مضى على الانتفاضة الشعبية في سورية أربعة أشهر، ولا يلوح في الأفق القريب حل جذري يمكن أن يؤدي إلى إسقاط النظام. كما أن خروج المظاهرات السلمية يوميا يفضي إلى مزيد من الشهداء"بل وإن النظام زاد من همجيته ووحشيته في القتل والتمثيل بجثث المتظاهرين، كان آخرهم الشاب إبراهيم قاشوش من مدينة حماة، الذي استأصل عناصر المخابرات حنجرته، ورموا جثته في نهر العاصي، بسبب تميزه في إلقاء الأناشيد المناهضة للنظام. لعل من أسباب ازدياد قمع النظام خفوت صوت المطالبات الدولية، بما فيها تركيا، بعدم قمع المتظاهرين السلميين. وسقوط نظريتي المراهنة على انضمام الجيش إلى الشعب، والانقلاب العسكري. ولأن العسكر دولة مختبئة في كُمِّ الدولة، فقد كانت الحاجة منطقية وماسَّة لها، لضبط انتفاضة لم تستطع الاستيلاء على السلطة كثورة، ولمنع الفوضى بعد اهتزاز النظام، وفقدانه لبعض أذرعته الأمنية الأخطبوطية. ولكن إنزال النظام السوري لجيشه ضد الانتفاضة الشعبية اقتداء خاطئ بالقذافي. وإن عسكرة الانتفاضة بحصارها، وقتل المتظاهرين السلميين والتنكيل بهم، والتمثيل بجثثهم، وتشريدهم من بيوتهم، وانتهاك أعراضهم، ستؤدي في النهاية إلى حملها السلاح، والاشتباك مع النظام في حرب شوارع كما حصل ويحصل في ليبيا. الشعب السوري عامة، وشباب الانتفاضة بخاصة منقسمون حول ضرورة حمل السلاح لمواجهة شراسة وهمجية ووحشية أمن النظام. إذ وصل الأمر، خلال مداهمات المخابرات منازل المتظاهرين، إلى الاعتداء على أعراضهم"مما اضطر الكثير منهم إلى حمل السلاح للدفاع عن أعراضهم. بل إن القنوات الفضائية المعارضة للنظام باتت أيضاً منقسمة بين موضوع عسكرة الانتفاضة أو الاستمرار بشكلها السلمي الحالي. فقناة وصال الفضائية، على سبيل المثال، لا تفتأ تعرض بعض آراء المتشددين من المنتفضين ضد النظام، الذين ينادون بحمل السلاح ضده"بسبب مقتل واعتقال أهاليهم، والاعتداء على أعراضهم. والحقيقة أن هذا الأمر يعدّ مبرراً لأشخاص فقدوا عزيزاً، أو انتهكت أعراضهم. بينما نلاحظ أن قنوات فضائية، مثل أورينت أو بردى، ما تزال تحث شباب الثورة على الاستمرار في الانتفاضة بشكلها السلمي الحالي. الانتفاضة السلمية في ليبيا اختطفت عسكرياً، والانتفاضة الوطنية اختطفت دولياً بحيث لم يعد في وسع أي إنسان منطقي صادق مع نفسه أن يصف ما يحدث في ليبيا اليوم بأنه احتجاج سلمي ومظاهرات شعبية أو مقاومة مسلحة لا صلة لها بالخارج. وربما كان سبب عسكرة الانتفاضة الليبية هو الذي دعا إلى التدخل الخارجي، والإسراع في إسقاط النظام، وها هم الثوار على أبواب طرابلس. إن الموقف السلبي الذي لا تزال تتبناه الدول العربية كافة تجاه الانتفاضة الشعبية السورية، هو الذي لا يشجع شباب الثورة السورية على حمل السلاح. كما حصل في الشأن الليبي حين اختارت الدول العربية تدويل الصراع الأهلي في ليبيا عن طريق الحل العسكري باسم الأممالمتحدة، عندما أعطت الضوء الأخضر للتدخل العسكري الأجنبي. عسكرة الانتفاضة الليبية شجعت الإرادة الشعبية السورية، بعد أن أثبتت نجاعتها كأسلوب وطني عربي في حسم الصراع ضد أنظمة