عملية السلام لتسوية النزاع العربي - الاسرائيلي اكثر اهمية من قضية ابعاد 415 فلسطينياً من الضفة الغربيةوغزة، ولو كان الحجم المأساوي والظالم لهذا الاجراء الاسرائيلي كبيراً، ولو كانت المخالفة للقوانين الدولية فاضحة. هكذا يمكن اختصار حقيقة مواقف مختلف الاطراف، سواء المعنية بالنزاع العربي - الاسرائيلي او الدولية، على قرار حكومة اسحق رابين ابعاد 415 فلسطينياً من الضفة الغربيةوغزة، ينتمون الى حماس والجهاد الاسلامي، الى لبنان يوم 17 كانون الاول ديسمبر الجاري، رداً على قيام عناصر من حماس بخطف ثم قتل الرقيب الاسرائيلي نسيم توليدانو بعدما رفض الاسرائيليون الافراج عن الشيخ احمد ياسين زعيم "حركة المقاومة الاسلامية". بل يمكن القول ان ردود فعل الاطراف العربية، المعنية بشكل او آخر بالنزاع، والفلسطينية - ما عدا تلك الصادرة عن حماس والقوى الاسلامية المتضامنة معها في الاراضي المحتلة - وكذلك ردود فعل الجهات الدولية المختلفة، والتي اتفقت على ادانة قرار الابعاد وطالبت الحكومة الاسرائيلية بالتراجع عنه... ردود الفعل هذه تهدف، في الواقع، الى "حماية" عملية السلام وانقاذها لا الى نسفها. ويمكن التوقف في هذا النطاق عند الامور الآتية: 1 - صحيح ان الولاياتالمتحدة، بلسان رئيسها الحالي بوش ورئيسها المنتخب بيل كلينتون، استنكرت قرار الابعاد وطالبت الحكومة الاسرائيلية بالتراجع عنه، وصحيح ان المجموعة الاوروبية ودول العالم والامم المتحدة بلسان امينها العام بطرس غالي استنكرت او ادانت القرار الاسرائيلي وطالبت بالتراجع عنه، وصحيح ان مجلس الامن الدولي اصدر بالاجماع قراراً بهذا المعنى، الا ان الملاحظ ان اية دولة او جهة لم تتخذ اي اجراء ملموس ضد اسرائيل، كما ان مجلس الامن لم يفرض عقوبات دولية على اسرائيل، بل حتى انه لم يلوح بها. فقرار مجلس الامن الرقم 799 الذي تم تبنيه بالاجماع يوم 19 كانون الاول ديسمبر الجاري "أدان بقوة" الاجراء الذي اتخذته اسرائيل واعرب عن "معارضته الثابتة" لأي ابعاد من هذا القبيل تقوم به اسرائيل، واعاد "تأكيد انطباق اتفاقية جنيف الرابعة المؤرخة 12 آب اغسطس 1949 على جميع الاراضي الفلسطينية التي تحتلها اسرائيل منذ عام 1967 بما فيها القدس. واكد ان ابعاد المدنيين يشكل خرقاً لالتزاماتها بموجب الاتفاقية" و"اعاد ايضاً تأكيد استقلال لبنان وسيادته وسلامة اراضيه" وطالب "اسرائيل الدولة القائمة بالاحتلال بان تكفل عودة جميع المبعدين المأمونة والفورية الى الاراضي المحتلة" وطلب "الى الامين العام ان ينظر في ايفاد ممثل الى المنطقة لكل يتابع مع الحكومة الاسرائيلية ما يتعلق بهذه الحالة الخطيرة وان يقدم تقريراً عن ذلك الى مجلس الامن" وقرر "ابقاء المسألة قيد الاستعراض النشط". النص الاساسي لمشروع القرار هذا كان يدعو مجلس الامن الى ايفاد "بعثة خاصة" عن المجلس الى اسرائيل لاقناع حكومة رابين "بتطبيق" هذا القرار واعادة المبعدين الى الضفة وغزة. لكن تم تعديل هذا النص والاكتفاء بمطالبة الامين العام للامم المتحدة بايفاد "ممثل" عنه الى المنطقة ليتابع المسألة مع حكومة رابين وايفاد ممثل عن الامين العام "اقل اهمية" من ايفاد بعثة عن مجلس الامن. 