هناك قاسم مشترك بين العملية التركية ضد الأكراد في شمال العراق وانعقاد أول قمة للدول الناطقة بالتركية في أنقرة، فالتحركان معاً يعكسان تضخم دور دول الجوار بعد حرب الخليج الثانية وتحلل الامبراطورية السوفياتية. كذلك فإن التحركين يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بتأكيد التغير الذي لحق بالسياسة الخارجية التركية من نحو عقدين من الزمان ويتصلان بتقدير موضع هذا التغير من الاستراتيجية الاميركية تجاه الشرق الأوسط. وفي تلك الحدود، فإن النشاط الخارجي التركي الملحوظ في الآونة الاخيرة يفتح المجال لإثارة أربع ملاحظات أساسية هي الآتية: الملاحظة الأولى: استقرار مبدأ في السياسة الخارجية التركية منذ منتصف الستينات قوامه العمل على تنشيط الحضور الشرق أوسطي لتركيا، بالتوازي مع حضورها الأوروبي. وتعزو الدراسات المتخصصة هذا التحول الى كون تركيا أيقنت تماماً من ان انتماءها للحضارة الاسلامية وقف حائلاً دون عضويتها الكاملة في المجموعة الأوروبية، علاوة على أن هذا الانتماء انعكس سلباً على موقف تلك المجموعة من بعض القضايا التركية الحيوية وفي مقدمتها القضية القبرصية. وفي الوقت الذي أخذت تنسلخ تركيا ثقافياً ومصلحياً عن الإطار الأوروبي، كانت ثمة عوامل أخرى، أهمها المد الاسلامي، تتفاعل في الداخل لتدفع بها الى التكامل أكثر من إطارها الشرق أوسطي، ومن تلك الزاوية، يمكن القول ان القيادة التركية بلورت مفهومها لدورها الشرق اوسطي الجديد في بعدين أساسيين: البعد الأول هو تطوير العلاقات الاقتصادية بين تركيا ودول المنطقة على نحو يضمن لتركيا تسويق بضاعاتها المصنعة، ويفتح فيها آفاق الاستثمار، وأهم من ذلك يدعم مواردها النفطية الشحيحة، وفي هذا الخصوص نلاحظ انه بحلول نهاية الثمانينات استأثرت دولتان من دول المنطقة هما العراقوإيران بتزويد تركيا بنحو 77 في المئة من احتياجاتها النفطية. والبعد الثاني هو تأكيد أهمية الدور التركي في معالجة قضايا المنطقة ولكن شرط عدم التورط في الصراعات السياسية المرتبطة بها نتيجة الوقوف الى جانب أحد الأطراف ضد الآخر. ومثل هذا البعد تجلى في موقف تركيا من قضية الصراع العربي - الاسرائيلي، وذلك انه في الوقت الذي لم تستجب تركيا لأية ضغوط عربية ترمي الى قطع علاقتها مع اسرائيل، فإنها ظلت متمسكة بالانسحاب الاسرائيلي الكامل من الأراضي العربية وبضرورة التوصل الى حل عادل للقضية الفلسطينية. وعلى صعيد آخر التزمت تركيا موقفاً محايداً من الحرب العراقية - الايرانية، فقاومت المساعي الرامية الى توريطها في تأمين الملاحة البحرية في الخليج أو في فرض حظر تجاري على إيران، ومارست في الوقت ذاته جهود الوساطة السلمية بين الدولتين كما قامت برعاية مصالح كل منهما لدى الأخرى. وخلال أزمة احتلال الكويت إزداد اندماج تركيا في محيطها الشرق أوسطي، فقد سمحت باستخدام قواعد الحلف الأطلسي داخل اراضيها لتنفيذ العمليات العسكرية ضد العراق، كما سمحت فيما بعد بتمركز قوات التدخل السريع لمنع صدام حسين من قمع أكراده. وعلى رغم ان هذا التطور بدا مناقضاً لحرص تركيا على عدم التورط في صراعات المنطقة، إلا أن تركيا فسرت موقفها بأنه يهدف الى وقف التوسع الاقليمي العراقي الذي كان لابد أن يشملها، علاوة على أنها كانت بالغة الوضوح في رفضها للتورط العسكري المباشر بإرسال قواتها للمشاركة في حرب الخليج. وقد كان من شأن هذا الموقف ان يزيد في دعم التعاون الاقتصادي بين تركيا ودول جوارها، إذ حصلت تركيا على منح ومساعدات من الدول العربية كما بلغ حجم تبادلها التجاري مع