قد يكون مهرجان لندن السينمائي الدولي السنوي ليس مشهوراً عالمياً كمهرجانات "الاوسكار" و"كان" و"البندقية" و"دوفيل" السينمائية، على الرغم من انطلاقته المبكرة التي تعود الى 36 عاماً مضت 1956، اذ ان نظمه تختلف عن كل المهرجانات السينمائية الاخرى وليس فيه جوائز تقديرية كما هي العادة في المناسبات المشابهة. لكنه بالنسبة لاهل الفن السابع يعتبر موعداً هاماً يعرضون فيه ابداعاتهم للتسويق الثقافي. "الوسط" حضرت مهرجان هذا العام الذي يحمل الرقم 36 والذي جرى بين 6 و22 تشرين الثاني نوفمبر الماضي وعادت منه بالتحقيق الآتي: بعد عرض فيلم "الراكض على النصل" للمخرج البريطاني ريدلي سكوت، تكون الدورة السادسة والثلاثون لمهرجان لندن السينمائي الدولي 6/22 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، اسدلت الستار عملياً على فعالياتها. ويعتبر هذا المهرجان الذي يقام سنوياً تحت اشراف معهد الفيلم الوطني البريطاني واحداً من اخريات تضع الفيلم والجهد السينمائي في مقدمة همها الثقافي، فهو مهرجان من دون جوائز اونجوم، او صفقات تجارية، ان التنسيق هذا جعل من منظميه في موقع يتطلب الاستشراف، سواء على الانتاج السينمائي العالمي الجديد، او الاسماء الابداعية التي تدخل من باب الفرادة والتجديد لعالم الفن السابع. عقدت الدورة الاولى لهذا المهرجان في العام 1956 بالتعاون بين معهد الفيلم الوطني البريطاني وجريدة "التايمز" اللندنية، وعرضت خلالها خمسة عشر فيلماً لابرز السينمائيين العالميين من امثال، كيروساوا، فيلليني، اندريه فايدا، وساتياجيت راي 1921 - 1992 الذي خصصت له هذه الدورة تحيتها، حيث اقيم على هامش المهرجان معرض للصور الفوتوغرافية في "مركز نهرو" تغطي حياة "شاعر السينما" على مدى ربع قرن، انجزها مصورون فوتوغرافيون بارزون من امثال الفرنسي هنري كارتييه برونسون. جاء البيان الرسمي للدورة الاولى محدداً وراسماً معالم للصورة التي سيكون عليها مستقبلاً، فهو مهرجان يحتفي بالسينما وبالخطاب السينمائي العالمي، بغض النظر عن اتجاهاته الفكرية والايديولوجية، فتحديد قيمة وأهمية الفيلم تقع اولاً وأخيراً على عاتق ذلك المشاهد الجالس في عتمة الصالات. ففي الدورات اللاحقة ومع تغيير المشرفين على المهرجان، بدا هاجس العالمية يطرح على تنظيمه، وهذا ما شهدته دورات الستينات التي استضافت اسماء سينمائية جديدة من البلدان الاشتراكية سابقاً وبلدان آسيا واليابان، اضافة الى انتاج سينمائيي الموجة الجديدة في فرنساوايطاليا، امثال غودار، شابرول، رومير، برتولوتشي، بازوليني وانطونيوني. وتحديداً في العام 1980 بدأ المهرجان في فصل جديد باستكمال عالميته. فحضرت افلام من افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية. لكن تعب السنوات وشحة المصادر المالية الممولة لفعالياته بدأت تظهر على "مهرجان المهرجانات" نتيجة الازمة الاقتصادية التي تعيشها بريطانيا وضعف الدعم المادي لمثل هذه النشاطات، جعل المشرفين عليه امام وضع صعب لادامة واستمرارية هذه التظاهرة الفنية التي عادت معلماً من حياة هذه المدينة الجبارة. اختلفت هذه الدورة عن سابقاتها قليلاً، اذ خصصت احدى الشركات الداعمة لنشاطات المهرجان جائزة نقدية قدرها 10 آلاف جنيه استرليني لاحسن فيلم بريطاني يرشحه الجمهور من اجل الاسهام في الدعاية والتسويق، وكانت من حصة فيلم "سطح رقيق، وكتف قوي" للمخرج ستيفان شوارتز وهو كوميديا طريفة تدور حول محنة كيفن في طريق خارجي مقطوع وحاجته للوصول الى حفلة عيد ميلاد جدة في غلاسكو الشمالية. وعرض في هذه الدورة اكثر من 250 فيلماً روائياً طويلاً وقصيراً وافلام فيديو من 48 دولة، توزعت على 12 قسماً، احتلت السينما البريطانية والاميركية مركز الصدارة