2 - لم يعتبر المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولاياتالمتحدة والدول الاوروبية وروسيا، ان ابعاد هؤلاء الفلسطينيين يشكل "مخالفة" لاسس وشروط عملية السلام ويعني ان اسرائيل "انسحبت" فعلياً من عملية السلام او تخلت عنها. فقد اعتبر المجتمع الدولي، ضمنياً وفعلياً، ان ابعاد هؤلاء الفلسطينيين ادى الى بروز "مشكلة جديدة" تضاف الى "المشاكل الاخرى" التي يعالجها العرب والاسرائيليون في مفاوضاتهم. وعلى هذا الاساس اصرت الولاياتالمتحدة على ضرورة حذف عبارة كانت واردة في النص الاول لمشروع قرار مجلس الامن، وتتحدث عن "التأثير السلبي" لقرار الابعاد على عملية السلام. لقد ارادت الولاياتالمتحدة، ومعها الدول الاخرى، الفصل والتمييز بين مشكلة الابعاد وبين عملية السلام التي ينبغي عدم المس بها. ومن هذا المنطلق اعتبر ادوارد دجرجيان مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط، في تصريحات له بعد 24 ساعة من ابعاد الفلسطينيين، ان مفاوضات السلام "تجذرت" في المنطقة وان "كل الاطراف بدأت تعالج المسائل الاساسية الثلاث المهمة وهي السلام والامن والاراضي، وان المفاوضات الثنائية والمتعددة اظهرت ان في امكانها حل المشاكل كما انها تمكنت من الصمود في وجه تهديدات المتطرفين من اي مصدر". واعرب عن امله في ان يكون 1993 عام تحقيق "انجازات حقيقية". 3 - الاطراف العربية المعنية مباشرة بالنزاع مع اسرائيل احتجت على قرار الابعاد وادانته وطالبت الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي بالضغط على حكومة رابين للتراجع عنه، لكن لم يعلن اي طرف من هذه الاطراف قرار انسحاب بلاده من عملية السلام والامتناع عن المشاركة في الجولة المقبلة من المفاوضات بعد تسلم الرئيس المنتخب كلينتون مهامه الرسمية في 20 كانون الثاني يناير المقبل. بل على العكس صرحت هذه الاطراف على ابلاغ المسؤولين الاميركيين وكذلك بعض الدول الاوروبية انها "تحتج على قرار الابعاد وتدينه لكنها ستبقى في عملية السلام" اما بالنسبة الى موقف القيادة الفلسطينية، سواء المعلن منه او الذي تم ابلاغه الى جهات عربية ودولية، فيمكن تلخيصه في الآتي: القيادة الفلسطينية تربط مشاركة وفدها في مفاوضات السلام باعادة المبعدين الى ارضهم وهي تطالب بتأمين حماية دولية، بشكل او آخر، لمواطني الضفة الغربيةوغزة، وتدعو الى تصعيد الانتفاضة والتنسيق بين مختلف التنظيمات الفلسطينية في الاراضي المحتلة لتحقيق ذلك، ويشمل التنسيق قيادة منظمة التحرير وحماس. كما ان القيادة الفلسطينية ايدت موقف الحكومة اللبنانية الرافض استقبال المبعدين على اساس ان ذلك يشكل عامل ضغط على حكومة رابين. لكن هذا الموقف لا يعني ان القيادة الفلسطينية ستنسحب، فعلاً، من عملية السلام، لكنها