تشهد تركيا حالياً "حرباً داخلية" بين الحكومة التي يرئسها سليمان ديميريل والثوار الاكراد الانفصاليين الممثلين بحزب العمال الكردستاني. هذه "الحرب الداخلية" اندلعت مع بداية فصل الربيع في جنوب شرقي البلاد، بين عناصر حزب العمال الكردستاني اليساري الذي يطالب منذ عام 1984 بالانفصال عن تركيا وانشاء كيان كردي مستقل والقوات النظامية التركية واسفرت عن مواجهات عنيفة سقط نتيجتها عدد كبير من القتلى والجرحى. وفي الوقت الذي دعت فيه الحكومة التركية الانفصاليين الاكراد ويقدر عدد المقاتلين في صفوفهم بين 7 و10 الاف مقاتل الى الاستسلام والتخلي عن اسلحتهم "لأن احلامهم بالانفصال عن تركيا لن تتحقق". حذر زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان في مقابلة صحافية "من ان صيفاً حاراً بدأ وان دماء كثيرة ستسيل فيه". وهناك مخاوف من ان تمتد هذه الحرب الداخلية من جنوب شرقي تركيا الى مناطق اخرى فيها، ربما في ذلك اسطنبول، كما ان هناك مخاوف من حدوث توتر جدي بين تركيا وسورية، خصوصاً ان حكومة ديميريل تتهم السوريين بالسماح للثوار الاكراد الانفصاليين بالتدرب على القتال في سهل البقاع اللبناني. بسمة قضماني درويش الخبيرة البارزة في شؤون الشرق الاوسط والمسؤولة عن هذه القضايا في "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" - احد اهم مراكز الابحاث في فرنسا - كتبت لپ"الوسط" هذا المقال الخاص عن تركيا والدور التركي: منذ اكثر من سبعين عاماً اعلنت تركيا انها قطعت صلتها بالماضي ودفنت عظمتها الغابرة، وتعهدت بأنها من الآن فصاعداً ستنتمي الى "القارة الاوروبية". وبعدما ادارت ظهرها لما كان يعرف بامبراطوريتها في الشرق وتخلّت عن حنينها الى القومية التركية ازاء الشعوب الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى وفي القوقاز، لعبت تركيا دور الشريك النموذجي في قلب التحالف الاطلسي، وقبلت بأن تعتبر الاتحاد السوفياتي عدوها الاول. وفي سياق الحرب الباردة من جهة، وقيام السوق الاوروبية المشتركة من جهة ثانية، كان يبدو للحكام الأتراك انه من الاجدى توجيه البلاد على الصعد السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والثقافية نحو وجهة واحدة: هي اوروبا الغربية. كانت المناطق الناطقة بالتركية على غرار المناطق البلقانية الواقعة تحت سلطة الاتحاد السوفياتي، تابعة للنظام الاشتراكي، وفي مقابل ذلك كان الشرق الاوسط يوفر بعض الفرص - نظرياً على الاقل - الا ان انقرة كانت تقيم العوائق امام الانفتاح على العالم العربي. ولم تكن تنظر الى الميراث التاريخي كثروة يجب استثمارها بل كعبء يجب التخلص منه للظهور بصورة جديدة تدعي الحداثة الغربية وتجعل الغرب ينسى انتماءها الاسلامي بغية اللحاق بأوروبا في مضمار العلمنة المشتركة. وكانت تنظر الى العالم العربي خلال فترة طويلة كمصدر لعدم الاستقرار وللنزاعات التي يخشى ان تترك انعكاسات خطيرة عليها. وجاءت تجربة حلف بغداد التي اجهضت في الخمسينات لتزيد من قناعة الحكام الاتراك "بسلبية" كل ما يأتي اليها من الشرق. وهكذا ظلت تركيا طوال عقود من الزمن تتجاهل محيطها المباشر باحثة عن تحالفات مع دول بعيدة كالولاياتالمتحدة وألمانيا الاتحادية. وكان مردود سياستها مجزياً على الصعيد الامني وعلى صعيد تطوير قوتها العسكرية ولكن هدفها الاسمى في الانضمام الى المجموعة الاوروبية تباعد في غضون السنوات الثلاث الاخيرة. وعندما تخلت بلدان اوروبا الشرقية عن الشيوعية فتح الغرب ذراعيه لاستقبال هذه البلدان وأظهرت المجموعة الاوروبية استعداداً لكي تدرس جدياً طلبات انضمامها الى السوق الاوروبية المشتركة باسم القيم والثقافة