تكشف رواية"إكليل الخلاص"للروائي محمد المزيني السمات الأساسية التي تتميز بها نصوصه، ومن أهمها أنها"تتماس"مباشرة مع قاع المجتمع السعودي، وتتخذ منها مادة سردية عالية التكثيف والاستحضار، كما أنها تشتغل على اللغة الخاصة المتسمة بالحساسية المفرطة للمفردة الوصفية، ثم المكان وهو ركن أساس عند المزيني. هذه المحددات يمكن اتخاذها منطلقاً للبدء في درس أي نص للمزيني وسأكتفي هنا فقط بقراءة لرواية"إكليل الخلاص". وأكاد أجزم بأن المزيني يتعاطى مع نصوصه الروائية كحال مستقلة، فلا يتشابه نص له مع نص آخر، سواء في لغته أم طريقته، أم حتى في شخصياته وأمكنته وأزمنته. فهذه الرواية التي بين أيدينا تثير منذ بدايتها أكثر من استفهام منها: لماذا هذا العنوان بالذات؟ وما أهمية النص الأسطوري الذي اتخذه فاتحة للرواية"المستلان من سفر يوحنا المعمدان"؟ بينما الرواية تتناول قضية محلية. يتعالق القارئ مع هذه الغرابة التي تحيط بالرواية، هذه الأسئلة ستفضي إجاباتها إلى أسئلة تالية مع الغوص في النص، فلا يكف عن التقصي والتخمين وما عليه إلا التزم الانتظار، لأن الفصول لا تتناول حكايتها بطريقة مشهدية بانورامية عادية بل بطريقة مبتكرة، إذ تتقاطع مع أكثر من مكان وشخصية في وقت واحد، وضعت داخل محطات سيجد القارئ متعته في اكتشاف النص وفرز الشخصيات وتفاعله معها."إكليل الخلاص"تقرأها من دون إضافات ممكنة خارج السياق الطبيعي لها، وخارج لغة الثرثرة الزائدة عن الحاجة التي يُلجأ إليها أحياناً، لتغطية الخلل الحاد في سياقات السرد، أو ما يتطلبه من توازن كاف بين أيقوناته الخمس. تكشف"إكليل الخلاص"بين طياتها كثيراً من العقد، فليس ثمة عقدة واحدة تستأثر بالنص، إنما تمر من خلال مجموعة من الحبكات، التي تنجدل في مواضع وتنفك في مواضع متقدمة، فانحلال العقدة الأولى يفرج عن عقد تتوارى خلفها. سنجد أننا أمام طريق علينا اجتيازه بحذر، فالقراءة لا تتم في حال استرخاء مفرط، لأنها لا تحاكي الحياة بطريقة انطباعية، تستخدم الدهشة الفطرية، فهي تؤجلها حتى تمنح القارئ استمرارية الارتباط والكشف، فوقائعها تحتاج إلى نوع من الغوص في عمقها لاستخراجها، ربما لا يشابهها في ما يطفو على السطح سوى الاحتمال. بيد أن استلهامها وحبكها في رواية يلقي عنها أستارها، ويكشف عوراتها لأنه ببساطة جردها من رتابتها، وهنا يأتي المشهد مماثلاً أو مسايراً للمشهدية السينمائية، بأن يوقع للحياة عنفها المخبوء ويسلط عليها الضوء والصورة، التي تلتقط أدق الأشياء داخلها، وهو ما يوقع المتلقي في حال نفسية تجاري الحدث من خوف أو فرح أو كره أو حب"لذا فان"إكليل الخلاص"من النوع الذي لا يسرد رتابة الأحداث بقدر ما يكتشفها، إنما تأخذ الشكل المتداخل ذا الزوايا الحادة، حتى يخيل للقارئ أنه أمام عالم غرائبي منسوج من عمق مجتمع تدوسه أقدار وحشية، موقعة بحدثية مشخصنة لتقترب بالصورة من حدود قناعات القارئ. تنطلق الرواية من ثيمة الاغتراب، فمن الغربة الحدسية المضمنة في الانتقال المكاني، والغربة المدوزنة أيضاً على وقع الزمان والغربة المتمثلة في وحشة المدن"التي تبخرت منها قيم الإنسان البسيطة"كما أن الغربة هنا لا تعني الغربة المتلبسة بحال الدهشة كما يصفها بريخت، بل غربة متدخلة تبدأ من خروج عبدالرحمن بطل العمل هائماً على وجهه في جوف الليل باحثاً له عن مأمن، فلم يجد اكثر اماناً من المسجد، الذي يمثل له حال إيمان وطمأنينة. ثم الغربة المزدوجة عند فاطمة التي تلمست وطنها في بلاد الغربة النائية، وما إن حلّت في أرض الوطن حتى هبت في وجهها الغربة الزمنية، التي تفصلها عنها قرابة العشرين سنة، لتجد كل شيء ملبداً في الرياض، كما هو لم تطله سوى أيدي التغيير الموحشة. يحتاج القارئ في"الإكليل"إلى نوع من التأني أو الحركة البطيئة للقصة النهائية، لتكتمل روعة الكشف والمفاجأة التي لا تفضي بحال من الأحوال إلا إلى أسئلة فلسفية وعميقة مثل: أين هم؟ كيف تلاشوا بهذه السرعة، مشابهة للتبخر ثم ماذا بعد؟ * كاتبة سعودية.