في هذه المرحلة، وازاء هذا الاجراء الاسرائيلي اللاانساني والاستثنائي، لا تستطيع الا اتخاذ موقف متشدد. ومن الآن الى حين استئناف المفاوضات السلمية في شباط فبراير المقبل يمكن ان تحدث امور وتطورات عدة على صعيد هذه القضية وعلى صعيد الموقف الفلسطيني منها. كي "لا تفلت" المنطقة عملية ابعاد 415 فلسطينياً من الضفة وغزة الى لبنان هي اكبر عملية من نوعها منذ احتلال هذه الاراضي في عام 1967. فقد ابعد الاسرائيليون عن الضفة وغزة منذ احتلال هذه الاراضي 1156 مواطناً بينهم 66 منذ بدء الانتفاضة عام 1987. لكن برغم حجم عملية الابعاد الجديدة هذه، وطابعها المأساوي، الا انها لن تؤدي الى نسف عملية السلام. لماذا؟ نتوقف عند العوامل والاعتبارات الآتية: الاطراف العربية والفلسطينية المعنية، بشكل او آخر، بالنزاع مع اسرائيل، تتمسك بعملية السلام وتريد البقاء فيها ولا احد منها مستعد لتحمل مسؤولية الخروج منها او نسفها. فعملية السلام اصبحت، بالنسبة الى بعض الدول العربية، اساساً لاقامة علاقات افضل مع الولاياتالمتحدة والدول الاوروبية ودول اخرى مهمة في العالم، كما انها تشكل "جسراً" الى تطوير العلاقات مع هذه الدول. وتشكل عملية السلام بالنسبة الى الفلسطينيين الملتزمين بها نوعاً من الحماية الدولية، والطريق الواقعي الوحيد المتاح في الظروف الاقليمية والدولية الراهنة للتخلص، تدريجياً، من الاحتلال الاسرائيلي وتأمين بعض الحقوق والمطالب. وبرغم ان عملية السلام لا تسير بالشكل الذي يتمناه العرب والفلسطينيون، الا ان العرب والفلسطينيين يدركون تماماً ان "لا خيار آخر" لديهم، وانهم لا يملكون بديلاً عن هذه العملية: فالحرب ليست بديلاً ولم تعد متاحة بسهولة بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية وتحول اميركا الى القوة العظمى الوحيدة في العالم، والخروج من هذه العملية سيؤدي، بالنسبة الى الفلسطينيين، الى تركهم يواجهون وحدهم الاحتلال الاسرائيلي، وبالنسبة الى بعض الدول العربية الى برود او توتر في العلاقات مع بعض الدول الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة. ويرى المسؤولون الفلسطينيون ان "لا بديل عن المفاوضات سوى المفاوضات" وان "عملية السلام هي الصيغة الوحيدة لمعالجة مشكلة الاحتلال الاسرائيلي". المجتمع الدولي، ككل، يعتبر ان عملية السلام هي "الصيغة الشرعية الوحيدة المقبولة دولياً" للتعاطي مع ملف النزاع العربي - الاسرائيلي ومعالجته. فمن يلتزم بها يلقى الدعم او التفهم الدوليين، ومن يخرج عنها يواجه الاهمال او اللوم. ومما سهل صدور قرار مجلس الامن الذي "يدين بقوة" قرار الابعاد الاسرائيلي، بالاجماع وبسرعة ان كل الاطراف العربية والفلسطينية المعنية بالنزاع لا تزال متمسكة بعملية السلام. يعتبر المسؤولون الاميركيون ان وجود حكومة برئاسة اسحق رابين يشكل "الامل الوحيد" لقيام مفاوضات سلام عربية - اسرائيلية. ويرى المسؤولون الاميركيون ان البديل عن رابين ليس شخصاً آخر