أزمة الخليج الثانية لا تزال تفرز آثارها على المنطقة العربية. فبالاضافة الى تصاعد حدة الازمة الليبية - الغربية، وتزايد التعنت الاسرائيلي انضمت ايران الى تركيا في عملية انتهاك السيادة العراقية، مع تلويح بمسلك مشابه تجاه سورية رداً على سياستها في سهل البقاع ودعمها الاكراد الانفصاليين هناك. وعلى رغم ان سلاح الاقليات واستخدام المعارضة عموماً هو من الناحية التاريخية احدى آليات ادارة الصراع السياسي بين الدول الاربع سورية والعراقوتركياوايران شأنه في ذلك شأن سلاح المياه او النفط، الا ان الغارة الايرانية الاخيرة على مواقع حركة "مجاهدين خلق" في العراق لا تتصل مباشرة بعلاقة التفاعل الصراعي بين العراق وجارته الشمالية، بل ناتجة عن اعتبارات اخرى. وهذا تصور يستدعي القاء الضوء على الخبرة التاريخية لكل من النظامين العراقيوالايراني في توظيف معارضة الطرف الآخر مع إبراز خصوصية المغامرة الايرانية الاخيرة في سياقها. لنبدأ اولاً بالمعارضة السياسية كإحدى آليات ادارة الصراع العراقي - الايراني. بعد الاطاحة بنظام الشاه في ايران والسماح بقدر يسير من التعددية الحزبية، شهدت الجمهورية الاسلامية ازدهار بعض القوى والفصائل السياسية التي التفت من حيث المبدأ حول النظام الجديد طلباً للتغيير. وسرى ذلك على تلك التنظيمات التي كانت صنيعة آيات الله انفسهم مثل حزب الجمهورية الاسلامية، كما سرى على بعض التنظيمات المعارضة التي كان تنامي التيار المؤيد للثورة في داخلها سبباً من اسباب انشقاقها على نفسها كما حدث مع جماعة "فدائيي خلق" وحزب توده الشيوعي. ومع بداية حظر النشاط الحزبي وتزايد الممارسات القمعية لنظام الخميني وجد اكثر التنظيمات المعارضة سبيله الى الخارج حيث تتمتع بحرية اكبر في ممارسة النقد. ومثلت باريس ملجأ لعدد لا بأس به من تلك التنظيمات لاعتبارات تتصل بالتكوين الثقافي لمؤسسيها، وكان من بينها حركة تحرير ايران التي كان اسسها اول رئيس وزارة للجمهورية الاسلامية مهدي بازركان منذ عام 1961 ولعبت دوراً مهماً في تأييد الثورة ثم عادت لتسحب تأييدها بسبب ما اتهمتها به من اشاعة "جو من الارهاب والخوف وعدم التكامل القومي"، وكذلك الجبهة الوطنية الديموقراطية التي أسسها متين دافتاري حفيد محمد مصدق عام 1979 ثم حظر نشاطها فيما بعد بسبب دعوتها الى العلمانية. هذا فضلاً عن بعض التنظيمات الاخرى التي شهدت بداياتها الأولى في العاصمة الفرنسية، مثل المجلس الوطني للمقاومة من اجل الحرية والاستقلال الذي اسسه الرئيس السابق ابو الحسن بني صدر عام 1981، والحركة الوطنية للمقاومة الايرانية التي اسسها شهبور بختيار آخر رؤساء حكومات الشاه الذي اغتيل قبل بضعة اشهر. واستضاف العراق بدوره عدداً آخر من التنظيمات الايرانية المعارضة كان اهمها على الاطلاق حركة "مجاهدين خلق" بزعامة مسعود رجوي وكانت الحركة تكونت عام 1966 لمعارضة حكم الشاه ومثلت الاشتراكية الاسلامية مضموناً لأيديولوجيتها السياسية، ومع اندلاع الثورة الاسلامية حدث صدام بين الثورة وحركة "مجاهدين خلق" في وقت مبكر، بسبب معارضتها لدستورها، الامر الذي دفع الامام الخميني الى اعلان عدم اهلية زعيمها مسعود رجوي لترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية ثم منع نشاط الحركة بعد ذلك. وعلى رغم ما منيت به الحركة من انقسام على نفسها، الا انها احتفظت بقدرتها على