بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 واتفاقي اوسلو والاعتراف المتبادل عام 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل وما تلى ذلك من اتفاقات على المسارين الفلسطينيوالأردني ومفاوضات المسار السوري، انتعش أمل أنصار السلام بحل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي بالطرق السلمية. واعتقد الباحثون والمحللون الاستراتيجيون أن تجربة الصراع المسلح المريرة علّمت الطرفين دروساً مفيدة بأهمية السلام. وأمل الجميع بانفراج أمني واسع في الإقليم بعد الانفراج الجزئي الذي أحدثته اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979. لكن وقائع الصراع أكدت لاحقاً خطأ هذا الاستخلاص وبينت أن خيار العودة الى الحرب ظل كامناً في ذهن فئات واسعة في المجتمعين. وأكد فشل قمة كامب ديفيد الثلاثية التي جمعت ايهود باراك وبيل كلينتون وياسر عرفات في تموز يوليو 2000، وفشل محادثات طابا نهاية كانون الثاني يناير 2001، أن عشر سنوات من المفاوضات والاتفاقات الفلسطينية - الإسرائيلية فشلت فشلاً ذريعاً في المحافظة على السلام خياراً وحيداً لمعالجة هذا النزاع المزمن. وبيّن انفجار "الانتفاضة المسلحة" أواخر أيلول سبتمبر 2000 وسقوط نحو 3437 شهيداً فلسطينياً و942 قتيلاً إسرائيلياً وآلاف الجرحى من الطرفين، أن هذه الاتفاقات لم ترس مبادئ ثابتة لعلاقة سلمية نامية، وأن الجهود الأميركية والدولية والإقليمية لم تنجح في بناء سياج متين يحمي الاتفاقات ويصون علاقات السلام. وأن في الجانبين من لم يستوعب دروس التجربة وما زال يؤمن بحسم النزاع بالقوة ويعتقد بإمكان فرض موقفه على الطرف الآخر بالقوة. وبعد فوز اليمين الإسرائيلي بزعامة شارون في إسرائيل مطلع عام 2001 تعطلت عملية السلام وتعقدت علاقات الطرفين وتصاعدت أعمال القتل والتدمير والقتل المضاد. وبدأ المعنيون بصنع السلام في المنطقة يبحثون عن سبل الخروج من المأزق، فظهرت أصوات دولية وإسرائيلية تؤكد عدم قدرة الطرفين وحدهما على معالجة خلافهما المتعلق بقضايا الحل النهائي القدس، اللاجئين، الاستيطان الحدود، المياه، الأمن، والعلاقات المستقبلية. وأولت مراكز الأبحاث والدراسات الفلسطينية والإسرائيلية والدولية مسألة الاستعانة بقوات طرف ثالث اهتماماً خاصاً. ودعا بعض الخبراء في النزاع، منهم السفير الأميركي السابق في تل أبيب مارتن انديك، إلى فرض انتداب دولي على فلسطين وفرض وصاية كاملة على الفلسطينيين ومساعدتهم في بناء دولة ديموقراطية قابلة للحياة. وظهرت أصوات فلسطينية تمثل "جبهة الرفض" ترفض فكرة وجود طرف ثالث على الأرض الفلسطينية جملة وتفصيلاً وتدعو الى حسم النزاع بقوة السلاح. ولم تكن معارضة هذا التيار لدور طرف ثالث أضعف من معارضة حزب الليكود وبقية الأحزاب الإسرائيلية اليمينية المتطرفة. وعلى رغم ملاحظات الفلسطينيين الكثيرة على دور الراعي الأميركي في عملية السلام، إلا انهم يعترفون أنه، ومعه الرعاة الآخرون، لعبوا دوراً مهماً في المفاوضات مع الإسرائيليين وأنقذوها مرات عدة من الانهيار وساهموا في تواصلها أكثر من عشر سنوات. ويقرون بأن جميع اتفاقاتهم الرئيسة والفرعية مع الإسرائيليين وانتقال قيادة المنظمة من الخارج إلى الداخل وقيام السلطة الفلسطينية تمت بمساعدة طرف ثالث، ويخصون بالذكر دور حكومة النروج في التوصل إلى اتفاق أوسلو، ودور الراعي الأميركي في رعاية المفاوضات والاتفاقات الفرعية التي تلت ذلك الاتفاق. إلى ذلك، يبين البحث في جذر الصراع أن طرفاً ثالثاً ساهم قبل أكثر من نصف قرن في خلق ما يعرف بالمسألة الفلسطينية. ويختزن الفلسطينيون في ذاكرتهم صورة سلبية عن دور الطرف