يعنّ بين وقت وآخر للمتأمل، التفكر في واقع الشعوب العربية، لكي يجد نفسه محاطاً بتساؤلات كبيرة تنهال عليه حول ما آل إليه وضع هذه الشعوب، من آلام قوّضت الآمال، حتى في وحدة الكلام، ناهيك عن وحدة الاعلام، ويجد أن معظم الشعوب العربية، بعد أن كانت مشغولة بالحديث عن وحدة الصف والموقف والكلمة، صارت فريسة للثلاثي الخطير: الجهل، والمرض والفقر... وبعد أن كانت منابر الحرية تملأ المكان، اعتزازاً بالانتماء إلى العرق العربي، صار هذا العربي يتوارى عن الظهور مؤثِراً الصمت، حتى لا يقوده لسانه أو قدماه إلى المعتقلات التي حلت محل المنابر. بيد أن هذا الواقع يختلف من بلد عربي إلى آخر، تبعاً لاستقرار الحكم ونوعه، عسكرياً كان أم مدنياً، عادلاً أم مستبداًُ، والمتأمل في تاريخ الثورات العسكرية والانقلابات على الحكام الشرعيين والدستوريين، سوف يندهش حينما يجد أن أكثر البلدان العربية تخلفاً وتأخراً واستبداداً في الحكم، هي تلك التي ابتليت بالانقلابات والثورات العسكرية، فنصف الدول العربية قامت فيها انقلابات، ابتداء من مصر، ومروراً بالعراق وليبيا واليمن والسودان وتونسوالجزائروالصومال، وانتهاء بموريتانيا، ذلك البلد الذي كنا نظنه وادعاً، مشغولاً بإطعام الجياع من أبنائه، وهم الغالبية، وإذ بقادته العسكريين يكشفون عن نوايا يغلفها الإصلاح، ويبطنها الطمع والاستبداد، وهم يعلمون يقيناً أن موارد البلد المالية لا تكاد تكفي للإنفاق على من يحرسون الثغور، فكيف بها في مواجهة الإنفاق على من يتحصنون داخل القصور! وكل واحد منهم يأتي بوعد إصلاح الشأن، ثم يترك المكان، لكن لم يصدق منهم أحد، سوى طيب الذكر الضابط المسمى"أعلي ولد محمد فال"الذي انسحب بهدوء من الحياة السياسية وآثر البقاء في منزله، بعد تسليمه السلطة لرئيس منتخب، وليته لم ينسحب، فقد كان على الأقل زاهداً وليس طامعاً... وأذكر بالمناسبة أنني كتبت مقالة بعنوان:"هل تعد التجربة الموريتانية إشراقة أمل في زمن رديء؟"الاقتصادية 21-3-1428ه، بيد أنني أعترف الآن بأنني كنت أحلم، لأن واقع الأيام بدّد حلم المنام. ولنتحدث بالدليل عن البقية: أولاً: مصر الثورة، التي لم يبق شاب عربي لم يتعاطف مع أهداف ثورتها، ويسهر إلى الصباح مع المذياع متلقطاً أخبارها، ومع تقديرنا لكل أخ مواطن مصري، عالماً ومعلماً وعاملاً، استفدنا منه، إلا أن حال اليوم ليست بأحسن من حال الأمس، فهذا البلد الذي أنعم الله عليه بالثروات المائية والأرضية والبشرية، واحتل موقع القلب من الدول العربية، لم يحسن استثمار هذه الثروات والاستفادة منها، وربما كان لشعارات الثورة ما أذهب الثروة! بعد أن كان البلد الوحيد الذي تغسل فيه الشوارع ليلياً... والغريب أن هذه الثورة التي كانت تحمل آمال الشعوب العربية في استرجاع فلسطين، وكان شعبها أكثر من ضحّى في سبيل ذلك، تكون هي أول المنادين والمبادرين إلى الصلح مع من سلبها؟ والأغرب أن دعوى تبرير الصلح بالعودة إلى التنمية الاقتصادية، قد سقطت، ولم يظهر من آثارها شيء. ثانياً: العراق، ولن أتكلم عنه كثيراً، فالشواهد فيها الكثير من الفوائد، والثورات المجنونة هي من قاده إلى وضعه المؤلم ومصيره المجهول، وبعد أن كان هذا البلد يسمى"أرض السواد"لكثرة خيراته، صار الناس يموتون فيه جوعاً وخوفاً وفتكاً، وانطبق عليه قول الشاعر: وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم فعبدالكريم قاسم، بطش بالأطفال والنساء العفيفات قبل الرجال، فابتلاه الله بمن هو أظلم منه، وهو صدام، الذي عثا بعيداً عن مخافة الله، فابتلاه الله بأكبر قوة ظالمة بطشت به في يوم عيد، وهي أميركا، التي ابتلاها الله هي الأخرى بالوحل الذي غاصت فيه قدماها، إلى أن أصابها الوهن من كثرة محاولات انتزاعها، وربما تدب فيها"الغرغرينا"قبل ذلك... أليست البداية ما نشاهده اليوم من كوارث اقتصادية؟ ثالثاً: ليبيا العظمى، وأمرها غريب، بلد يعد في مصاف الدول الغنية، للثروة النفطية التي تملكها، ويستفيد منها غيرها في صورة ديات وتعويضات، وهي تبدو كالشخص البخيل الذي لا تظهر عليه آثار النعمة، فضلاً عن أن سلوكه المتصف بحشر أنفه في شؤون غيره، والادعاء بأنه سيأتي ما لم تستطعه الأوائل، أبقاه في عزلة وصار الكل يرتاب فيه ومنه. رابعاً: اليمن، على رغم استقرار عهده في زمن آخر الثوار، فإن الحالة الاقتصادية لم تعرف الاستقرار يوماً، وهي ما يدفع أبناءه إلى الهرب ولو عبر متاهات الجبال المهلكة، سعياً وراء لقمة العيش، ولم يفلح وضعه الجغرافي وطقسه المميز، الممطر بالخيرات في إغراء أبنائه بالبقاء. خامساً: السودان، وحاله تبعث على الشفقة والرثاء، انقلابات تلي انقلابات، وكلٌّ يدعي أنه هو المنقذ، وإذ بالمنقذ يحتاج إلى من ينقذ الناس منه، أما الكفاءات واليد العاملة فقد تركتا السودان، ومن بقي فيه يبيتون على الطوى، ويقتلهم الجوع، قبل السلاح، في دارفور وبعض الأقاليم. هذا والنيل يتمختر في البلد بخيراته، ولا يجد من يستفيد منه لإطعام الناس، ناهيك عن سلة الغذاء التي وصف بها في يوم من الأيام، وبقيت فارغة، أما الدِّين"بكسر الدال"فقد استخدم مطيةً للتطويع والتخدير، على رغم أن السودانيين لم يبتعدوا عن الدِّين طوال عهودهم، ومع ذلك فإن هذا لم يشفع للنميري بالبقاء في السلطة، والإخوة السودانيون من أكثر الشعوب العربية مسالَمةً وحباً لغيرهم، ومع ذلك فإن هذه الصفة قد حبت عليهم بالاستسلام لثورات دفعوا هم ثمنها. سادساً: الجزائر، وأمره غريب هو الآخر، فقد عزلته الانقلابات عزلة تامة عن أقرب المقربين إليه من جيرانه وأشقائه، وعلى رغم ما حباه الله به من نعمة النفط، وخيرات الموقع، واعتدال الطقس، فما يزال الناس فيه منشغلين عن البناء بالاقتتال الذي ليس في أسبابه للإسلام بصلة. سابعاً: أما تونس فيكفي عند الحديث عنها ما فعلته هيئات حقوق الإنسان ومنظماتها كل يوم، من حجر على منظمات المجتمع المدني. ثامناً: وأما الصومال فيكفيه أن أهله، وكل من يشفق عليه، يترحمون على عهود"سياد بري"رغم ما كان فيه. ماذا أقول بعد؟ هل يكفي التذكير بأن العسكر بعد سيطرتهم على الأوضاع والانفراد بالسلطة لفترات غير محددة، وضمان توريث السلطة لأبنائهم قبل وصولهم إلى القبر، أم أكتفي بالقول أن أحسن الشعوب العربية حالاً هي تلك التي لم تُبتلى بالانقلابات، تأملوا وسترون. * كاتب سعودي في الشأن العام.