والدين المشترك. لكنها لم تفعل ذلك مع تركيا. ولقد وجدت تركيا نفسها مكبوتة، وهي التي تتطلع الى اللحاق بأوروبا لدوافع ايديولوجية وثقافية اكثر منها اقتصادية، كتكريس لنجاح الخيار الذي قام به مصطفى كمال اتاتورك. ويعتبر حالياً في الاوساط الاوروبية من يطالب بانضمام تركيا الى عضوية السوق الاوروبية المشتركة محرّ ضاً او ساذجاً في احسن الاحوال. ولا تستطيع السوق الاوروبية المشتركة ان تتذرع علناً بحجة الاسلام في رفضها قبول تركيا في عضويتها، ولذا تتذرع بنقص النمو الاقتصادي. والواقع ان انتماء تركيا الى الاسلام يؤثر على الموقف الاوروبي منها، كما ان احتمال قيام سوق اوروبية لها حدود مشتركة مع دول كسورية والعراقوايران - في حال قبولها تركيا عضواً فيها - يثير الخوف لدى العاملين في المجموعة الاوروبية. ومع ان تركيا بذلت كل ما في وسعها لكي تقدّم نفسها طوال الثمانينات كورقة رابحة في يد اوروبا كونها البلد الاسلامي الوحيد الذي يدافع عن العلمنة وسط مجموعة من البلدان المسلمة، فقد ذهبت جهودها هباءً.. حرب الخليج أبرزت دور تركيا امام هذا الباب الموصد الذي لا امل في ان ينفتح قريباً تجد تركيا نفسها محبطة، الا ان المتغيرات الدولية التي حصلت غيّرت الاحتمالات والتوقعات، فهي تصيب تركيا اكثر من اي بلد في العالم اذ وقعت هزات على امتداد حدودها قلبت جوارها رأساً على عقب. والمسألة الملحة حالياً هي كيف تنظر انقرة الى هذه الهزات: هل تنظر اليها على اساس انها فرص جديدة امامها لتلعب دورها بلا تحفظ كبلد يملك اكثر من محور وبالتالي يملك خيار توجهاته، ام تنظر اليها على اعتبار انها انهيار نظام ثابت كلياً ينذر بقيام مخاطر يتعذر حصرها وتعدادها؟ لدى خروجها من النظام الدولي الثنائي القطبين، لم تجد تركيا امامها متسعاً من الوقت لكي تتساءل عن دورها في النظام الجديد، فغزو العراقالكويت وحرب الخليج التي اعقبته كشفا اهمية تركيا الاستراتيجية، اولاً على الصعيد الاقتصادي كمعبر لامدادات النفط العراقي وبالتالي على الصعيدين العسكري والسياسي. فتركيا خلافا لاسرائيل، برزت كركيزة تستطيع الولاياتالمتحدة ان تعتمد عليها من دون ان تثير هيجاناً في الرأي العام العربي او لدى حكام المنطقة. ومع ذلك فان المشكلة الكردية التي اعقبت حرب الخليج اظهرت المخاطر التي تعرضت لها تركيا بعدما وجدت نفسها تواجه العصيان المسلح الكردي فوق اراضيها، اضافة الى ان قرار الرئيس التركي اوزال بفتح القواعد العسكرية امام الطائرات الاميركية سبّب ازمة داخلية ادت الى استقالة كبار المسؤولين العسكريين في البلاد. فالقرار اذن لم يتم من دون مخاطر وهي مخاطر لا تقيم لها القوى الاجنبية وزناً اغلب الاحيان. ان التغييرات السياسية في بلغاريا ورومانيا وألبانيا، وتفكك يوغوسلافيا وبروز مشاكل الاقليات، كل ذلك دفع الى واجهة المسرح الدولي مسألة البلقان الابدية التي تعتبر تركيا طرفاً اساسياً فيها. ومما لا شك فيه ان انهيار الاتحاد السوفياتي ادى الى انبعاث القوميات التي قمعت طويلاً، ولكنه في الوقت ذاته ترك بعض الكيانات المستقلة حديثاً تواجه مصيرها علماً انه ليس لهذه الكيانات اي تجربة في موضوع السياسة الدولية وهي تبحث عن مراكز استقطاب جديدة. والقوقاز وآسيا الوسطى مثلان نموذجيان لهذا التطور الذي يعتبر سلاحاً ذا حدين: ففي القوقاز حيث يتواجه الارمن والاذربيجانيون لا يخفي الجيش التركي والرأي العام في تركيا تعاطفهما العفوي مع الاذربيجانيين المسلمين الناطقين بالتركية ضد الارمن الذين ما زالت العلاقة معهم سلبية للغاية. ولئن كان هذا النزاع بين الجمهوريتين يفسح في المجال امام تركيا لكي يكون لها موطئ قدم في هذه المنطقة، فهو