدود فلسطين التاريخية.
اما الشيء الثاني الذي لن تتسامح معه المنطقة فهو السيطرة الاسرائيلية الدائمة. فالعرب غير مستعدين للعيش الى اجل غير مسمى من دون حماية مناسبة وملائمة في ظل القوة الاسرائيلية، وفي خوف من هجومها عليهم بتفوقها العسكري الكبير. ذلك ان تعرضهم للعطب والاذلال سيدفعهم حتماً الى الحصول على وسائل ايقاف اسرائيل عند حدها. ومثل هذه الوسائل قد لا تكون متاحة بعد لجيران اسرائيل غير ان بحثهم عنها سوف يستمر، وهناك احتمال كبير بأنه سيجعل اسرائيل على الارجح توجه اليهم ضربات وقائية، الامر الذي يشعل دورة جديدة من العنف.
ومع ذلك فإن السلام المستقر الذي يدوم وقتاً طويلاً بين اسرائيل وجيرانها لا يمكن ان يرتكز الا على الردع المتبادل، على توازن القوى بين العرب واسرائيل، وعلى حسن الجوار في آخر الامر. فلا يمكن ان تستمر اسرائيل في الحفاظ على امنها الى الابد على حساب انعدام الامن لجيرانها - وهذه صيغة اتبعتها الحكومات الاسرائيلية والاميركية المتعاقبة عبر عدة عقود من الزمن.
ان كلفة استيلاء اسرائيل على الضفة الغربية لا يمكن حسابها. ولقد دفعها الفلسطينيون موتاً وحياة ممزقة، غير ان اسرائيل ايضاً تدفعها بتحويل مجتمعها وجيشها الى همج وفي خسارتها لسمعتها، وفساد ديبلوماسيتها بينما هي تتلاعب بالرأي العام الدولي وتتحايل وتسلك طرقاً معوجة لتتجنب مفاوضات قد تقتضي اعادة الاراضي الى اصحابها.
عندما اتهم النقاد السوفيات المتشددون وزير الخارجية السابق ادوارد شيفاردنادزة "بتضييع" اوروبا الشرقية، و"السماح" لالمانيا بالاتحاد، اجابهم متفكراً: "انه الثمن الذي يتوجب علينا دفعه لكي نصبح بلداً متحضراً". وهذا جواب ينبغي على اسرائيل ان تتأمله وهي تنظر في مصير الاراضي المحتلة التي تتألم رازحة تحت حكمها، وتجيش بالغليان.
انتهى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
مواضيع ذات صلة