من حزب العمل يترأس الحكومة، بل ان البديل سيكون عودة تكتل الليكود الى الحكم مما يعني انهيار مفاوضات السلام ودخول منطقة الشرق الاوسط مرحلة "الانفلات"، مما يتيح "للقوى المتشددة او المتطرفة" التحرك - بدعم خارجي - ضد هذه الدولة او تلك لزعزعة الاستقرار فيها او العمل على اسقاط نظامها. وتشكل عملية السلام - على عيوبها وبطئها - بالنسبة الى الولاياتالمتحدة افضل صيغة لحماية الشرق الاوسط من "الانفلات" او من دخول مرحلة من الاضطرابات وعدم الاستقرار. ويتفق كلينتون في الرأي مع بوش حول هذه المسألة. ولذلك تتمسك الولاياتالمتحدة برابين، وتسعى الى حمايته، كما تتمسك في الوقت نفسه بعملية السلام. وقد اظهر استفتاء للرأي العام نشرته احدى الصحف الاسرائيلية ان 91 في المئة من الاسرائيليين ايدوا قرار رابين ابعاد الفلسطينيين الى لبنان. على هذا الاساس فالتعامل الحقيقي مع هذه القضية يقوم على اعتبار عملية السلام "أكبر وأهم" من عملية الابعاد، ولو كان ابعاد الفلسطينيين عملاً وحشياً وظالماً ومخالفاً للقوانين الدولية. وكما قال ديبلوماسي اميركي مهتم مباشرة بهذا الملف: "ان وجود اراض عربية محتلة ولاجئين فلسطينيين وحقوق ومطالب عربية عدة لم يمنع العرب والفلسطينيين من التفاوض مع الاسرائيليين. ومن هذا المنطلق فان ملف ابعاد الفلسطينيين الى لبنان سيضاف الى الملفات الاخرى التي يجري التفاوض عليها مع الاسرائيليين". أهداف رابين اية اهداف يسعى اسحق رابين الى تحقيقها من وراء ابعاد الفلسطينيين؟ هل يريد نسف عملية السلام ام يسعى الى اهداف اخرى؟ قبل كل شيء لا بد من القول ان رابين تحرك "بثقة" حين اتخذ قرار ابعاد مئات الفلسطينيين الى لبنان: فهو يعلم تماماً، اولاً، ان المجتمع الدولي لم يفرض اية عقوبات على اسرائيل برغم كل الجرائم والاجراءات المختلفة التي اتخذتها ضد فلسطينيي الضفة وغزة منذ 1967 الى اليوم، ويدرك تماماً ان الابعاد - ولو كان مخالفاً للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين تحت الاحتلال - لن يؤدي الى فرض عقوبات على اسرائيل. ورابين يعلم تماماً، ثانياً، ان كل الاطراف متمسكة باستمرار عملية السلام وان المجتمع الدولي حريص على ذلك، ويعلم تماماً، ثالثاً، ان علاقات اسرائيل تحسنت كثيراً مع الولاياتالمتحدة ودول العالم منذ سقوط الليكود في الانتخابات وتأليفه الحكومة الاسرائيلية في تموز يوليو الماضي. ورابين يدرك، رابعاً، ان قرار ابعاد مئات الفلسطينيين سيعزز من وضعه الداخلي ويزيد من شعبيته. على هذا الاساس تحرك رابين بثقة. اضافة الى ذلك، حرص رابين على التركيز على ان ابعاد الفلسطينيين، يهدف الى "حماية" عملية السلام، لأن هؤلاء ينتمون الى حماس والجهاد الاسلامي المعارضتين لمفاوضات السلام والمدعومتين من ايران وجهات اخرى تريد تقويض مفاوضات السلام. وقامت الحكومة الاسرائيلية بابلاغ حكومات اجنبية عدة ان ابعاد الفلسطينيين هو "أهون الشرور" وهو افضل من "اعدام الفلسطينيين او تصعيد