الثالث بدءاً من دور بريطانيا في نكبتهم 1948-1947 وقيام دولة إسرائيل فوق أرضهم، وانتهاء بفشل هيئة الأممالمتحدة في إنصاف الفلسطينيين وتنفيذ قراراتها المتعلقة بالنزاع وفشل الدور الأميركي في رعاية عملية السلام التي انطلقت من مدريد عام 1991. ويحمّل الفلسطينيونالولاياتالمتحدة مسؤولية هزيمة العرب في حزيران يونيو 1967 واحتلال إسرائيل الضفة الغربية وبقية أرضهم. ويتذكرون الدور السلبي للقوات الدولية في جنوب لبنان بين 1978 و1982 وفشلها في منع الاعتداءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيينواللبنانيين. ولم ينسَ الفلسطينيون فشل القوات المتعددة الجنسية بقيادة أميركية في حماية المخيمات في لبنان إبان غزو إسرائيل بيروت في 1982، ومسؤوليتها السياسية والمعنوية عن مجازر صبرا وشاتيلا. ويتهم الفلسطينيون المجتمع الدولي ومجلس الأمن والدول الكبرى، وبخاصة الولاياتالمتحدة، بالتقصير في حل قضيتهم. وعلى رغم ذلك، يدرك الفلسطينيون أن نزاعهم مع إسرائيل معقد. وتجربة عشر سنوات من المفاوضات بينت صعوبة توصل الطرفين وحدهما إلى حل القضايا المعقدة. وأكدت مفاوضات طابا عام 2001 وقبلها مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 أن لا غنى عن طرف ثالث يساعد في إيجاد الحل، وقد يكون لا مفر من فرضه على الطرفين إذا رفضه أحدهما. وعلى امتداد نصف قرن من النزاع ظهر دور الطرف الثالث مرات كثيرة بأشكال متنوعة: بعد الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى عام 1948 وافقت إسرائيل وحكومات الدول العربية المحيطة بفلسطينالأردن ومصر وسورية ولبنان على الاستعانة بمراقبين دوليين للتحقق من التزام اتفاقات الهدنة التي وقعتها إسرائيل مع كل طرف على انفراد. وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، تمت الاستعانة بقوات دولية كبيرة لمراقبة وقف النار على الحدود المصرية - الإسرائيلية وتأمين حرية الملاحة في مضائق تيران في البحر الأحمر. وبعد حربي السويس وتشرين الأول أكتوبر 1973 شاركت قوات دولية في تثبيت وقف النار على الجبهتين السورية والمصرية. ولا تزال القبعات الزرق الدولية تعمل في الجبهتين المصرية والسورية وعلى الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. وتمت الاستعانة أيضاً بقوات طرف ثالث بقيادة أميركية في تنفيذ اتفاقات كامب ديفيد عام 1979 ولا تزال هذه القوات في سيناء. وبعد مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1995 وافقت حكومة اسحق رابين على الاستعانة بمجموعة صغيرة من المراقبين لمراقبة الوضع وتسجيل الحوادث. وفي أيار مايو 2000 طلب باراك من الأمين العام للأمم المتحدة توفير خبراء دوليين لمشاركة الجيش الإسرائيلي في إعادة رسم الحدود الإسرائيلية - اللبنانية، ووافقت الحكومة اللبنانية على الفكرة وتلقت دعماً سورياً وعربياً شاملا. ودراسة عملية السلام 2003-1991 تبين أنها انطلقت برعاية طرف ثالث تمثل في دور الولاياتالمتحدة وروسيا، وظل دور هذا الطرف موضع تداول بين الفلسطينيين والإسرائيليين حتى آخر جولة مفاوضات في طابا. والجدير ذكره أن دور الطرف الثالث ورد في الأسس التي قامت عليها عملية السلام، وأشار اتفاق أوسلو على سبيل المثال، الى ان "للأطراف أن تتفق على عرض المنازعات التي لا يمكن تسويتها من خلال التوفيق على التحكيم، ومن أجل هذا الغرض وبناء على اتفاق الطرفين ستنشئ الأطراف لجنة تحكيم". وأشارت مبادرة كلينتون في 23/12/2000 للموضوع، ورأى "ان المبدأ الرئيس في وجود دولي انه لا يمكن سحبه إلا بموافقة متبادلة، وسيتولى هذا الوجود مراقبة تطبيق الاتفاق بين الطرفين". إلا أن إسرائيل ظلت ترفض