تنفيذ بعض التفجيرات والاغتيالات السياسية انطلاقاً من قواعدها داخل العراق. ومن جانبها، تولت ايران رعاية عدد من اهم تنظيمات المعارضة العراقية، سواء قبل اندلاع الثورة الاسلامية او بعدها، ومن بين تلك التنظيمات حزب الدعوة الذي تأسس عام 1969 واتصل بالخميني اثناء اقامته في العراق وحظي بشعبية جارفة بين الجماهير في النجف الاشرف وكربلاء، ثم اضطر الى نقل نشاطه الى ايران تحت ضغط سياسة القمع العراقي، كما ان هناك حزب المجاهدين الذي انشأته الثورة الاسلامية عام 1979 واشترك مع سابقه في الولاء لمبادئ الإمام محمد باقر الصدر وإن فاقه عنفاً في معارضة النظام. هذا بالاضافة الى منظمة العمل الاسلامية ومقرها طهران. وكان تحريك فصائل المعارضة في اتجاه او آخر متوقفاً على درجة التأزم في العلاقات العراقية - الايرانية وحجم التناقض الايديولوجي، فضلاً عن الخلاف المادي في المصالح بين نظامي بغدادوطهران. فبعد قليل من تسلم السلطة في ايران وجه الإمام الخميني نداء الى الشيعة العراقيين في 9 نيسان ابريل 1980 حرضهم فيه على "الجهاد" ضد قيادتهم السياسية التي رماها بالكفر والإلحاد. ورد الرئيس صدام على ذلك بطرد 17 ألف عراقي من ذوي الاصول الايرانية فضلاً عن اعدام الإمام محمد باقر الصدر. وقد مثلت كارثة الخليج الثانية، ازمة ثم حرباً، فرصة مثالية لتأليب المعارضة السياسية واقترنت بملاسنة علنية بين مسؤولي النظامين. ففي مواجهة دعوة رفسنجاني وخامنئي الى الاطاحة بصدام حسين على اساس ان الخليج "لن ينعم بسلام واستقرار راسخين ما دامت الديكتاتورية تسود العراق"، حمل رئيس الوزراء العراقي سعدون حمادي على آيات الله الذين لم يستطيعوا مقاومة اغراء الفرصة السانحة وحاولوا تصدير الثورة وإقامة حكومة موالية لإيران في العراق او في جزء منه. بيد ان الملاحظة الجديرة بالاهتمام هي انه منذ نهاية الحرب العراقية - الايرانية وحتى الغارة الجوية الاخيرة، اتسم التفاعل الصراعي بين الدولتين المعنيتين بسمة الانضباط، وأعني بذلك نقطتين اساسيتين: النقطة الاولى هي ان هذا التفاعل اقتصر على تحريك بعض عناصر المعارضة في المنفى او بعض وحدات القوات الخاصة لإثارة او لتعميق حالة عدم الاستقرار السياسي في الدولة الاخرى، ومن ذلك ما تردد عن دفع ايران ببعض مجموعات من حرسها الثوري وأعضاء حزب الدعوة وأفراد من الاسرى التوابين - الجنود العراقيين الذين تمردوا على العودة لوطنهم بعد انتهاء حربهم مع ايران - الى داخل الاراضي العراقية لمساندة الانتفاضة الشعبية الشيعية التي اندلعت غداة انتهاء حرب الخليج الثانية، وهو ما اثبتته مذكرة العراق الى الاممالمتحدة في الربع الاول من عام 1991 وتمسكت ايران بنفيه. والنقطة الثانية هي ان هذا التفاعل توقف على محور واحد اساسي هو محور الشيعة - المجاهدين ولم يتطرق الى بقية مكونات التركيب الاثني المعقد للدولتين المتجاورتين، خلافاً لما كان عليه الوضع في السبعينات. وننتقل الآن الى خصوصية المغامرة الايرانية الاخيرة في سياق التفاعل العراقي - الايراني. لقد خرج القصف الجوي الايراني لقواعد "مجاهدين خلق" في العراق عن مألوف التفاعل بين النظامين منذ انتهاء الحرب العراقية - الايرانية، وذلك بتصعيده رد الفعل المضاد الى مستوى المواجهة العسكرية من جهة، وباحتمال شمول تلك المواجهة مزيداً من المحاور الاخرى، مع ظهور التعقيدات الاقليمية