نتعرف على الفلاح من خشونة يديه، ونتعرف على المثقف الحقيقي من الكآبة التي تبدو عليه، كلاهما يحاول إخفاء آثار المهنة، وكلاهما يفشل في ذلك، يبدأ المثقف رحلة إصلاح الكون بملاحظة الأخطاء البسيطة والتناقضات"الغبية"التي تعترض طريقه في المنزل وفي الطرقات وفي كل مكان يذهب إليه، يجتهد محاولاً إصلاح الأخطاء وكشف التناقضات التي تستدرجه وتغريه بمواصلة الرحلة، ويقدم في سبيل ذلك التضحيات الكبيرة، وبعد رحلة تطول أو تقصر يكتشف أن الأخطاء والتناقضات أطول نفساً منه وأنها تتكاثر كالذباب، ويدرك عندها أن رحلته المستحيلة لإصلاح الكون قد شارفت على النهاية، ويكتشف أيضاً أن مهمة مكافحة الأخطاء والتناقضات هي أكبر الأخطاء وأكثرها فداحة، لأنها حرمته من الاستمتاع بالحياة كما هي، بأخطائها وتناقضاتها، ومنعته من القيام بعمل حقيقي ينتفع به الآخرون. عندما سُئل الروائي الروسي "ليو تولوستوي" في أواخر أيامه عن مشاعره، وقد أثرى التراث الإنساني بروائع ستخلد اسمه إلى الأبد، أجاب:"لو كان لي أن أختار لاخترت أن أكون فلاحاً، أحرث الأرض بيدي وأحصد من خيراتها غذاءً ينتفع به الآخرون، لأن ذلك سيكون أجدى وأكثر فائدة من كل ما كتبته"، وبمرارة أكثر كتب"ديستوفسكي"عن حياته قائلاً:"لم أستطع أن أكون شيئاً جيداً، ولم أستطع أن أكون شيئاً سيئاً، لم أصبح محتالاً ولا حتى نزيهاً، لم أصبح بطلاً ولا حتى هامشياً، والآن أنا قابع في زاوية النسيان أطيل أيامي بالسخرية من نفسي، أردد بمرارة ودون جدوى بأن الرجال الأذكياء ليس بوسعهم أن يصبحوا أي شيء على الإطلاق، فقط وحدهم الأغبياء يصبحون شيئاً". ليس في مجتمعنا وحده يعاني المثقف من الإحباط، ويجلد بسوط الصمت واللامبالاة، بل في كل مكان وزمان، وعزاؤه الوحيد تقريباً بعد أن حرمته الثقافة وسعة الاطلاع من الاستمتاع بعفوية الحياة، أن بإمكانه على الأقل أن يعيش التعاسة بطريقة أكثر ذكاءً من الآخرين، ولعل القيمة الحقيقية للأدب والثقافة أنها تعلمنا أن نختلي بأنفسنا، أحد الكتّاب عبّر بطريقة جميلة عن هذه الفكرة قائلاً:"فائدتي الحقيقية من الثقافة أنها منحتني القدرة على الاستمتاع بعزلتي، لذلك فأنا أحمل عزلتي معي أينما ذهبت فرحاً بها وكأني أحمل جائزة". [email protected]