تتسابق الشركات العالمية الصغرى قبل الكبرى للفوز بأكبر حصة ممكنة من أسواقنا، ويعود ذلك لضخامة حجم السوق والاستهلاك في مقابل قلة الإنتاج المحلي، هذا الاستهلاك شمل كل أنواع السلع الضروري منها والكمالي والترفيهي، وما لا طائل من ورائه إلا استنزاف جيب المستهلك ووقته! والمستهلك يقف أمام هذه السلع وكأنه أمام فسيفساء ثقافية متنافرة ممثلة لأرجاء العالم، فمعظم هذه السلع يعبر عن ثقافات وعادات وطقوس تلك الشعوب القادمة منها، وقد صنعت هذه المنتجات من الأساس لتلبي الحاجات الثقافية لتلك الشعوب، بغض النظر عما نحتاجه نحن وتفرضه تعاليمنا الدينية وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تصادم بين هذه السلع وبين واقعنا، وفي أحيان أخرى إلى التأثر بتلك الثقافات الدخيلة على نحو لا يطور شخصياتنا ولا يضيف لها، بل يلغي هويتها الأصلية، فالعولمة الاقتصادية زادت من توغلنا في العولمة الثقافية، حتى أصبحت ثقافتنا مرتهنة بتطور الحراك الاقتصادي. والمفترض أن حاجات المستهلك لا تخرج عن أطر معينة نابعة من النمط المعيشي للمستهلك المتوسط ووفق مستوى محيطه، في اعتماد على تقليص حجم الاستهلاك ليقتصر على ما هو ضروري ولا يتعدى المتوسط في استخدام الكماليات، مع ترك هامش بسيط لمستحدثات العصر التي لا بد منها... إلا أن حجم عرض السلع أوجد لدى جميع الشرائح المستهلكة رغبات خارجة عن النمط المعيشي المألوف لها الذي يفترض قيامه على البساطة وعدم الإغراق في الكماليات للحد الذي يضطرهم لوضع مجمل دخلهم في سبيل تلبيتها وتوفيرها، وبسبب الاعتماد غير المقنن على الشركات العالمية استطاعت أن تحقق نجاحاً كبيراً لخططها الإستراتيجية عبر استخدامها لنتائج أبحاث تستهدف دراسة أنماط الاستهلاك وسبل تغييرها بما يضمن تسويق منتجاتها، كاعتماد هذه الشركات في بداية دخولها للسوق على الشريحة القادرة من المستهلكين حتى يكون استخدام منتجاتها سمة لهم، ثم تكمل القبضة على بقية شرائح المستهلكين المتوسطة والأدنى من ذلك عبر تحوير المواصفات وخفض الجودة في مقابل خفض طفيف في الأسعار في بعض الأحيان وزيادة مضاعفة في المبيعات، وهو ما أدى لخلق حاجات جديدة لهذه الشرائح الجديدة. وهكذا أصبح مبدأ خلق الحاجات من أهم مبادئ التسويق التي يقوم عليها الترويج لهذه المنتجات، عبر التركيز على تغيير موقع الجانب الترفيهي والثانوي ليطغى على ما هو ضروري وأساسي في الحياة، وإيهام المستهلك بصحة هذا النمط المستحدث، وتكريس ذلك عبر مؤثرات إعلانية واجتماعية عدة تكرسها هذه الشركات، وأقرب مثال على ذلك الجوالات المدعمة بالكاميرا، فليست هناك علاقة منطقية للجمع بين المحادثة الهاتفية والتصوير، فالكاميرات المستقلة"المخصصة للتصوير"تقوم بعملها أفضل من المدمجة في الجوال، إلا أنهم أوجدوا لدى المستهلك الحاجة لامتلاك هذا النوع من الجوالات، على رغم قلة جودة هذه الكاميرات خصوصاً في بداية ظهور هذا النوع من الأجهزة، وأصبح من غير المقبول اجتماعياً أن يكون جهاز الجوال خالياً من الكاميرا، فهو في نظرهم إما دليل التخلف أو التزمت أو ضعف الإمكانات المادية، وعلى من لا يرضون هذه التصنيفات أن ينصاعوا لرغبات لا تمثل ما يحتاجون على