المواجهة المسلحة معهم او تدمير منازلهم". وحرص عدد من المسؤولين الاسرائيليين على التمييز بين "الفلسطينيين الرافضين عملية السلام والفلسطينيين الملتزمين بها"، بينما كانت حكومة شامير والحكومات السابقة تعتبر جميع الفلسطينيين مسؤولين عن اي عمل يقوم به احدهم. ويمكن القول، انطلاقاً من ذلك، ان الاهداف الرئيسية التي يسعى رابين الى تحقيقها من خلال ابعاد هؤلاء الفلسطينيين هي الآتية: 1 - تسديد اقسى واكبر ضربة ضد حماس والجهاد الاسلامي وقواعدهما في الضفة الغربيةوغزة. فالمبعدون يشكلون "النخبة القيادية" والكوادر العليا لحماس اذ بينهم 20 طبيباً و30 استاذاً جامعياً وخمسة مهندسين وعشرات من الطلاب والمعلمين وعدد من التجار والمحامين ورجال دين ورئيس جامعة غزة. وضمن المبعدين اعضاء "حكومة حماس" على حد قول المصادر الاسرائيلية و14 عضواً في حركة "الجهاد الاسلامي". ووفقاً لهذه المصادر فان "حكومة حماس" تضم 15 فلسطينياً من الضفة وغزة هم 4 اطباء ومهندسان واستاذان جامعيان وخمسة معلمين وصحافي وصيدلي. وقد تم ابعاد 14 منهم وعلى رأسهم ابرز قياديين في حماس وهما الطبيبان الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي ومحمود الزهار. ويبدو من تصريحات المسؤولين الاسرائيليين ومما تنشره الصحف الاسرائيلية ان حكومة رابين تدرس ابعاد فلسطينيين آخرين واتخاذ اجراءات مشددة اخرى ضد حماس والجهاد الاسلامي، منها منع وصول الاموال والتبرعات الى الحركتين واغلاق عدد من المؤسسات التابعة لهما والتضييق على نشاطات اعضائهما او المتعاطفين معهما بوسائل عدة. 2 - يسعى رابين الى اضعاف الموقف الفلسطيني التفاوضي وايجاد بلبلة شديدة في صفوفهم عن طريق وضعهم امام خيارين صعبين: اما الانسحاب من مفاوضات السلام او مواجهة اندلاع حرب فلسطينية - فلسطينية في الضفة الغربيةوغزة. فالانسحاب من مفاوضات السلام سيؤدي الى اضعاف الفلسطينيين دولياً وسيزيد من مصاعبهم في الاراضي المحتلة، اما البقاء ضمن عملية السلام بعد قرار الابعاد فيمكن ان يزيد من حدة الصراع والتأزم بين حماس والقوى المتعاطفة معها من جهة والقيادات الفلسطينية المتفاوضة مع اسرائيل من جهة ثانية. 3 - التعامل بهذا الشكل مع الفلسطينيين يدعم موقف رابين في الساحة الاسرائيلية، خصوصاً في مواجهة خصومه من الليكود، ويمكن ان يفتح الباب امام حدوث "تطورات" على صعيد المفاوضات السورية - الاسرائيلية او الاردنية - الاسرائيلية خلال 1993. فالتشدد بهذا الشكل مع الفلسطينيين يمكنه ان يدفع رابين الى اظهار "مرونة اكبر" مع سورية والاردن لدى استئناف مفاوضات السلام في ظل ادارة كلينتون. من هذا المنطلق فان رابين لا يريد نسف عملية السلام بل يريدها ان تستمر بالشكل الذي يؤمن مصالح اسرائيل ويحقق لها مكاسب على الصعيد الدولي. عملية السلام فوق رؤوسهم قرار رابين أدى الى ظهور نوع جديد من الفلسطينيين: فالفلسطينيون الذين نقلوا في باصات من الضفة وغزة الى لبنان ليسوا لاجئين - بالمعنى