ثمة مَثَلٌ سوداني يقول «مَرْمِي الله ما بِتْرَفِعْ»، أي أن من حكم الله عليه بالفشل لن ينجح في شيء قط. ويبدو أن تلك هي حالنا في بلاد السودان، شعباً وحكماً ومعارضة. وقطعاً هي حالنا في شتّى المَهَاجر والمغتَرَبات. ومما يؤسف منه أنه لم يعد ثمة أفق يلوح منه أي أمل بإمكان إصلاح الحال، فهي مائلة من أي زاوية نظرت إليها. - الحكومة: بعد 23 عاماً من السلطة والاستئثار بالثروة وتسييس الدين، لم تعد حكومة المحفل المتأسلم برئاسة عمر البشير تشعر بأيتما حاجة إلى استعدال حالها. فقد فشلت الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا في خنقها وإطاحتها، وتدخلت روسيا والصين لحمايتها بوجه المآخذ الغربية، وأخفق خصومها الداخليون في إزاحتها، حتى صارت تظن أن ذلك هو التجسيد الحقيقي للآية الكريمة (تُؤْتِي المُلكَ من تَشَاءُ وتَنْزِعُ المُلكَ ممَّن تَشَاء). هذا المزيج المدمَّر من «الدروشة» و«الاستهبال» وخداع النفس، جعل الحكومة تفتح كل أبواب الفساد، وإزهاق الأرواح بالباطل، ونهب المال العام، وإطلاق يد ولاتها وعمالها لفرض ما يشاؤون من ضرائب ورسوم. وتزيد حكومة بلادنا تضخماً ذاتياً وتتوسع في «الدروشة» وهي ترى إخفاق محاولات المعارضة المسلحة في الانقلاب عليها، وهو إخفاق نجم عن أخطاء في خطط المهاجمين، وليس لأنه إرادة إلهية حكمت باستخلاف هذه الفئة الباغية القاتلة السارقة على أرض السودان إلى الأبد. لكنها لا تتورع عن تجيير تلك الإخفاقات لمصلحة هالة القداسة التي ترسمها أصلاً لنفسها في أذهان البسطاء والمتدينين. ويشعر المراقب أحياناً بأن الحكومة ربما وصلت إلى اقتناع ضال بأنها كلما زادت أفعالها الآثمة الشريرة، وعاثت في رعاياها قتلاً ونهباً وغصباً وإهمالاً، أمهلها الله وقتاً أطول ولا يبتليها كما يُبْتَلى المؤمنون بالمحن والعقبات والاختبارات. وفي النهاية لم تعد حكومة محفل المتأسلمين تتسم بالصفات التي يتسم بها عامة البشر من رعاياها، كالخجل والاستحياء والخوف والتدبّر، بل إن همّ أقطابها هو «التكويش» على كل مغنم ومكسب محرَّم، والسيطرة على كل المناصب الوزارية والتنفيذية لضمان إبقاء «حنفية» الاستحواذ والاستئثار مفتوحة بلا انقطاع. - المعارضة: أي معارضة هي التي يجدر بها أن توصف بأنها «مرميَّة الله» التي لا يمكن استنهاضها؟ هناك معارضتان في السودان. الأولى هي المعارضة الحزبية ممثلة بسيدي حزبيها الكبيرين الصادق المهدي ومحمد الميرغني، وهي على رغم أدوارها في الماضي، وعظمة رجالاتها الراحلين، لم تعد تحظى بأي قدر من «الكاريزما»، بعدما حوّلها سيداها إلى «دكاكين» للمكاسب، و«سبّوبة» لتمويل كل منهما، ولم تعد تمانع في مخاواة أي نظام عسكري يختطف أقدار البلاد، ما دام سيعوضها عن الأملاك المصادرة، وسيوفر التمويل لتنفيذ البرامج المتفق عليها في الخفاء والعلن. ولم يعد ثمة سوداني يرتجي منها أملاً في قيادة البلاد إلى بر الأمان. وأضحى كثيرون يغالون فيما هوّنها بالنظام المتأسلم نفسه، طمعاً وتهافتاً