الحقيقة! ومن الأساليب الأساسية التي اعتمدت عليها هذه الشركات في الترويج لمنتجاتها، ربط التأخر والتخلف الاجتماعي بالسلع الوطنية والقديمة وكل السلع المنافسة، ومحاولة إقناع جمهور المستهلكين بأن رفع مستوى الاستهلاك هو الطريق للتقدم الاجتماعي والتمدن والوجاهة والقبول لدى الآخرين، ويكون ذلك عبر رفع الأسعار بالمقارنة مع السلع المماثلة والمحلية، على رغم أنها قد تكون أقل كلفة منها، ولكن تحرص على إبقاء أسعارها على سقف معين بحيث تبقى القناعة مترسخة بأنها سلع للنخبة فقط ويكون التهافت من شرائح المستهلكين الأخرى على اقتنائها، وبذلك يكون قد تم الربط بين منتجات هذه الشركات وبين رقي وعلو المكانة الاجتماعية! أما أسلوب الدعاية والإعلان فقد استخدمته هذه الشركات بطرق تستدرج المستهلك إلى هذا الوحل الاستهلاكي، فليس الهدف من الإعلان الإخبار عن وجود المنتج الجديد وإنما إيهام المستهلك بمعانٍ غير موجودة في السلعة، وتكرار رسالة أن عدم الحصول على هذا المنتج سيؤدي إلى عدم إحساسه بالأمان والجاذبية والقبول الاجتماعي والنجاح حتى لو كان هذا المنتج مشروباً غازياً أو شامبو شعر، فيظل المستهلك في حال من وهم الشعور بالنقص وعدم الاستقرار واللهاث حتى يحصل على مطلبه وهو الاحتياج النفسي الذي توفره هذه السلعة، إضافة إلى استخدام طرق تتنافى أحياناً والأخلاق المهنية والاجتماعية عبر الاستخفاف بالمنتج المحلي والمنافس والربط بين استهلاكه وبين التخلف الاجتماعي! كذلك اعتماد إعلاناتهم على أساليب غير أخلاقية عبر الإيحاءات التي تخاطب الغرائز والكلمات النابية، والأسوأ عندما تقدم هذه المواد الإعلانية السيئة خلال البرامج التي يتابعها الأطفال لما فيه من مصادمة لبراءتهم وتحريضهم على التمرد على واقعهم، فأقل ما يقال عن هذه الإعلانات أنها مسفهة للعقل والخلق لارتكازها على ما يتعارض والقيم الرصينة ويشجع الأنماط الطارئة على شخصيتنا ويمسخ ثقافتنا. وهكذا نجد أن هذه الشركات لا تزال توهمنا بحاجات غير حاجاتنا، وهي بذلك تُملي علينا النمط المعيشي والاستهلاكي الذي يحقق لها الربح ويحقق لنا خسارة نمونا الاقتصادي عبر الإيغال في حمى الاستهلاك والتباري فيها، وتباعد بيننا وبين النمط المعيشي الأصلي المتوائم مع ثقافتنا وطابعنا الروحي والفكري القائم على البساطة ونبذ المظاهر المادية. وإزاء هذا الوضع تتحمل الشركات المحلية جزءاً من مسؤولية رفع حمى الاستهلاك وتعزيز الثقة في المنتج الوطني عبر تحسين وتطوير هذا المنتج، إضافة إلى التوعية الاجتماعية بأهمية العودة لثقافة البساطة والاقتصار على الضروريات، واعتبار ذلك معيار التفاضل الاجتماعي وليس التطاول في اقتناء كل ما هو أجنبي ومستورد ، واللجوء له في ما هو ضروري أو غير موجود محلياً، وترك كل المنتجات التي لا طائل من ورائها. وهذا كفيل بأن يعالج كثيراً من شكاوى عدم كفاية الدخل الشخصي وعدم تناسبه مع حجم المصروفات، ما سيضفي بعض التوازن على موازنات هذه الأسر، وعلى مستوى أعم سيوقف استنزاف هذه الشركات لأموالنا وعقولنا، وتسخير هذه الإمكانات بما يعود بالنفع على اقتصادنا الوطني وتشجيع العودة للمنتجات المحلية بعد طول الجفاء. [email protected]