للمشكلة الكردية من جهة اخرى. وسبب ذلك ان نظام هاشمي رفسنجاني في صراعه مع معارضته اليسارية لا يواجه محنة مماثلة لتلك التي يعانيها نظام الرئيس التركي، تورغوت اوزال في صراعه مع الاكراد، الامر الذي يجعل هذا التصعيد غير مبرر وغير مقبول. ويزيد في وضوح تلك الحقيقة ملاحظتان اساسيتان. الاولى هي ما كشفت عنه التحقيقات مع قائد الطائرة الايرانية التي اسقطتها المدفعية العراقية من تلقيه اوامر ضرب "مجاهدين خلق" في الاسبوع الثاني من شهر آذار مارس الماضي، اي قبل الاعلان عن قصف الحركة للقريتين الايرانيتين اللتين اتخذتهما السلطات الرسمية ذريعة للهجوم على العراق. والثانية هي تزامن الغارة الجوية مع سلسلة من التطورات الداخلية والاقليمية والدولية التي تجعل اهدافها السياسية تتخطى حدود التعامل مع "مجاهدين خلق". وانطلاقاً من ذلك يمكن القول ان الغارة الايرانية على العراق كانت عملاً عسكرياً محسوباً لتحقيق ثلاثة اهداف اساسية: * الهدف الأول عرض القدرات العسكرية والديبلوماسية لنظام رفسنجاني قبل خمسة ايام فقط من بداية الانتخابات التشريعية. ويدعم هذا التصور امران اساسيان، الامر الاول هو التضخيم المبالغ فيه من جانب السلطات الايرانية لضحايا اولى غاراتها الجوية منذ سريان وقف اطلاق النار عام 1988 مع العراق وسكوتها عن اسقاط احدى طائراتها واعتقال ملاحيها. ففي مقابل ما ذكرته المصادر الايرانية عن مصرع واصابة 1500 من عناصر "مجاهدين خلق" منهم بعض قادة الحركة، تحدث مسعود رجوي عن اضرار مادية طفيفة ومصرع شخص واحد فقط. بهذا المعنى يمكن اعتبار المسلك الايراني بمثابة رسالة تحذير الى انصار الحركة داخل ايران خصوصاً ولمعارضي النظام عموماً، من عاقبة افساد الانتخابات او عرقلة مسارها. لقد عانت الجمهورية الاسلامية من تفاقم الاضطرابات السياسية والعسكرية بمناسبة اجراء اول انتخابات تشريعية لها في عام 1980، الامر الذي اضطرت معه الى وقف اجراء الانتخابات في 22 مدينة ايرانية كبرى، بما في ذلك سائر مدن الاقليم الكردي. كما تعرضت نتائج الانتخابات الى الطعن في سلامتها من قبل حركة "مجاهدين خلق" كأحد اطراف اللعبة السياسية آنذاك. من هنا، اراد رفسنجاني ان يستبق المعارضة ويثبت لها احكام قبضته على النظام. والأمر الثاني هو ازدواجية الخطاب السياسي الايراني الرسمي في تحليل الواقعة وما لحقها من تطورات، فلقد حرص مسؤولو النظام على وضع الغارة الجوية في سياق التزامهم الكامل الشرعية الدولية، على اعتبار ان عملهم يأتي ممارسة لحقهم في الدفاع المشروع عن النفس بمقتضى المادة 51 من ميثاق الاممالمتحدة والتزاماً بقرار المنظمة الدولية الرقم 598 الخاص بوقف الحرب مع العراق. ان اكثر ما كان يخشاه المسؤولون الايرانيون ان يصنف عملهم تحت بند الارهاب ويعامل كامتداد لسياسة مطاردة معارضي النظام، بما يضعهم في موضع الاتهام، كما حدث غداة اغتيال بختيار في باريس، وارتبط بذلك التأكيد على محدودية نطاق الغارة وعدم تجاوزها هدف تأديب المتمردين الى هدف تصفية الحساب مع صدام. ولكن الى جانب هذا الخطاب العقلاني - القانوني الذي دأب عليه نظام رفسنجاني في مواجهة المجتمع الدولي، كانت هناك استعارة لبعض مفردات قاموس الخميني من خلال وصف "مجاهدين خلق" ب "شرذمة المنافقين" وربط هجماتهم المتتالية بمخططات قوى "الاستكبار العالمي" بما يحفظ التواصل مع ميراث الإمام. وقد