الاستعانة بطرف ثالث للتحكيم أو الفصل على الأرض وأصرت على حصر دور الطرف الثالث بالدور الأميركي فقط، ولم تتمسك الإدارات الأميركية المتعاقبة بالشريك الآخر الروسي كما لم تحاول إشراك دول الاتحاد الأوروبي وظلت تستعين بها وقت الحاجة ولمهمات محددة تركزت في جانب التمويل. مبررات وجود طرف ثالث بديهي القول ان وقف خسائر الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي وإنقاذ أمن الإقليم مهمة جماعية تتحملها قوى السلام، وهروب هذه القوى من مواجهة الحقائق المرة يزيد الخسائر ويعرض أمن الإقليم لأخطار جسيمة. وإذا كانت الهدنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ضرورية لوقف تدهور الوضع وتمهيد الأجواء للعودة إلى طاولة المفاوضات، فالتجربة أكدت أن استمرار أي هدنة وإنقاذ عملية السلام ونشر الأمن في الإقليم يتطلب أعداداً كبيرة من المراقبين من طرف ثالث يتولون مراقبة الطرفين والتحقق من التزامهما. وعلى رغم تجربتهم التاريخية المؤلمة مع الطرف الثالث، يدرك الفلسطينيون أنهم الطرف الأضعف في المعادلة ولا غنى عن تدخل طرف ثالث في حل نزاعهم مع إسرائيل، ويحبذون أن يكون تدخله قوياً وفاعلاً على الأرض بجانب التدخل المتواصل في غرف المفاوضات. إلى ذلك، أكدت التجربة الطويلة منذ فشل قمة كامب ديفيد ومحادثات طابا وانفجار الانتفاضة حقائق كثيرة تتعلق بالنزاع ودور الطرف الثالث أهمها: - إن عملية السلام على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي بنيت على فرضيات عدة تبين أن واحدة منها على الإقل وهمية بخاصة تلك التي قالت ان لا ضرورة لوجود طرف ثالث ذي رأي ملزم للطرفين ولا ضرورة لقوات طرف ثالث تعمل ميدانياً في مجال الفصل والمراقبة. وثبت أيضاً خطأ موقف مهندس العملية وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر ورعاتها الذين اعتقدوا أن آلية العملية كفيلة بمراكمة طاقة ذاتية وخلق ثقة متبادلة، يقلصان حاجة الطرفين الى طرف ثالث. - إن تنفيذ الاتفاقات وبناء سياج سلام متين يحميها من عدوانية المتطرفين في الجانبين يتطلب وجود طرف ثالث. واقتصار دور الراعي على مهمات فوقية ومساعدة الطرفين في الوصول إلى طاولات المفاوضات وتقديم نصائح وأفكار غير ملزمة لحل العقد المستعصية غير كاف لحل النزاع. وكرست التجربة العملية قناعة فلسطينية بأن الطرف الإسرائيلي غير ناضج لسلام عادل ودائم. وكان انتهاء الفلسطينيين من معركة صوغ الاتفاقات مع الإسرائيليين يعني دائماً بدء معركة أخرى تتعلق بتثبيت الاتفاقات وتنفيذها، ودائماً كانت المعركة الثانية أصعب وأقسى. وبسبب اختلال ميزان القوى في شكل فاحش لمصلحتهم طبق الإسرائيليون على الاتفاقات مع الفلسطينيين قاعدة "لا تواريخ أو نصوص مقدسة". وكثيراً ما أعيد فتح الاتفاقات على مرأى الراعي الأميركي. وفي محطات أخرى فرض الجانب الإسرائيلي تفسيراته الخاصة لبنود نصوصها واضحة. - انتهاء صيغة الحلول المرحلية والتدرج في مراكمة الإنجازات وبناء الثقة المتبادلة. وبينت المفاوضات أن هذه الصيغة كما تجسدت في اتفاق اوسلو ومشروع خريطة الطريق ظلت صالحة لمعالجة قضايا المرحلة الانتقالية لكنها لم تصلح لمعالجة قضايا الحل النهائي الشائكة. وعدم قدرة الطرفين وحدهما على تسوية نزاعهما المعقد حول قضايا الحل النهائي بخاصة أن هذه القضايا لها أبعاد معنوية ورمزية وتاريخية وحلها يتطلب مبادرة طرف ثالث وابتداع صيغ حل لكل قضية وإلزام الطرفين بها. - أظهرت المحادثات والمفاوضات الحدود الدنيا والقصوى لمواقف الطرفين حول قضايا الحل النهائي. ومع أن وضوح المواقف عقد حل النزاع واستنفر قوى متطرفة في الجانبين لتعقيد مسيرة السلام، إلا أن