مسكين هو هذا المواطن العربي، بسيط حد التقشف، تعيس حد الألم، محبط حد اليأس، تائه وسط جغرافية ممزقة، على رغم شتى المحاولات التي يقوم بها الساسة لتجميل قبحها ولملمة بعثرتها، مسكين هذا المواطن الذي يحلم ببساطة، ويحزن ببساطة، ويفرح أيضاً ببساطة، أثبت بفرحه الطفولي النقي الصافي في الرياض والقاهرة والكويت والخرطوم والرباط وغيرها من عواصمه، أنه أبسط مما يتوقعه أي سياسي، وأنقى من أي صورة سوداء حملته ما لا يطيق، في لحظة انتصار كروي مصري عربي، التم شمله، وضاعت حدوده، وحضرت قلوبه ومشاعره، فرح جميع العرب وفي داخل كل منهم غصة ودمعة تقف فوق أعتاب عيونهم، على وضع أشقائهم في لبنان وفي العراق وفي السودان، وكأن لسان حال الجميع يوجه رسالة إلى بعض رجال السياسة محترفي الكلام، الذين أرهقوه وهماً أن القضايا ثقيلة والإرث يمزق ولا يوحد، والجغرافية ليست متشابهة. إن الإخوة في قلوب العرب أكثر منها في أي أغنية أو شعار أو مسلسل، لقد أرهق هذا المواطن البسيط بإقليمية تبدو في ظاهرها منسلخة من أي انتماء عام، لكنها في الحقيقة موحدة، ونجح المصريون وفعلوها بجدارة، بأن شقوا عن قلوبنا ليكشفوا كم أننا بسطاء، وكم أننا قادرون وفي لحظات معينة أن نتوحد ونتناسى إحباطنا ووضعنا وظروفنا، لقد فرح بفوز المصريين المواطن اللبناني المثقل بهمومه وصراعاته، وفرح به المواطن نفسه المحاصر والمهدد في غزة، وانتشى له العراقي الذي لم يخشَ أن يغتال فرحه رصاصة مغموسة بأجندات شيطانية، ورقص له المواطن السوداني الذي كان قبل أيام يتحداه ويسعى لهزيمته فوق المستطيل الأخضر، موظفاً عبارات ومانشيتات نارية على لسان مدربه الشهير"مازدا"، وفجأة نسي هذا المواطن أنه خرج من البطولة خالي الوفاض ليشعر في قرارة نفسه، وبشكل لا إرادي، أن فوز المصري هو فوز للسوداني وفوز لكل العرب. لقد أخذ المصريون بثأر لاعبي الأشقاء في تونس وفي المغرب، ليتحد الجميع وراء هذا النصر، متناسين كل ماهم فيه، ومتناسين حال الإحباط العامة التي يمر بها الشارع العربي، فتهب العواصم العربية جميعها بتناسق فطري غريب، لتعيش فرحة هذا الفوز وهذا الانتصار، ويتبادل العرب المتوجدون في عواصم أوروبية أو في استراليا أو أميركا، كما نقلت الفضائيات التهاني، مغيبين تماماً كون أن من حقق هذا النصر مصرياً أو سعودياً أو مغربياً، المهم أن العرب قد انتصروا واحتفل الجميع بهذا الانتصار. إن مباراة"مصر والكاميرون"الأخيرة تعدت تأثيرها في أن تكون مجرد فعالية رياضية، فعلى رغم أن كثيراً من الفرق العربية قدمت فوزاً ربما أكبر من هذا الفوز، وكثير من المنتخبات العربية حصدت بطولات لا تقل أهمية عن كأس الأمم الأفريقية، لكن للفوز المصري الأخير طابعاً ونكهة غريبة ومميزة، تختلف عن أي فوز آخر، فوز تسابق إليه زعماء ورؤساء كثير من الدول العربية الذين تفاعلوا معه، شأنهم في ذلك شأن رجل الشارع البسيط العادي، فوز دفع الجميع إلى احتوائه والحفاظ عليه ورعايته ودعمه لضمان استمراره، تسابق الجميع للإعلان عن فرحه في حال توحد مدهشة تؤجج العاطفة وتثيرها. آهٍ... أيها المصريون، لقد فعلتموها وأعلنتم صراحة أننا كعرب أقوياء مهما فرقتنا الظروف، وكشفتم بانتصاركم، الذي هو انتصار لنا جميعاً، أننا كعرب يمكن أن نفرح لأبسط الأشياء، وأن قلوبنا مشرعة للانتشاء بأي انتصار عربي، مهما كان مكانه، ومهما كان فاعله، بعيداً عن كونه خليجياً أو مغربياً أو سودانياً، المهم أننا بالفعل نريد أن نصحوا من موجة الإحباط العام السائدة في طول شارعنا العربي الممتد من بغداد حتى الرباط، نريد أن نتجاوز هذه الانكسارات والانتكاسات، نريد الانتصار لأنفسنا ولأوطاننا من أي سوداوية مغرقة أو... تشاؤمية مفرطة... حلم بسيط، على رغم أن البعض يُصر على تضخيمه وتهويله وتزييفه. [email protected]