تأكد ذلك من خلال تلك الضجة التي اثارتها وسائل الاعلام الايرانية في الفترة نفسها حول اساءة احدى الصحف لصورة الخميني وإبراز قرار السلطات الرسمية بغلق الجريدة وتقديم مسؤوليها الى محاكمة عاجلة. * الهدف الثاني هو محاولة انتزاع بعض المكاسب الاقليمية الممكنة. وبعد الغارة لاحظ المراقبون قيام ايران باستكمال احتلالها لجزيرة ابي موسى التي كانت استولت عليها عام 1971 وقيامها بالتخلص من بعض العائلات والمؤسسات الاماراتية. بعبارة اخرى لقد اراد نظام رفسنجاني ان يثبت ان له دوره في المنطقة وانه يجب عدم تجاهل هذا الدور في الترتيبات والاجراءات المتخذة. ومن هذه الزاوية يمكن المشابهة التاريخية بين الغارة الايرانية الاخيرة وبين مسالك نظام الشاه عام 1975، عندما استفادت قواته من اندلاع الصراع المسلح بين العراقيين والاكراد لتتوغل مسافة عشرة اميال داخل الاراضي العراقية، وعلى رغم ان ايران لم تكن طرفاً في هذا الصراع بشكل او بآخر، الا ان تورطها فيه شكل الخلفية السياسية لتوقيع اتفاقية الجزائر وانتزاع الشاه لبعض المكاسب الحدودية من العراق. * الهدف الثالث: هو احراج الولاياتالمتحدة وإبراز التناقضات داخل المعسكر الغربي بخصوص واحدة من اهم القضايا التي تستخدم حالياً للتدخل في شؤون الدول والحكومات، وهي قضية حقوق الانسان. فلقد جاءت الغارة الايرانية تالية على واحدة من سلسلة الغارات المماثلة التي دأبت عليها تركيا منذ انتهاء حرب الخليج الثانية لتطهير شمال العراق من قواعد حزب العمال الكردي المناوئ، واستفادت من التقديرات الخاصة بالادارة الاميركية التي دعتها لتفهم دوافع تركيا لملاحقة الارهابيين حيثما كانوا. وتلك نقطة مهمة. ذلك ان التحالف الغربي اعطى لنفسه صلاحية توقيع العقاب على كل انتهاك لحقوق الانسان، لكن دول التحالف الغربي اختلفت في ما بينها على تعريف مضمون تلك الحقوق وتحديد المستفيدين منها. ومن هنا فبينما ميزت الولاياتالمتحدةبريطانيا وفرنسا بين مشروعية المعارضة السياسية الداخلية وإرهاب المعارضة السياسية في المنفى، فان دولة مثل المانيا وضعت تأزم العلاقة بين النظام الحاكم وبين معارضته في الداخل والخارج في اطار قضية اوسع تتصل بغياب الديموقراطية في الدول النامية. لقد رأت الديبلوماسية الايرانية توظيف هذا التناقض في الرؤى الغربية لصالحها، وكان من المفارقة ان تحظى تعديات انصار "مجاهدين خلق" على السفارات والمصالح الايرانية في الخارج، بعد الغارة، باهتمام المجتمع الدولي بأكثر مما حظيت به الغارة الايرانية نفسها. وأخيراً فإن النجاح المحدود الذي صادفته الغارة على العراق، لا سيما ما اتصل منه بإثبات اللياقة العسكرية الايرانية، يغري على تكرار المحاولة لإثبات العكس. وثمة ما يحمل بالفعل هذا المعنى في التصريحات التي ادلى بها المسؤولون الايرانيون وفي تلميحاتهم الى احتمالات معاودة الاغارة على العراق لو تكرر غزو ايران من اراضيه. الا انه يظل من الصعب الاتفاق مع تلك التحليلات التي تجعل من الغارة الايرانية فاتحة لمسلك توسعي ايراني. وبالاضافة الى ذلك فان نجاح البرنامج الانتخابي للجناح الايراني المعتدل يفرض ضوابط معينة على صانع السياسة الخارجية الايرانية تتصادم، ولو موقتاً، مع اسانيد الهيمنة الفارسية التليدة. * خبيرة في شؤون ايران واستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد في جامعة القاهرة.