على المال والمناصب، وسكوتاً عن الحق، ومداراة للحاكم الجائر. أما المعارضة الثانية فهي الغالبية الصامتة التي تذرع شوارع حاضرات البلاد ونجوعها بلا هدف ولا أمل في خلاص ناجع. وقد يحار كثيرون، بل يغتاظون من صمتها، وقلة حيلتها، وسلبيتها. بيد أنها جاهزة للتحرك ضد النظام والمعارضة الجشعة، بانتظار قادة من ثنايا صفوفها يبادرون بشق الصمت والانتظار والخوف، وتولي قيادة الحشود، وتأطير فكر «الاتجاه الثالث» أو الطريق الذي لا يتوقف في محطة العسكر، ولا يتغشى أحياء المعارضة الحزبية. هؤلاء هم القابضون على جمر القضية، الذين تغص حلوقهم بعلقم ممارسات النظام وبطشه وتخذيل المعارضة الحزبية التقليدية. لا يستطيع أحد أن ينحي عليهم بلائمة الصمت والانتظار، مهما تطاول غيظه وغلا غضبه. ولا نملك شيئاً سوى حضهم على تنظيم صفوف الثورة الآتية لا ريب، والتعجيل بمغادرة محطة التأمل والتريث، إذ إن السودان لن يكون أسوأ مما هو فيه، وإن التشظي آتٍ بقيت حكومة الإنقاذ أم أُرغمت على الذهاب. - الشعب: الضلع الثالث في معادلة المحنة السودانية. وهو كتلة لا يعرف أحد حجمها ولا قدراتها، ولا يستطيع كائن التكهّن بما يمكنها أن تُقدم عليه. لكن هذه الكتلة مستكينة حالياً منذ عام 1986. ووقع انقلاب عمر البشير في 1989 وهي تتفرج. ومارس النظام أخطاءً من كل صنف ولون بحقها، وتحت دثار الدين المسيّس، ولم تحرك ساكناً. وانتفخ النظام إلى درجة فتح جبهات للحرب في كل أصقاع البلاد، وهي لم تحرك ساكناً. حتى ليظنّ المراقب أنه لم يعد ثمة جرحٌ يمكن أن يؤلمها مهما أدماها، ومهما تسبَّب في بتر أطرافها. -إنها من دون شك كتلة محيَّرة. ولعلّ الأكثر إثارة للحيْرة التساؤل عن موعد استفاقتها من سباتها العميق، وكيفية، إقدامها على التغيير لإصلاح ما لحق بها من خراب ودمار على مدى العقدين الماضيين. يصحُّ القول في كلَّ حال إنّ الحكومة والمعارضة والشعب لم يعودوا يأبهون لما ينبغي أن يكون عليه إصلاح الحال، ولا لكيفية تحقق ذلك. الحكومة لا يهمها أن تواصل نهج «التكويش» حتى لو تشظت البلاد، ولم يبقَ منها سوى القصر الذي يحمي أشرارها الخمسة. والمعارضة لا يهمها إن جاء التغيير على جثة الوطن وجماجم بنيه. والشعب لم يعد مهتماً بما إن كان التغيير سيكون على حساب الوطن أم المستقبل. فهو منقسم تماماً بسبب دعوات فئات منه إلى بقاء السيئين لئلا يأتي من هم أسوأ منهم. ودعوات فئات أخرى إلى أنه مهما حدث فلن يكون الآتي أسوأ ممن يحكمون الوطن الآن. أما أبناء السودان المغتربون والمشردون فهم منشغلون بحياتهم في مهاجرهم، بين دُور اقتنوها، وأسر أقاموها، ووظائف تستغرقهم، والتزامات فردية وجماعية تكبَّلهم، واستحكم فيهم إيثار النفس، والنفور من التضحية، وانتقلت معهم خلافاتهم الحزبية والعرقية، واستعلاءاتهم الاجتماعية والعنصرية. ولم يعد يُرْجى منهم دور. هكذا ينطبق المثل على السودان وبنيه: «مَرْمِي الله ما بِتْرَفِعْ»، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]