مماثلة تماما كالنظام الدموي السوري. الحق يقال: إن اللجوء إلى عسكرة الانتفاضة الشعبية السورية يحمل الكثير من السلبيات أكثر مما يحمل من إيجابيات، وبخاصة أن الرأي العام العالمي لا يزال متضامنا مع الثورة الشعبية السورية السلمية، ولا يلتفت إلى أكاذيب النظام، ولم تنطل اللعبة عليه، بأن المتظاهرين يحملون السلاح ويقتلون رجال الأمن، ويقطعون الطرقات. كما أن قصص السلاح المصادر من المتظاهرين، لا يبدو أنها تمر على الشعب، بما في ذلك تمثيليات جنائز الجنود التي تبث كل يوم على التلفزيون السوري، إذ يذهب السوريون إلى أن بعضها لعناصر من الجيش والأمن رفضت إطلاق النار على المتظاهرين. بل تم الكشف مؤخرا عن فضيحة كبيرة، بعد أن أخرج أهل أحد المجندين جثته، بعد دفنه، وتبين لهم أنه قتل من الخلف برصاصة من بعد لا يزيد عن نصف متر، وأن نوع الرصاصة التي استخرجت من رأسه كانت من النوع الذي لا يتوافر إلا في قطاعات الجيش السوري. وقد زار السفيران الأمريكي والفرنسي مدينة حماة خصيصاً لإثبات أن انتفاضة الشعب السوري سلمية. من سلبيات عسكرة الانتفاضة السورية مساعدة النظام نفسه على القضاء على الانتفاضة السلمية نهائيا، بسبب أمرين اثنين: أولهما: إعطاء الضوء الأخضر للنظام لإبادة بشرية واسعة، بحجة أنه يحارب الإرهاب. وثانيهما، دفع النظام إلى شحن الشعب بفكرة الطائفية والفتنة، وبخاصة أن جزءاً لا بأس به من الطائفة العلوية يدعم النظام. وإن جرّ الكثير من أبناء هذه الطائفة في معركة الدفاع عن النظام لا يبدو مستبعدا، وقد رأينا كيف تم تسليح الأقلية العلوية في مدن، مثل: بانياس، واللاذقية، وجبلة، والقرى المحيطة بمدينة تلكلخ. الانتفاضة الشعبية في سورية تجاوزت فكرة الإصلاح، الأمر الذي يدركه النظام الذي أخذ يهرب إلى الأمام بتعزيز منظومة القمع والقتل، بدليل الدبابات التي أدخلها إلى كل المدن السورية بدون استثناء. ومن الصعب الحديث عن مآلات الانتفاضة الشعبية السورية بعد دخول العامل الدولي على الخط، ولا شك أن التدخل الغربي لا يمكن استبعاده، لكن الشعب السوري لا يزال مترددا في تكرار السيناريو الليبي. لكن تعويل النظام على تحويل الانتفاضة الشعبية إلى تمرد مسلح، ومن ثم إصراره على هذا المسار على نحو غير مقنع للداخل والخارج، مع تصعيد آلة القمع، قد يسهل لعبة التدخل، لاسيما أن أطرافا في المعارضة السورية في الخارج قد لا تجد في الأمر غضاضة بسبب قناعاتها الخاصة، ومواقفها من النظام. المتابع للشأن السوري يلاحظ أن عدد الضباط والجنود الذين ينشقون يومياً عن الجيش في ازدياد"بل هؤلاء الضباط والجنود شكلوا كتائب مسلحة، وأسسوا لأنفسهم قيادة عمليات على الحدود التركية والسورية، داخل الأراضي التركية. هذا الأمر ربما يدعو إلى التفكير إلى أن التدخل الدولي سيستعين بهذه الكتائب المنشقة في المستقبل القريب، لجعلها، تحت مظلة حماية جوية، للدخول إلى الأراضي السورية"رأس حربة"في مواجهة الجيش المؤيد للنظام، للبدء في تحرير الأراضي السورية من سلطة النظام رويداً رويداً، كما يحصل في ليبيا الآن. * باحث في الشؤون الإسلامية.