مع حلول عيد الفطر المبارك، نتبادل التهاني وأجمل الاماني بعيد سعيد، ولا نكتفي بالمبادلة الشفهية فقط، بل نحرص على ان ندون امانينا الطيبة على بطاقات المعايدة الصغيرة ونرسلها الى الاصدقاء والاهل والمعارف مع اجمل كلمات المودة. وعلى رغم التقدم العلمي الهائل الذي يشهده العالم في وسائل الاتصال حالياً، فما تزال هذه البطاقة المزركشة الملونة هي افضل وسيلة نستخدمها للتهنئة لا بالعيد فقط، ولكن بكل المناسبات السعيدة تقريباً - بالزواج والترقية، بالتهنئة بالبيت الجديد والشكر والعرفان على لفتة حلوة من صديق او رفيق، ونبثها ربما مع كلمات بسيطة معبرة في اعياد الميلاد. فمن اين نبعث هذه البطاقات الطريفة، وما السبب في انتشارها بهذه الصورة الكبيرة في انحاء العالم حتى ليقال ان البلايين منها تتنقل من مكان الى مكان في كل عام في جميع اركان الكرة الارضية؟! السبب كان البريطاني سير هنري كول محباً للتاريخ وجمع حقائقه، في زمن كانت بلاده امبراطورية لا تغيب عنها الشمس لذا لم يكن من الغريب ان تعهد الملكة فيكتوريا اليه تأسيس متحف "فيكتوريا وألبرت" الذي يعنى بجمع مقتنيات الحياة اليومية التي يمكن من خلالها التعرف على تاريخ الشعوب. وفي عام 1843 وبينما كان "كول" مشغولاً كعادته بعمله، ادرك فجأة ان الوقت قد سرقه، وأن اعياد الميلاد قد اصبحت على الابواب ولم يعد لديه الوقت الكافي لكتابة رسائل مطولة - كما كانت عادته - للاصدقاء والمعارف مهنئاً بالمناسبة السنوية. ومن خلال اعماله ومشاغله طرأت فكرة على ذهنه وهي لماذا لا يبتكر بطاقة تحمل صورة ما، ولتكن صورة عائلة تحتفل بالمناسبة في مرح وحبور، ويكتب كلمات موجزة على ظهر البطاقة مهنئاً معارفه واحباءه؟ وعرض سير كول الفكرة على رسام صديق كان عضواً في الكلية الملكية للفنون ببريطانيا يدعى "هورسلي"، وتحمس الاخير للفكرة وعلى الفور بدأ في تنفيذها، وسرعان ما كانت البطاقات جاهزة ومعدة للارسال بعدما وقعها سير هنري كول وذيلها بكلمات قصيرة مقتضبة. والواقع ان هذه البطاقات الأولى اثارت غضب وحفيظة من تلقاها - كما تذكر كتب التاريخ - اكثر من كونها بعثت السرور الى نفوسهم، فقد اعتبرها الناس اهانة ودليلاً على عدم تقدير مرسلها لهم، لأنه لم يخصص الوقت الكافي للكتابة المطولة لهم! ولكن هنري كول لم ييأس وكرر التجربة في العام التالي، بل وافتتح محلاً في شارع "بوند ستريت" بلندن خصيصاً لانتاج بطاقات التهاني. وبعد مدة وجيزة اخذت الفكرة تنتشر تدريجياً حتى اصبحت البطاقة الواحدة تباع بشلن! من بريطانيا الى اميركا والمانيا ظلت فكرة كول الوليدة تحبو عشرين عاماً، وبرغم النجاح النسبي الذي حققته في بريطانيا الا ان استغلالها تجارياً لم يتوفر الا على يد شخص يدعى "تاك"، فقد طور هذا الاخير فكرة البطاقة ووسع الصور والرسوم المستخدمة لزركشتها حتى اصبحت واحدة من انجح الصناعات في الغرب. وفي اميركا لم تظهر بطاقة المعايدة قبل العام 1850 وإن كانت اولى البطاقات المطبوعة في اميركا لم تعرض للبيع، فقد انتجتها شركة "بيس" كي توزعها على العاملين فيها ليهدونها الى اصدقائهم واقاربهم كنوع من الدعاية للشركة على النحو الذي نألفه في العالم العربي لامساكية شهر رمضان المبارك. اما في المانيا فقد كان حتمياً ان تعرف بطاقات المعايدة والتهاني طريقها الى الانتشار، نظراً لتقدم الطباعة هناك. وهكذا اخذت صناعة البطاقات تزدهر، وتتنوع وتقدم للمستهلك اشكالاً وألواناً طريفة ومسلية من بطاقات التهنئة. ابو الحن كان الأول شهدت البطاقات "موضة" على نمط ما تشهده الازياء، ولا تزال تشهد تطوراً دائماً الى الآن. ومن الرسوم التي سادت في بداية