فيها. وتوزعت على افلام الساحة 36 فيلماً، متخذة من "ليستر سكوير" في قلب العاصمة البريطانية مسرحاً لعروض هذه القسم، ويذكر ان جريدة "ايفننغ ستاندر" اللندنية هي الجهة الداعمة لها، وعادة تكون هذه الافلام من الانتاج الحديث وذات الاقبال الشعبي. السينما البريطانية كان نصيبها 52 فيلماً، والاميركية التجارية 35 فيلماً، والسينما الاميركية المستقلة 18 فيلماً وهي منتجة خارج هوليوود، اما بانوراما فرنسا فاحتوت على 20 فيلماً، وبانوراما ايطاليا على 11 فيلماً. سينما القارات الثلاث جاءت مساهمة آسيا في قسم سينما القارات الثلاث في المقدمة ب 23 فيلماً وافريقيا ب 11 فيلما واميركا اللاتينية ب 8 افلام. اضافة الى اقسام مخصصة لافلام الفيديو، وافلام الصور المتحركة، وافلام الاطفال، والافلام المرممة ضمن الاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس ارشيف معهد الفيلم البريطاني وعمله في تجديد قديم تراث السينما العالمية وقسم الاطار الدولي الذي اكتسحه انتاج السينما الانكلوسكسونية. بينما المحاضرات فاحتوت لقاء مع المخرج الالماني ادغار رايتز وشريطه الملحمة "الوطن الثاني" 26 ساعة، ولقاء مع المخرج الاميركي الن رودولف الذي صاحب فيلمه "التعادل" ومقابلات مع الممثل نيكولاس كيج والممثلة الفرنسية ايزابيل هوبير التي ادت دور البطولة في فيلم "بعد الحب" للمخرج اريك رومير. استهل المهرجان اعماله بفيلم "أصدقاء بيتر" للمخرج والممثل الشاب كينيث براناه، بعدما قدم من قبل "هنري الخامس" 1989، و"يموت ثانية" 1991. يدور فيلم براناه حول دعوة بيتر لاصدقائه للاحتفال بعيد رأس السنة سوية، بعد انقطاع طويل، ليخبرهم في نهاية الفيلم باصابته بمرض الايدز. بعدها انسالت العروض وسنتوقف عند اهمها. من الصين يأتي فيلم "حكاية كيوجو" للمخرج تسانج ييمو الحائز على جائزة الاسد الذهبي في مهرجان البندقية لهذا العام. يتابع الشريط كيوجو المرأة الحامل ومطالبتها المستميتة من السلطات لاخذ حيفها من رئيس القرية جراء اعتدائه على زوجها. فكل ما كانت تبغيه هو تقديم اعتذار علني، لذا تقرر نقل قضيتها من القرية الى المدينة ثم الى المقاطعة والمحكمة العليا. عندها تستجيب السلطات وتعتقل رئيس القرية بعد الزامه بدفع اضرار ما سببه. تمكن ييمو من تقديم شريط متكامل في ثرائه البصري وقوة موضوعه. وسبق لييمو وان قدم "ارفعوا القناديل الحمراء" 1991 وحاز على جائزة الاسد الفضي للعام الماضي. اما فيلم "عن الفئران والرجال" للمخرج والممثل الاميركي غاري سينيز الذي تقاسم فيه دور البطولة مع جون مالكوفيتش، فيعود بنا الى اميركا الثلاثينات والازمة الاقتصادية المخيمة عليها، عبر اقتباس عن رواية لمواطنه جون ستاينبك بالاسم نفسه كتبت عام 1937 وسبق لسينيز ان قدم هذا العمل للمسرح عام 1980 واداها ايضاً مع مالكوفيتش. يدور الفيلم حول مصائر الناس العاديين الذين يعيشون على تخوم مجتمع مثل المجتمع الاميركي. ليني جون مالكوفيتش مختل عقلياً ولا يتمكن من السيطرة على افعاله ويعتمد بشكل اساسي على صديقه جورج غاري سينيز الذي يرعاه ويبعده عن الاحتكاك بالآخرين. ينتهي بهما المطاف في مزرعة يجدان فيها برهة استراحة وتأمل، لكن منغصات ابن صاحب المزرعة وزوجته اللذين لا يكفان عن مشاكساتهما تدفع بالقصة الى نهايتها المأسوية. تمكن سينيز من استيعاب النص الاصلي وساعده بذلك الاداء المتميز لجون مالكوفيتش، اضافة الى كاتب السيناريو هرتون فوت. وجاء الفيلم الالماني "شتونك" للمخرج هلموت ديتل ليتخذ من فضيحة نشر مذكرات هتلر المزيفة في احدى المطبوعات الالمانية المهمة مادته. ليصل الى كيفية نظر الالمان لماضيهم القريب وكم يحمل من زيف وهراء. بينما يلتقط شريط "ساروفينا" للمخرج داريل جيمس رودت من جنوب