الفلسطينيين احتفظوا في ملفاتهم بملخصات أطروحة إسرائيل في زمن حزب العمل في شأن حل قضايا الحل النهائي. ويعتقد الفلسطينيون أن ما طرح في محادثات طابا يقترب من السقف النهائي للموقف الإسرائيلي وأي إضافة جديدة ستكون تفصيلية. وقول الجنرال أمنون شاحاك رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق في طابا: "الآن عرفتم أقصى ما يمكن أن تقدمه إسرائيل" ليس بعيداً من الحقيقة. - تؤكد وقائع المفاوضات في طابا وكامب ديفيد وما تلاها أنه لم يعد ممكناً الاستمرار في الاتفاقات الجزئية والمرحلية، وأن مفاوضات الطرفين بلغت مرحلة تستدعي العمل على اتفاق شامل وتفويض دولي للرقابة على التنفيذ. وأسفر احتدام الصراع في "زمن فشل المفاوضات وانفجار الانتفاضة" عن تدمير بذور الثقة بين الطرفين. - دمرت القوات الإسرائيلية أجهزة الأمن الفلسطينية ومؤسساتها ومقراتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، فباتت غير قادرة على النهوض بمهماتها، وفي حاجة إلى إعادة بناء وتنظيم وتأهيل وتدريب تستغرق فترة زمنية. ولا بد من قوات "طرف ثالث" دولية أو متعددة الجنسية خلال هذه الفترة تتولى مهمات أمنية ميدانية يتفق عليها، بخاصة أن الوضع على الأرض معقد وتتداخل فيه المستوطنات مع المدن والقرى الفلسطينية. - خلقت حكومة شارون وقائع جديدة على الأرض تتعاكس مع أهداف عملية السلام وروحها ونسفت معظم ما تم تحقيقه على الأرض. وعادت القوات الإسرائيلية واحتلت المناطق "أ" و"ب" الخاضعة للسلطة الفلسطينية. وباتت الثقة المفقودة واستئناف المفاوضات والعودة إلى مواقع ما قبل أيلول 2000 تحتاج إلى دور مساعد يقوم به طرف ثالث يجبر الطرفين على الالتزام باتفاقاتهم. - تعززت في السنوات الثلاث الأخيرة مكانة قوى المعارضة لعملية السلام على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وعمل المستوطنون والمتطرفون الإسرائيليون على تأجيج النزاع وإفشال الاتفاقات، وقابلهم عمل في الاتجاه نفسه قامت به "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وكتائب شهداء الأقصى التابعة ل"فتح" و"كتائب الشهيد أبو علي مصطفى" التابعة للجبهة الشعبية. والكل يعرف أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية غير قادرة بقواها الراهنة على ردع هذه الجهات، ولا بد من قوات طرف ثالث تساهم في الردع. - بينت التجربة أن احد الأسباب الرئيسة لتعثر المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية وانفجارها يكمن في غياب طرف ثالث يتولى المراقبة والتحقق من مدى التزام الطرفين بالاتفاقات ومدى الامتثال للأسس والقواعد الأساسية للعملية ويفصل بينهما عندما اقتضت الضرورة ذلك. - تأخر وصول هذه القوات يعطل إمكان استئناف المفاوضات وقد يعجل في شطب عملية السلام، بخاصة ان إسرائيل في عهد اليمين الإسرائيلي تسابق الزمن في خلق حقائق جديدة على الأرض تنسف ليس فقط أسس عملية السلام التي عرفناها بل تعطل انبثاق عملية جديدة لاحقاً. إلى ذلك، يفترض أن يمثل نجاح تجربة الاستعانة بقوات طرف ثالث في أكثر من بقعة في العالم منها قبرص والبوسنة والهرسك وأفريقيا وآسيا عاملاً مشجعاً على تكرار التجربة في فلسطين والاستعانة بقوات طرف ثالث. ولا يمكن المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية أن تشذ عن القاعدة التي حكمت المفاوضات المصرية - الإسرائيلية والأردنية - الإسرائيلية. وإذا كان الأردنيون والإسرائيليون لم يستعينوا بطرف ثالث للتحقق من الالتزام بالاتفاقات فالحالة الفلسطينية وأيضاً السورية ينطبق عليهما النموذج المصري حيث استعان الطرفان بقوات طرف ثالث كبيرة العدد وقوية العدة. * كاتب فلسطيني.