الرسمي - ولا سجناء ولا احراراً، بل وجدوا انفسهم في منطقة عازلة بين الحزام الامني الذي تسيطر عليه قوات انطوان لحد المدعوم من اسرائيل وبين المناطق التي تسيطر عليها السلطات اللبنانية. وهؤلاء المبعدون لا يستطيعون العودة الى ارضهم ولا التقدم الى الامام، لأن الحكومة اللبنانية قررت، لاسباب سياسية، عدم استقبالهم، على اساس ان بقاءهم في المنطقة العازلة يشكل عنصر ضغط على اسرائيل. وهكذا وجد الفلسطينيون المبعدون انفسهم عالقين في منطقة عازلة وكأنهم بين قوسين. وتقع هذه المنطقة قرب بلدة مرج الزهور، وتبلغ مساحتها 7 كيلومترات. ويمضي الفلسطينيون لياليهم في خيامهم وفي جو قارس البرودة، وقد نظموا انفسهم بمساعدة بعض المنظمات والهيئات الدولية، فتمت اقامة مخيم جديد في هذه المنطقة أطلقوا عليه اسم "مخيم العودة"، كما تم تشكيل قيادة عامة لهم ولجان عدة لتنظيم شؤون المخيم وللغذاء والصحة وامور اخرى. ووفقاً لما قاله مندوب اللجنة الدولية للصليب الاحمر: "لقد اعطينا المبعدين مواد غذائية وخيماً واغطية وفرشاً ومدافئ تعمل على الغاز ومواد طبية وشموعاً وهم تولوا الباقي. انهم منظمون تنظيماً مثيراً للدهشة، وهم يتمتعون بطاقة تحمل كبيرة لأن معظمهم امضوا فترة في السجون الاسرائيلية". ووضعت القوة الدولية العاملة في جنوبلبنان صهريجاً بتصرف المسؤولين عن ادارة المخيم لنقل مياه الشفة الى المبعدين". كما تلقى المبعدون مساعدات من حزب الله ومن تنظيمات لبنانية عدة. هل تستمر اقامة المبعدين في "مخيم العودة" فترة طويلة؟ يمكن تلخيص الوضع في الشكل الآتي: 1 - تبدو الحكومة الاسرائيلية مصممة على عدم اعادة المبعدين في الفترة المقبلة، على اساس ان قرار الابعاد هو لمدة سنتين على اقصى حد. وبرغم اعتراف رابين بان نتائج الابعاد كانت "اقل ايجابية مما كنا نتوقع" الا انه اكد تمسكه بقراره. والواضح ان اي تراجع سريع لرابين سيضعف موقفه كثيراً في الساحة الاسرائيلية. لكن هناك احتمالاً قوياً بأن يكون ملف المبعدين عنصر مساومة لدى استئناف مفاوضات السلام في شباط فبراير المقبل، بحيث يعيد رابين عدداً منهم في مقابل "مرونة فلسطينية" في المفاوضات. 2 - تبدو الحكومة اللبنانية كذلك، مدعومة من الحكومة السورية، مصممة على عدم السماح للمبعدين بالخروج من المنطقة العازلة والاقامة في لبنان، على اساس ان ذلك يشكل عامل ضغط اساسي على حكومة رابين لكي تعيدهم الى ارضهم. لكن ليس مستبعداً ان تتعرض الحكومة اللبنانية لضغوط دولية لاستقبال المبعدين "لاعتبارات واسباب انسانية" الى ان يتم ايجاد حل لهم. 3 - الامر المستبعد كلياً هو تعرض رابين لضغوط دولية حقيقية لكي يعيد المبعدين، بسرعة وبلا ثمن، الى الضفة الغربيةوغزة. وهكذا يطل عام 1993 على منطقة الشرق الاوسط، وامامنا المبعدون الفلسطينيون في مخيمهم تمر فوق رؤوسهم عملية السلام ولا تطالهم، واسرائيل حرة طليقة تفعل ما تشاء وتتمتع "بمزايا" يمنحها اياها المجتمع الدولي ولا يحصل عليها الآخرون.