ايران في عام 1991 وحده قرابة مليار ونصف المليار دولار. الملاحظة الثانية: هي أن فكرة تنشيط الدور الشرق أوسطي لتركيا انسجمت انسجاماً تاماً مع الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة. فلقد أعادت حرب الخليج الثانية اكتشاف الأهمية الاستراتيجية لتركيا بعد ان تضاءلت بزوال الخطر السوفياتي. وتمثلت وجهة النظر الاميركية بهذا الخصوص في أن تركيا تعد دعامة أساسية من دعامات الأمن في منطقة الشرق الأوسط. ذلك ان تركيا تتمتع أولاً بوفرة امكانياتها المائية، وهي قادرة من هذه الزاوية على تذليل واحدة من أهم العقبات التي تعترض التوصل الى تسوية سلمية للصراع العربي - الاسرائيلي. وقد كان هذا أحد المبررات القوية التي أدت الى اشراك تركيا في المفاوضات المتعددة الأطراف. كما أن تركيا، ثانياً، بحكم امتداداتها اللغوية والدينية مع جمهوريات آسيا الوسطى يمكن ان تقوم بدور ما في السيطرة على بواعث الفوضى السياسية في تلك المنطقة المهمة من العالم. وقد كان هذا هو سر اهتمام الولاياتالمتحدة بترويج النموذج التركي بين الجمهوريات الاسلامية التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي. وتركيا ثالثاً بحكم علاقاتها الجيدة بكل من اسرائيل وباكستان يمكن ان تكون عنصراً موازناً للمكون العربي وكاتماً للطموح الايراني في الشرق الاوسط. وتركيا رابعاً وأخيراً، بسبب عضويتها في نظام الثقة والأمن بمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، تصلح لأن تكون همزة الوصل بين هذا المؤتمر وبين تنظيم مواز له ينشأ في اطار الشرق الأوسط. ولعل النقطة الاخيرة تحديداً تعبر عن درجة عالية من التوحيد بين وجهتي النظر الاميركية والتركية. فلقد طرحت تركيا فكرة مؤتمر الامن والتعاون الشرق أوسطي للمرة الاولى عام 1988 ثم اعادت طرحها مجدداً في أعقاب حرب الخليج الثانية، على أساس أن يساعد هذا المؤتمر على منع اندلاع الصراعات بين دول المنطقة. ومن جانبها تبنت الجهة المشرفة على مشاركة الولاياتالمتحدة في مؤتمر الامن والتعاون الاوروبي هذه الفكرة نفسها في عام 1991، وحددت مهام التنظيم المقترح بتثبيت الحدود السياسية وتشكيل التحالفات بين الأعضاء فضلاً عن كبح التطلعات الاقليمية. وقد برزت تركيا في ضوء هذا التصور باعتبارها طرفاً أساسياً وأصلياً في منبر الشرق الأوسط، جنباً الى جنب مع مجموعة البلدان العربية. ولقد تلازم هذا التفاهم على حدود الدور التركي الشرق أوسطي الجديد، مع اهتمام الولاياتالمتحدة بتقديم الدعم لتركيا، لا سيما في مجال تطوير قوتها العسكرية، بعد ان كشفت حرب الخليج الثانية عن ثغرات أساسية في نظمها الدفاعية. نفط ايراني وماء تركي الملاحظة الثالثة: هي أن التدخل التركي الحالي في شمال العراق يعد تجسيداً أمنياً لتزايد نشاط تركيا في محيطها الاقليمي فمن الصحيح أن هذا التدخل يشكل استجابة لمطلب أمني داخلي يتمثل في إنهاء حركة التمرد الكردي التي ترهق الدولة التركية منذ عام 1984 وتجبرها على ملاحقة عناصر تلك الحركة اينما يكونون. كذلك يعد هذا التدخل من زاوية معينة محاولة لتحويل الانتباه عن وربما بتجميد مشروع الفيديرالية الذي اقترحه أكراد العراق والذي قد يؤدي الى تفجير الموقف داخل تركيا. ولكن من جهة أخرى، يوجد الى جانب هذا المحدد الداخلي للسلوك التركي محدد إقليمي لا يقل عنه أهمية وينبغي أخذه في الاعتبار. ويتمثل ذلك في دعوة تركيا الى اجتماع ثلاثي مع كل من ايران وسورية للتباحث حول شؤون العراق، بينما تتوغل قواتها داخل أراضيه. ويشكل ذلك نوعاً من عرض القوة التركية