انتشارها، صورة لطائر "ابو الحن" او الروبن الانكليزي والذي يمتاز بلون احمر يزين ريش صدره ويعرف بجمال صوته عندما يشقشق، والطريف ان سر شعبية هذا الطائر وكثرة استخدامه على بطاقات المعايدة ريشه الاحمر والذي كان الناس يربطون بينه وبين زي سعاة البريد الاحمر في بريطانيا في اوائل هذا القرن! بعد "ابو الحن" اصبحت طيور وحيوانات اخرى هي الموضة المستخدمة على بطاقات المعايدة! فجاء دور الببغاء، والبط، ثم البجع، بل وحتى البوم. وبعد انحسار موجة الطيور والحيوانات كالقطط والكلاب وغيرها، ابتكرت البطاقات المبطنة التي كانت تعبأ بالعطور، فاذا ما ضغط الشخص عليها انتشر اريج العطر في المكان ليبثه الاعزاز والتقدير، لا مجرد التهاني والتحيات!! ومثلما سادت البطاقات المعطرة، وتلك المزركشة بالدانتيلا او الرسوم البارزة، ابتكرت البطاقات التي تحمل صوراً طبيعية للاطفال، ثم تلك التي تحمل رسوماً كاريكاتورية او لشخصيات اسطورية معينة مثل روبن هود وذات الرداء الاحمر. وأصبحت البطاقات في اواخر القرن الماضي، الابتكار الذي يجري وراءه الكثيرون، حتى ان احد اصحاب شركات بطاقات المعايدة قرر اجراء مسابقة قومية في بريطانيا لاختيار افضل تصميم لأحدى البطاقات بجائزة قدرها 500 غينيس، وكان مبلغاً كبيراً من المال آنذاك… اما الملكة فيكتوريا فقد كانت ترسل الألوف من بطاقات المعايدة والتهنئة في كل عام وبخاصة في المناسبات الدينية المختلفة، ويقال ان افضل التصاميم لديها كان لبطاقة عليها صورة اطفال يلهون، وانها كانت تكرر طبع المئات من هذه الصور كل عام. من عجائب البطاقات مع ابتكار السيارة وانتشار القطار وظهور الطائرة في ما بعد انتجت البطاقات المختلفة التي تحمل صوراً للنماذج المختلفة من تلك الابتكارات، ولكن لعل اخطر بطاقة معايدة شهدتها بريطانيا، كانت تلك التي تقلد الورقة من فئة خمسة جنيهات وقد بلغ من دقة التقليد ان تدخلت الحكومة البريطانية لوقف بيعها في الاسواق، خشية ان يتم تداولها على انها عملة حقيقية! وحدث الشيء نفسه في اميركا بالنسبة لبطاقة معايدة على هيئة دولار. وفي الحرب العالمية الاولى لعبت بطاقات المعايدة، والبطاقات البريدية عموماً، والتي ازدهرت مع ازدهار بطاقة المعايدة، دوراً في رفع معنويات الجنود، ولكن الغريب ان بريطانيا منعت تداول او بيع بطاقات المعايدة لفترة محدودة اثناء الحرب العالمية الثانية بسبب نقص الورق، لكن المسؤولين سرعان ما ادركوا اهمية هذه البطاقات في رفع معنويات الجند والشعب على حد سواء، فتراجعوا عن قرارهم وسمحوا باستخدام كميات معينة من الورق في طبع البطاقات. وسلسلة الارقام القياسية بالنسبة لبطاقات المعايدة لا تنتهي، فأكبر بطاقة من نوعها كانت تلك التي عُلقت على احد جوانب طائرة بوينغ 707 بمناسبة اعياد الميلاد، وبالتالي فانها اعلى بطاقة ايضاً بالقياس الى الارتفاع الهائل الذي بلغته على متن الطائرة اذا جاز التعبير. اصغر بطاقة معايدة تلقاها ولي العهد البريطاني من احد ابناء الشعب للتهنئة بعيد ميلاده في العام 1929، وكتبت على حبة صغيرة من الارز ولا يمكن قراءتها الا تحت الميكروسكوب. اغلى بطاقة معايدة، تلك التي ارسلها الامير الهندي جاكور لسيدة من الطبقة النبيلة في بريطانيا تهنئة بأعياد الميلاد قبل ثمانين عاماً، وكانت بطاقة حفرت على لوح من العاج النادر واستغرق صنعها ستة اشهر، وتكلفت آنذاك نصف مليون جنيه استرليني. ولصنع هذه البطاقة الفريدة تم اصطياد اربعين فيلاً لاستخدام سن الفيل في صنعها، ورصعت البطاقة بأربع وأربعين ماسة من نوع راق حول الحافة. الغريب ان التاريخ لم يحتفظ لنا ما اذا كانت هذه النبيلة أعجبتها