افريقيا موضوعه من احداث سويتو 1967. والتي راح ضحيتها آلاف الطلبة. وساروفينا هي مسرحية غنائية راقصة قدمت من قبل على خشبة المسرح. شريط رودت حفل بغنائية وموسيقى جميلة شدتا اليه ابصار المشاهدين. الحضور الايراني ساهمت ايران في هذه التظاهرة بفيلمين متميزين، الاول "كان يا مكان سينما" للمخرج محسن مخملباف، والآخر "نرجس" للمخرجة رخشان بني اعتماد. اما في السينما الافريقية فجاءت مشاركة السنغال 4 افلام في الطليعة، بفيلم "الضباع" للمخرج جبريل ديوب ممبيتي، والمأخوذ عن مسرحية "زيارة السيدة العجوز" للكاتب السويسري فريدريك دورنيمات، ويعتبر هذا اول اقتباس من عمل اوروبي تدور احداث الفيلم حول شخصية امرأة ثرية تعود الى قريتها قصد الانتقام من حبيبها بعد فراق قارب ثلاثين عاماً. لتقف متفرجة على عملية القتل الكاذبة لتي لفقها ابناء قريتها. استطاع ممبيتي عبر شريطه من اسقاط اللثام للقيم المغلفة لحياة المجتمع السنغالي وزيفها. في حين قدم المخرج الارجنتيني اليسو سبيلا فيلماً سوريالياً بعنوان "الجانب المظلم من القلب" عن شاعر بوهيمي شاب يبحث عن امرأة مثالية، فيجد ضالته في بائعة هوى تقلب حياته كلياً بعد ان يجسد فيها مثاله. اما المخرج الهنغاري ستيفان زابو فيرصد اللحظات الحرجة من الانعطافة السياسية التي تعيشها هنغاريا بعد انهيار النظام الاشتراكي وما تتركه من التباسات في تلمس خطوط المستقبل على الصعيد السياسي والاقتصادي والنفسي عبر فيلم "ايما الحلوة، العزيزة بوبي". وزابو صاحب "مفيستو" 1981 و"الكولونيل رايدل" 1984 و"لقاء فينوس" 1990. السينما العربية وتحضر السينما العربية بفيلمين اولهما فيلم "بزناس" للتونسي النوري بوزيد عن تأثيرات السياحة في المجتمع التونسي، والثاني فيلم "احلام في فراغ" للمخرج الفلسطيني عمر قطان. ومن ايطاليا يأتي فيلم "جوني ستكينو" للمخرج والممثل الكوميدي المشهور روبيرتو بنيني، وهو من الافلام التي لاقت حضوراً كثيفاً في هذه الدورة. حيث يلعب بنيني دور سائق باص لطلبة معوقين. خجول في طبعه، تلتقطه ماريا نيكوليتا براشي لتشابه اوصافه مع صديقها الذي ينتمي الى احدى المافيات والمطلوب من زمرته. يدخل بنيني هذا العالم بسذاجته وعفويته، كاشفاً رموزاً كبيرة تنتمي الى هذا العالم. فيلم بنيني تهكم مرح على جهاز يعتبر دولة داخل دولة. ومن فرنسا عرض فيلم اي. بي. 5 IP5 للمخرج جان جاك بينبه، وآخر افلام المغني والممثل الراحل ايف مونتان والذي وافته المنية قبل اتمام الفيلم. واعتبر عرض الفيلم كجزء من تحية اخيرة لمونتان ولحياته الفنية. في حين قدمت اسبانيا 7 افلام اهمها فيلما "الجنوب" والمأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الارجنتيني بورخيس و"الاشبيليون" عن حياة مدينة اشبيلية، وللمخرج الكبير كارلوس ساورا، ويحضر مواطنه فيكتور اريك بفيلم "شمس شجرة السفرجل" 139 دقيقة عن حياة فنان يتأمل شجرة السفرجل من اجل رسمها على مدى سبع سنوات. القارة الهندية شاركت بثلاثة افلام منها فيلم "الابلة" للمخرج ماني كول عن رواية الكاتب الروسي دوستويفسكي، وفيلم "مدينة الاحلام" للمخرج سايدر ميشرا. وهو فيلمه الثالث. يرصد فيه ميشرا خيبات الذين يدخلون هذه المدينة الخرافية وتهاوي احلامهم. اما فيلم المفاجأة فقد عمدت الهيئة المنظمة الى ابقائه سراً لحين عرضه لاضفاء صبغة تشويقية فكان "الموت يليق بها" للمخرج الاميركي روبرت زيميكيس، الذي عرف بافلام "الرجوع الى المستقبل" 1985 و"من ورّط روجر رابت" 1988. وكان مجموع البطاقات المبيعة على مدى 18 يوماً من هذه الدورة 75.489 ألفاً والتي توزعت على 10 صالات اي بزيادة مقدارها 4.7 في المئة عن السنة الماضية. اما نسبة ارباحها فكانت اكثر ب 25.8 في المئة عن العام الماضي.