سيندفع الكثيرون للاسهاب في الحديث عن المكان في رواية "الشهبندر" لهاشم غرايبة دار الآداب بيروت 2004، وسيندفع آخرون للحديث عن التاريخ، طالما كانت الرواية تتناول مرحلة زمنية في تاريخ مدينة عمان! وما ينبغي لنا أن نشير اليه هو أن كل رواية لها علاقة بالتاريخ من قريب أو من بعيد، وأن كل رواية تنجدل بالضرورة بمكانها، وبالتالي سيكون علينا أن نحاول البحث عن مفاصل الربط بين التاريخانية والمكان من جهة، وبين البنية الروائية الكلية من جهة أخرى... أي أننا مطالبون بقراءة فنية لهذه الرواية، بعيداً عن تلمس ملامح المكان، وتفحص الأحداث والوقائع تاريخياً! ان كل ما يمكن قوله في السياق السابق، سيكون صحيحاً بطريقة أو بأخرى، ولكن ذلك كله أيضا هو ما تنطوي عليه الكتابات الموضوعية.. السجلات التاريخية والوثائق والبيانات السكانية والبحوث الفولكلورية وما شابه ذلك، فما الذي يميز هذا العمل اذاً؟ ما يميزه بالضرورة هو كونه عملاً روائياً، ولا ينبغي لأحد أن ينظر اليه من زاوية ثانية حتى لو كان هنالك ما يغري بذلك. وحين يكون العمل روائيا فان علينا البحث عن مفاتيح هذه الرواية... الغوص في أعماقها، ومحاولة الاقتراب من عالمها الشخصي اذا جاز التعبير. ويمتاز هذا العالم الروائي بثرائه النوعي.... بالنماذج الروائية، والوقائع، والعلاقات التي كثيراً ما تشبه العلاقات الموضوعية، ولكنها تفترق عنها من خلال السرد الذي هو العنصر الرئيس في البناء الروائي. وتبدأ الرواية مشيرة الى اقتراب الشهبندر محمد الجمال من الموت، ومع تواصل السرد نكتشف أنه مات قتلاً، ولكننا ما أن نكتشف ذلك حتى نكون ابتعدنا مسافة كبيرة جداً عن حكاية الرواية البوليسية، والانشغال في فك اللغز واكتشاف القاتل وما شابه ذلك. أي أن مقتل الشهبندر أو موته لا يُسرد علينا بوليسياً، ذلك أن الرواية معنية بهذا الموت باعتباره حجراً في البناء الكلي، وليس سراً من أسرار الرواية! وسواء قتل الشهبندر أم لم يقتل، فإن الرواية ستظل قائمة، والدليل هو أننا لسنا معنيين بالبحث عن قاتل ما، ولكننا في المقابل قد نكون معنيين بالبحث في أسباب موته، واكتشاف السياق الذي وقع فيه الموت! تتوزع الرواية على عدد من الدوائر المتداخلة، وهي دائرة العائلة، ودائرة السوق، ودائرة المهمشين، ودائرة الحكم. وثمة مدارات تدور حول هذه الدوائر، أبرزها لوليتا، والياس أفندي، وميرزا علي، الذين يلعبون دوراً ما في حياة الشهبندر أو أسرته! ولا يبدو لنا أن محمد الجمال الذي أصبح يعرف بالشهبندر، كان استثناء ما في سوق عمان، أي أنه كتاجر انما هو يشبه غيره من التجار الآخرين، حيث لكل منهم أسلوبه وطريقته ومنهجه، ولكن الاستثناء الحقيقي للشهبندر يتعين في علاقاته الانسانية، وبخاصة تلك التي لا ترتبط بالسوق التجارية... واذا كان هذا استثناء حقيقياً فلأنه نتيجة حتمية لرؤية الشهبندر للحياة وللواقع والناس، وبالتالي فليس غريباً أن تكون سلوكاته دائماً مفاجئة للغير، سواء ما تعلق منها بأسرته، أو بنفسه. وأثارت علاقته بلوليتا دهشة الآخرين، وأثارت ابنته سلمى زوبعة عاصفة حين قادت السيارة الدملر في شوارع عمان، ولم نصب بالدهشة حين يسأل الشهبندر ابنته سلمى عن أخبار ميرزا علي! محمد الجمال واحد من القلائل الذين كانوا يدركون أن المرحلة حبلى بالمتغيرات التاريخية، وأن عمان مقبلة على ما هو غير مألوف. وربما لعبت ثقافته دوراً في بلورة رؤيته المغايرة والنافذة... وعليه فهو ليس مجرد تاجر عادي في سوق السكر، وانما هو روح غريبة وجديدة في عمان، فرضتها المتغيرات والتطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية والديموغرافية في المدينة! وبهذا المعنى يمكن القول انه اذا كان المكان يسم الشخصيات في العمق، فإن الشخصيات أيضاً تسم المكان في العمق. فمحمد الجمال يؤسس لعلاقات جديدة ستشكل حجراً اجتماعياً وثقافياً في مدينة عمان المقبلة، وربما يكون بمشروعه هذا دفع ثمناً باهظاً، وهو حياته! كان الجمال قادراً على متابعة مشواره التجاري بنجاح، لكنه آثر العزلة بعد اتهامه بالتسبب في احراق متجر سليم الدقر، ولكنها عزلة أشبه ما تكون باستراحة للتزود بالمعرفة، وهنا يتعرف على الشيخ ابن عربي الذي يسهم في تعزيز رؤيته المتميزة للحياة. ويتحرك الشهبندر بين الدوائر الروائية، ويشكل الرابط الرئيس بينها، بما في ذلك دائرة المهمشين كعبدالله النوري ومحسن العتال وسالم والدومري.. ويبدو لنا بوضوح أنه يدرك جيداً ما يحدث حوله "كانت ولا تزال عمان واحدة من المدن التي كان ذكاؤها أثمن من البضائع وأنفذ من كل العطور... أشعر أن عمان اليوم تعيش عالماً ذا بريق مختلف: جاذب ومخيف، يحمل التغيرات المدهشة، وينطوي على الأفكار المقلقة، ويوقظ المخاوف الحبيسة عبر القرون". عن أي مخاوف يتحدث الشهبندر وهو ذاهب الى الموت؟ انه يتحدث عن ربة عمون التي وصلت حالها الى أن كبير التجار فيها كان راضياً عن قدرته على دفع ما يطلب منه، بينما الرخاء الحقيقي مزيف، وفقراء الناس موكلون الى ابتهالاتهم الدورية أمام "ايلاكا بعل"! اذاً، فقد كان الشهبندر يرى، وكانت رؤيته سر تفتق روحه عن شاعرية العلاقات التي ينسجها ويتحرك فيها.