من جهة ثانية يحمل مخاطر شديدة. ولما كان تعاطف الاوروبيين هو على الارجح مع الارمن فمن السهل تصور المخاطر الناجمة عن تصوير النزاع على انه مواجهة بين الاسلام والمسيحية، ولذا تبدي حكومة انقرة اكبر قدر ممكن من الحذر في هذا الصدد. صراع النفوذ مع ايران وفي آسيا الوسطى حيث غالبية السكان تنطق بالتركية، يشير جميع المراقبين الى التنافس على النفوذ بين تركياوايران. فطهران تظهر ديناميكية مقلقة في هذه المنطقة بعقدها اتفاقات مقايضة مع مختلف الجمهوريات محاولة اجتذابها الى خطها الاسلامي المعادي للغرب، اما تركيا فتقدم الى هذه الجمهوريات نموذجاً ناجحاً عن بلد اسلامي ديموقراطي بتوجهات غربية، ويبدو ان لذلك تأثيراً على حكام الجمهوريات الاسلامية يفوق تأثير النموذج الايراني. ومع ذلك فان احتمالات تحقيق منافع ملموسة هي احتمالات ضئيلة، لأنه اذا كان مشروع التعاون بين شعوب البحر الاسود يقدم الاطار المناسب لاجتذاب الجمهوريات الاسلامية الى احضان تركيا، فهو على الصعيد الاقتصادي ليس مجدياً لأن معظم الشركاء الجدد غير قادرين على تمويل مشترياتهم من البضائع والخدمات التركية. في منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز اللتين تخضعان لضغوط شديدة من اوروبا وعلى الاخص من الولاياتالمتحدة لتقفا سداً في وجه النفوذ الايراني، تكمن الصعوبة التي تواجه تركيا هنا كما في منطقة الشرق الاوسط، في تحديد سياستها تبعا لمصالحها الخاصة. فهذه الفرص الجديدة تضاعف المحاور الممكنة التي تتيح لتركيا ان تنمي روابطها الاقتصادية وان تطور نفوذها كقوة اقليمية من نوع خاص قادرة على ان تلعب دورا في اربع مناطق هي الشرق الاوسط وآسيا الوسطى والقوقاز والبلقان. ولكي تتحول هذه الفرص اوراقاً رابحة اكيدة ينبغي لتركيا ان تتعلم كيف تتدبرها ببراعة وان تتجاوز في سبيل ذلك مجموعة من المصاعب والعقبات. العقبة الاولى هي في تغيير نظرة شركائها الاوروبيين اليها، اذ ان هؤلاء يتعاملون مع تركيا على اساس انها "مجرد اداة مفيدة لخدمة مصالح الآخرين". وتجاوز هذه العقبة له اهميته، اذ ان الموقف الذي اعتمدته تركيا كحليف مخلص لأوروبا والغرب، طوال عقود من الزمان، لم يعط النتائج المرجوة منه في المجال الذي يهمها اكثر من اي مجال آخر، وهو: انضمامها الى السوق الاوروبية المشتركة. ولا بد من الاشارة هنا الى ان الرفض الاوروبي لانضمام تركيا الى السوق المشتركة ستكون له انعكاسات سلبية على الرأي العام الداخلي وجزء من النخبة في البلاد. العقبة الثانية هي ان التحليل الجغرافي - السياسي الذي يقود الى القول ان تركيا تملك اوراقاً رابحة، لا يأخذ في الاعتبار عقلية الذين يضعون السياسة الخارجية في هذا البلد وكفاءاتهم الحقيقية. فالنخبة السياسية في تركيا حالياً تربّت على الانبهار لكل ما هو غربي وعلى انكار الماضي. والعودة الى سياسة ترتكز على النزعات الاسلامية التركية من دون ان تنفض الرماد عن احلام القومية التركية وعن الحنين الى الامبراطورية العثمانية، تقتضي فترة من التكيف. وهذا التكيف يجب ان يصحبه نموذج جديد لهذه النخبة. والمشكلة الحقيقية التي تصطدم بها الحكومة التركية اليوم تكمن في افتقار النخبة الى الخبرة في معالجتها لمشاكل المناطق المختلفة حيث تجد تركيا نفسها مدعوة الى لعب دور جديد فيها، ولذا من الحيوي لأنقرة ان تكون قادرة على التحكم بالتزامها في هذه المنطقة او تلك، وعلى قيادة اللعبة بنفسها. ويخشى في حال تخليها عن هذا الدور ان تتحول ورقة للرهان بدل ان تكون لاعباً اساسياً. وعندما يأتي الحديث عن دور تركيا الجديد يجب ان تؤخذ هذه المخاوف مليّاً في الاعتبار. * خبيرة بارزة في شؤون الشرق الاوسط