الاقليمية. والمقصود بذلك ليس مجرد المعنى العسكري للقوة الذي يبرز تركيا كدولة قادرة على الردع عند الضرورة، لكن المقصود أيضاً المعنى الديبلوماسي للقوة الذي يظهر تركيا كدولة قادرة على حمل جيرانها على مناقشة قضايا المنطقة. ويرتبط بالنقطة السابقة أن عرض القوة التركي بشقيه تزامن مع تصاعد العنف السياسي في جنوبلبنان. ومن هنا فلعل تركيا أرادت أن تبرز قوتها على التحرك بتوجيه رسالة تحذير الى كل من ايران وسورية باعتبارهما الدولتين الراعيتين لحزب الله. يساعد على تعزيز هذا التصور ان تركيا كانت اتخذت موقفاً مشابهاً من سورية عندما ربطت انضمامها الى المفاوضات المتعددة الأطراف بالتقدم في تحقيق التسوية السياسية الشاملة، فكان أن افتعلت تركيا أزمة غير مفهومة حول المياه وخرج رئيس وزرائها ليعلن أن بلاده "سيدة على مياه الانهار التي تنبع من أراضيها وليس لسورية والعراق أي حق فيها". الملاحظة الرابعة والأخيرة، هي ان كون حرب الخليج الثانية تركت العرب في شك من نظامهم الاقليمي، من دون ان تولد فيهم القدرة على التغيير، فإن هذا جعل نجاح المشروع الشرق أوسطي التركي لا يرتبط بقدرات العرب التساومية، لكنه يرتبط أساساً بالقدرة التنافسية للمشاريع البديلة في المنطقة وأهمها المشروع الايراني. والواقع ان العلاقة التركية - الايرانية هي علاقة مركبة ومحكومة بنوع من توازن الضعف بين طرفيها. فالوفرة المائية التركية توازيها وفرة نفطية ايرانية، ومتانة صلات تركيا بدول آسيا الوسطى يواجهها عجزها عن التواصل الجغرافي مع تلك المنطقة إلا عبر البوابة الايرانية. فضلاً عن ذلك فإن الدولتين معاً تعانيان من هشاشة تركيبهما الاجتماعي. مثل هذا التوازن الرخو تشابك مع الخلاف الايديولوجي بين العلمانية التركية والاسلام السياسي الايراني، وتواصل مع الموروث التاريخي للعداء القومي بين العثمانيين والفرس، وألقى بظلاله على اختلاف مشروع أو تصور الدولتين لمفهوم الشرق الأوسط، في المنطلقات كما في الحدود. فتركيا لا تتعامل مع مشروع الشرق الاوسط باعتباره وسيلة للالتفاف حول الترتيبات الامنية في الخليج وافراغها من مضمونها كما تفعل ايران. وعلى صعيد آخر، فان اسرائيل تمثل ركناً أصيلاً من أركان مشروع الشرق الأوسط التركي، في حين لا تقبل إيران التعامل مع اسرائيل إلا من منظور الجهاد. وفي إدارة الدولتين المتجاورتين لعلاقتهما التنافسية فإنهما تستخدمان كل ما في جعبتيهما من وسائل: إيران تلعب الورقة الافغانية واليونانية وتنافس في الباكستانية والعراقية والاسلامية السوفياتية سابقاً. وتركيا تستخدم هي نفسها كورقة اميركية لممارسة سياسة المنح أو المنع ضد إيران حسب مقتضى الحال ودرجة الاستقرار في العلاقات الاميركية - الايرانية. لكن الدولتين معاً لا تذهبان في سياسة حافة الهاوية بل الى حد التردي الفعلي فيها، فهما شريكتان في تنظيم اقليمي يجمعهما ولا غنى لاحداهما عن الأخرى. وعلى ضوء التحليل السابق يصبح السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يغدو القرن الحادي والعشرون قرناً تركياً على نحو ما تطلع اليه الرئيس أوزال في قمة الدول الناطقة بالتركية؟ هل يصبح قرناً ايرانياً على أساس القدرة التعبوية الهائلة للمشروع الاسلامي؟ أم هل يصبح قرناً تركياً - إيرانياً مشتركاً؟ نحن لا نملك رداً قاطعاً على هذا السؤال، لكن باليقين وفي حدود التوازنات القائمة فإن القرن الحادي والعشرين لن يكون هو قرن العرب وحدهم. * خبيرة في شؤون الشرق الاوسط وإيران وأستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة.