بعد استئناف الجولة الجديدة من مفاوضات السلام العربية - الاسرائيلية في واشنطن كان من الواضح ان الطرفين العربي والاسرائيلي يخشيان من أن تؤدي انتخابات الرئاسة الاميركية الى حدوث انقطاع طويل في عملية السلام. لهذا حاول الرئيس حافظ الأسد، بعد أن رأى امكانية سقوط الرئيس بوش وفقدان أكثر الادارات الاميركية تفهماً منذ ثلاثين عاماً، أن يقدم بعض "المساعدة" إذا أمكن، للرئيس بوش، مع الحصول على تنازلات من اسرائيل في الوقت نفسه. اما على الجانب الاسرائيلي فان رئيس الوزراء اسحق رابين، الذي يدرك ان "شهر العسل" الذي يتمتع به مع الناخبين الاسرائيليين لن يدوم طويلاً، يريد ان يحقق اكبر تقدم ممكن. وكان في هذين الموقفين ما يبشر باحراز تقدم مهم في هذه الجولة. لكن الحسابات اعقد من ذلك كما هو الحال في كل الامور في الشرق الاوسط. وهذا ما اتضح بعد انتهاء الجولة السادسة من هذه المفاوضات من دون التوصل الى اتفاق ملموس سوري - اسرائيلي أو فلسطيني - اسرائيلي. زرت الشرق الأوسط لمدة اسبوع خلال ايلول سبتمبر الماضي وعقدت محادثات مكثفة مع كبار المسؤولين الفلسطينيين والاسرائيليين. وأود ان اسجل في هذا المقال الخاص بپ"الوسط" توقعاتي، نتيجة هذه المحادثات، بالنسبة الى المفاوضات السورية - الاسرائيلية والفلسطينية - الاسرائيلية. ولنبدأ أولاً بالملف السوري. كانت أولى مفاجآت فصل الصيف هي اعلان رابين بوضوح انه يعتبر ان قرار مجلس الامن الدولي الرقم 242 ينطبق على المفاوضات مع سورية وأنه يؤيد مبدأ التنازلات الاقليمية. كذلك كانت استجابة سورية تدل على رغبة واضحة في السلام، لا سيما قبل عشرة أيام عندما تحدث الرئيس حافظ الأسد من إذاعة دمشق للمرة الأولى عن آماله في السلام وقال: "إننا نريد سلام الشجعان. سلاماً حقيقياً يدوم ويضمن مصالح الجميع". فبعد سنوات من الخطابة الصارخة من الواضح ان النغمة الجديدة تهدف الى بدء عملية تكييف لاقناع الشعب السوري بفكرة العيش في سلام مع اسرائيل. وكان في هذه الاشارة المشجعة التي صدرت عن الأسد ما دفع رابين الى التخلّي عن استراتيجيته الأصلية التي تقوم على أساس التركيز على المفاوضات الخاصة بالحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة أولاً، والمسارعة بدلاً من ذلك الى إرسال ايتامار رابينوفيتش الى واشنطن لتقرير مدى التزام الأسد بالسلام. إذ ان رابين يريد ان يعرف بشكل خاص اذا كانت سورية مستعدة لتوقيع معاهدة سلام رسمية ترافقها عملية تطبيع العلاقات بين سورية واسرائيل، وكذلك اذا كانت سورية مستعدة للفصل بين الحل السوري - الاسرائيلي وضرورة احراز تقدم على كل الجبهات. فاذا كان موقف الوفد السوري "ايجابياً" من ذلك فان رابينوفيتش - رئيس الوفد الاسرائيلي الى المفاوضات مع سورية - على استعداد للتفاوض على بيان بالمبادئ العامة يصدره الطرفان السوري والاسرائيلي يتناول طبيعة السلام وأساس تطبيق القرار 242 وترتيبات الأمن المشتركة. وإعلان المبادئ العامة السوري - الاسرائيلي هذا سيساعد الى درجة كبيرة على عملية التكيف في كلا البلدين. فنظراً الى ان كلا من الشعبين السوري والاسرائيلي تعوّد على أن يرى ان من المستحيل تغيير الآخر، فانه يجب بذل جهد كبير لاقناعهما بأن تغييراً جذرياً في المواقف حدث فعلاً، قبل ان يثق الشعبان في التسوية السياسية. ويجب ان يكون هذا التغيير سابقاً لأية تنازلات ذات شأن. فمثلاً من المرجح ان يصر الرئيس الأسد على الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الجولان ومن الواضح ان هذا امر غير وارد إطلاقاً نظراً الى المزاج الراهن من الشكوك في اسرائيل تجاه سورية. وإذا كان لهذا المزاج ان يتغير فلا بد من دليل واضح - وهو ما يوفره اعلان المبادئ المقترح - على ظهور موقف جديد في سورية. وإذا استطاع المفاوضون الاسرائيليون والسوريون، التوصل الى اعلان المبادئ هذا فان من المرجح ان تكون استراتيجية رابين هي المطالبة بعدم ربط السيادة بالانسحاب. وقد يكون في وسع رابين الاعتراف بالسيادة السورية على مرتفعات الجولان في مقابل قبول سورية باستمرار الوجود الاسرائيلي فيها في الوقت الراهن كإجراء من اجراءات بناء الثقة. ولكن من ناحية اخرى، اذا كان من الصعب على الأسد ان يشترك في مثل هذا الاعلان في الوقت الراهن، فان من المرجح ان يسعى رابين الى التوصل الى حل موقت مثلما اقترح على الفلسطينيين. اذ يمكن ان تنسحب اسرائيل جزئياً من الجولان مقابل التزام سوري بسلام دائم وخفض القوات هناك. إلا ان هناك على جانب الأسد ما هو اكثر من مجرد الجولان في المعادلة. فهو يريد ان يرى ما الذي يمكن ان يحصل عليه من الولاياتالمتحدة، مثل موافقتها على هيمنته على لبنان وحذف اسم سورية من قائمة وزارة الخارجية بأسماء "الدول الارهابية". ولكن من غير المرجح ان تكون الولاياتالمتحدة مستعدة للتنازل في أي من المسألتين لأن سورية ليس لها ذلك الأثر في الأصوات الأميركية. ولن تنظر واشنطن في شطب اسم سورية من قائمة الارهاب الى ان تغلق قواعد التدريب الموجودة في لبنان وفي أراضيها. وستبين الولاياتالمتحدة لسورية ان السلام نفسه يحمل في طياته ثماره الكافية. المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية من المفارقات ان امكانية احراز التقدم تبدو أقوى على الجبهة السورية منها في مفاوضات الضفة الغربية وغزة. والواقع انه كان واضحاً منذ البداية ان الخطوات الأولى بالنسبة الى الضفة الغربية كانت اتخذت في تبنّي مفهوم سلطة الحكم الذاتي اصلاً في اتفاقات كامب ديفيد. اما الآن فقد حان موعد الجزء الشاق الذي يرد بالتفصيل عن كيفية المحافظة على حقوق المياه وتطبيق القانون وترتيبات الأمن. يضاف الى ذلك، ان الوفد الفلسطيني كما هو واضح يمر بخبرة شاقة، فنحن نطلب منه ان يفهم ويتبنى مفاهيم احتاجت الولاياتالمتحدة الى اكثر من مئتي عام لكي تفهمها جيداً. كما ان الفلسطينيين يفعلون ذلك بوفد فيه أربعة أجنحة على الأقل، فضلاً عن اضطرارهم الى التعامل مع التعليقات التي توهن العزم، الصادرة عن قوى معارضة للسلام وعن الناطقين بلسان حركة حماس. ومع ذلك فانهم نضجوا بسرعة تثير الاعجاب. اما في الوقت الرهن فان عليهم ان يعيدوا التفكير في ما اذا كانوا يريدون حقاً انتخابات عامة واسعة النطاق لاختيار برلمان من نوع ما أم لا. ومن خلال محادثاتي معهم كان من الواضح انهم بدأوا يدركون انه ربما ليس من الحكمة الزام انفسهم بمثل هذا النهج قبل ان يتحققوا ماذا ستكون النتيجة. وبصورة خاصة، من المؤكد ان حركة حماس ستفوز في بعض المناطق المهمة في الضفة وغزة اذا جرت مثل تلك الانتخابات، مما يعني انها ستحصل على صوت يمكنه ان يسد الطريق في أي مجلس تشريعي. ولهذا فان تشكيل مجلس اصغر يبدو أفضل فأفضل. كما ان الجو العام بين الفلسطينيين والاسرائيليين يتحسن باستمرار مع اطلاق رابين سراح السجناء وإلغاء أوامر الابعاد. وهنا أيضاً نجد انه يحاول تكييف الشعب الاسرائيلي مع فكرة العلاقة الجديدة مع الفلسطينيين. اما نجاح هذه الديبلوماسية العلنية او فشلها فستقرره الشجاعة والسرعة التي يتولى بها الوفد الفلسطيني المسؤولية عن مستقبله. والتاريخ يعلمنا ان من الاسهل على الصحافيين والكتّاب، من أمثالنا، ان يحثوا على انتهاج مثل هذه الطريق، مما هو على الزعماء لكي يسيروا عليها. وبشكل عام فقد لمست في محادثاتي إدراكاً صادقاً بين الاسرائيليين والفلسطينيين بأنهم يقفون على مفترق طرق حاسم، وأنهم اذا لم ينتهزوا الفرصة فانها قد لا تتكرر لفترة طويلة. وهناك تيار واضح وقوي مؤيد للسلام في اسرائيل. كما ان هناك روحاً موازية مع انها في بدايتها بين العرب في الضفة الغربية وفي دمشق. بمعنى آخر الفرصة امامنا. ونرجو الله ان تتوفر الشجاعة لدى الطرفين لكي يقدما بعزم وتصميم على انتهازها. * مستشار الرئيس السابق ريغان لشؤون الأمن القومي.