البطاقة ام لا. ومن اغرب ما يتعلق ببطاقات المعايدة والتهاني ان رجلاً انكليزياً من يوركشاير يدعى جوناثان كنغ قد امضى عمره متفانياً في جمع كل انواع البطاقات والكروت من جميع انحاء العالم حتى اصبح في حوزته 163 الف بطاقة ملأت سبعمائة مجلد، وبلغ وزنها ما يقرب من ثمانية اطنان. ولما ضاقت المساحة بالرجل قرر اهداء مجموعته النادرة الى متحف فيكتوريا وألبرت، لكن المتحف اعتذر عن قبول الهدية لعدم وجود مساحة كافية لتخزينها. وعرض جوناثان كنغ المجموعة على عدد آخر من المتاحف، ولكن عروضه كلها باءت بالفشل، فاضطر في نهاية الامر الى بيع مجموعته منفصلة! اما اغرب قصة تتعلق ببطاقات التهنئة فهي قصة الصديقين وين جونز من لستر ورفيق الدراسة ارنست هاريس، ففي العام 1940 ارسل جونز بطاقة تهنئة لصديقه تقول كلماتها: اليك هذه البطاقة المحملة بالتهاني… ارجو الا تضيعها… سأوقع اسمي بقلم الرصاص… وإن كنت مخلصاً حقاً، فاحفظها وأرسلها لي في العام المقبل… وبالفعل… التقط هاريس الخيط من الصديق العزيز واحتفظ بالبطاقة عاماً كاملاً، ثم وقعها بقلم الرصاص مع التاريخ واعادها للصديق، وهكذا ومنذ اثنين وخمسين عاماً يتبادل الصديقان البطاقة ليحتفظ بها كلٌ منهما عاماً ثم يردها الى صديقه مع التوقيع والتأريخ بالعام الجديد. ماذا تعني؟ والخبراء من جهتهم ايضاً تدخلوا ليحللوا الشخصية من نوع البطاقة التي ترسل في الاعياد والمناسبات المختلفة. وهذه هي خلاصة التحليل: 1 - البطاقات التقليدية كالتي تصور المناظر الطبيعية الجميلة، خاصة تلك الملتقطة للبيوت والاشجار في الشتاء والثلوج تغطيها، رمز الى شخصية رومانسية حالمة تحب الحياة الأسرية والحنين الى الماضي. 2 - البطاقات التي تحمل صور الطيور او الحيوانات الاليفة، دليل على شخصية خجول، ولكنها تتمتع بحرارة ودفء انسانيين وتفضل ان تشارك الغير مسراتهم في هدوء وتواضع. 3 - البطاقات التي تصور الاطفال يمرحون ويلعبون تنم عن شخصية منطلقة عفوية تحن الى البراءة والمتعة، وتود ان تنشر البشر والسرور حولها. 4 - البطاقات التي تحمل صوراً او رموزاً دينية معينة تنم عن شخصية آسرة تتمتع بالعمق الروحاني وتفيض بمحبتها على الغير من واقع قربها من الخالق سبحانه وتعالى. 5 - الازهار والخضرة والنباتات على البطاقات، ينم اختيارها عن شخصية تنظر دائماً الى الجانب المشرق من الحياة، التفاؤل طابعها والربيع دائم الاختيال في ركبها. 6 - البطاقات التي تحمل صوراً للشموع والمصابيح تعبر عن شخصية حذرة مفكرة، وربما تنم عن بعض القلق الذي يصبغها ايضاً شخصية هؤلاء هي الباحثة عن الحل دائماً للمشاكل من حولنا. 7 - البطاقات التي لا تزينها رسوم او زركشة، ولا تطبع عليها كلمات معينة، تنم عن شخصية غامضة لا تحب ان تفصح كثيراً عن نفسها… وتتكتم اخبارها قدر الامكان، ولكنها ايضاً شخصية حساسة يهمها ألا تجرح شعور الآخرين. والآن وقد اخترت بطاقة المعايدة التي سوف ترسلها لأحبائك، عزيزي القارئ، هل تعرف اي نوع من الناس انت؟ ومهما كان نوع البطاقة التي قررت استعمالها، فانك بهذا قد شاركت ملايين البشر في تكريس عادة أصبحت لا غنى عنها في عصرنا الحالي… فكل عام وأنت بخير! واذا كنت لم تختر بطاقات المعايدة الخاصة بك بعد، فلا تيأس ربما لعب الحظ دوراً معك كما فعل مع سكان مدينة ساتون في نوتنغهام في بريطانيا، فقد أسفر خطأ مطبعي عن قلب تاريخ بطاقات المعايدة لعام 1966 فأصبح 9961، وهكذا امكن للناس آنذاك ان يدعوا انهم ارسلوا بطاقاتهم مبكرة بأكثر من 7990 عاماً، ومن يدري ربما انقذك خطأ مطبعي من الاعتذار عن التأخير في ارسال بطاقات التهنئة بالعيد… و… عيد مبارك…