ما زالت مفردة"الاختلاط"محور جدل في السعودية كلما خبت جذوته، أثير نقعه من جديد، إن بالتسامح فيه أو التشديد. فبينما تناوبت القرارات الإدارية على إحياء الضجة كان للفتاوى من جانبها نصيب المقاومة بالنفخ في بوق المفردة وترجيع الصدى. إلا أن طواف الرجال والنساء معاً حول"الكعبة"المشرفة، إلى جانب مشاركة النساء في الغزو في عصر النبوة الأول، ظلا حجة الذين لا يرون"الاختلاط"مصطلحاً شرعياً يجب التحذير منه. لكن اللافت أن الخلاف الذي أخذ طابعاً فقهياً، لا يدور بين فريقين يختصان جميعاً في الشريعة، وإنما بين فقهاء يرون في اقتراب النساء من الرجال مفسدة مفضية إلى الفساد الأخلاقي، وكُتاب يعتبرون الفقهاء بالغوا في سد الذرائع. وهنا يدخل"الطواف"محوراً في الجدل، على اعتباره واقعاً لا يحتاج إثباته إلى دراية شرعية واسعة. غير أن مؤسسة الإفتاء التي تناصر النهي عن"الاختلاط"، انتهى باحثوها إلى أن قياس جواز الاختلاط على الطواف بالبيت" قياس مع الفارق، فإن النساء كن يطفن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من وراء الرجال متسترات، لا يداخلنهم ولا يختلطن بهم"! مذهب جديد في الاختلاط لكن فريقاً فقهياً جديداً، حاول"التقريب"، رفض خلع الحل أو الحرمة على كل اختلاط! بل اختار التفصيل، واعتبر هناك من المصطلح ما هو مباح، ومنه المحرم جزماً. أستاذ السنة في جامعة أم القرى، عضو مجلس الشورى الدكتور حاتم الشريف، الذي يستند إلى ركن من التخصص متين، أحد من أصّلوا لفكرة التقريب. وقال:"وجدتُ بعضَ الناس في الاختلاط بين طرفي نقيض، وقليلٌ منهم من توسّط. فمن الناس من أباح الاختلاط بكل صُوَرِه، أو بعامتها، حتى تلك الصور التي ما يشك عاقلٌ أنها أولى بالتحريم من الخضوع بالقول وإظهار صوت الخلخال"لأنها أقوى منهما في تيسير الوقوع في الفاحشة. بل ربما تجاوز في ذلك حتى أباح ما جاء النص بتحريمه من صُور الاختلاط، كالخلوة بالمرأة الأجنبية، التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ"إلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ"[متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم:"لاَ يَخْلُوَنَّ أحدكم بِامْرَأَةٍ"فإن الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا". ومن الناس من أفرط في جانب منع الاختلاط، حتى منع أو حرّم ما أباح الله تعالى: مثل أن تخرج المرأة إلى حاجتها في سوق لبيع أو شراء، أو نحوه من حاجاتها، ولو كانت متحجّبة محتشمة. حتى ربما تجاوز بعضهم في ذلك فمنعها مما جاء النص يمنع من منعهن إياه، كالخروج إلى المسجد للعبادة. وأضاف: إذْن النبي صلى الله عليه وسلم للنساء بالخروج إلى المساجد وفيها رجال وهو المسمى بالاختلاط، يبين أن الاختلاط ليس كله مباحاً ولا كله بالمحرّم، فلا يصح منع كل صوره"لأنه يخالف ما عرفناه يقينًا من حياة الصحابيات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من حضور المجامع العظيمة في المساجد وغيرها، ومن خروجهن إلى حاجاتهن من بيوتهن ومرورهن بالأماكن التي فيها رجال. كما لا يصح إباحته كله"لأن بعض صور الاختلاط تتعارض مع النصوص كالخلوة، وبعضها الآخر مفسدته أوضح من بعض ما جاءت النصوص بتحريمه، مما سبق ذكر أمثلة له: كالخضوع بالقول، والضرب بالأرجل ليظهر صوت الخلاخيل. خلاصة فقه باب الاختلاط ومع أن الشريف ناصر القول إن واقع"الطواف"حالياً، لا يصلح أن يكون دليلاً على جواز الصنف المحرم من الاختلاط، إلا أنه خلص إلى ما اعتبره ضابطاً يمنع الإفراط أو التفريط ويلخص"فقه الباب"، وقال:"الذي أستطيع أن أضبط به ما يجوز مما لا يجوز من الاختلاط، هو أن الاختلاط المحرّم مرجعه إلى ثلاث صور: الأولى: الذي يمسُّ فيه جسدُ المرأة جسدَ الرجل"إذ لا يشك عاقل أن المس أشد فتنة من مجرّد سماع صوت الخلخال. بل هو أقوى ذريعة إلى الفاحشة من أكثر الذرائع التي حرّمتها النصوص صراحة، كالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من المرأة. ودلّ على حكم هذه الصورة بوضوح حديثا المسجد والطواف، بما حرص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على عدم تزاحم الرجال والنساء. فالاختلاط الذي يحصل فيه نوع مسٍّ والتصاقٍ لجسد الجنسين ببعضهما محرّمٌ. الثانية: الاختلاط الذي يحقّق الخلوة بين المرأة والرجل، ولو أحياناً. لوضوح النصوص في تحريمه، وإطلاقها من دون تقييد الخلوة بالطول أو القصر، كما سبق. الثالثة: دوامُ مُكْثِ الرجل مع المرأة الأجنبية في مكانٍ واحد، ولو لم تتحقّق الخلوة، مثل مكاتب الموظفين في دوامها المستمرّ يوميًّا"إذ لا يشك عاقل أن خلوة المرأة مع الرجل خمس دقائق أو ربع ساعة وهو محرّم ليس أخطر عليهما من ذلك المكث الطويل المستمر، وما يسهّله هذا الاجتماعُ المستمر من تبادل الحديث بينهما، وما يحققه من الغفلة عن التحفّظ من أسباب الوقوع في شراك الفتنة، وما يؤدي إليه من توسيع مداخل الشيطان بينهما. لا يشك عاقلٌ منصف مبتغٍ للحق في أن هذا اللقاء الدائم أخطر من خلوة قصيرة، ومن تزاحم لحظة على باب مسجد أو خلال الطواف بالبيت، ومن خضوع بالقول مرّة، ومن قرقعة صوت الخلخال في طريق من طرق المسلمين! هذا إن كان الاختلاط لم تصاحبه مخالفاتٌ شرعيةٌ أخرى، كتخفّفٍ من القدر الواجب من الحجاب، أو خضوع بالقول، أو تكسّرٍ في المشي، ونحو ذلك من المحرمات المنصوص عليها.