سألني عدد من الاخوة السودانيين وبينهم وزير سابق وزعيم معارض عن "سرّ" توقفي عن الكتابة عن السودان وشؤونه وشجونه منذ فترة طويلة، وأجبت بكل بساطة وصراحة: لا سرّ ولا من "يسرّون" بل مجرد ملل من تكرار نفس الآراء والمعلومات والتحليلات نفسها، بعد ان وصلت الحال الى ما وصلت اليه من تردٍ وتخبّط وضياع وهدر لطاقات هذا البلد العربي العريق وتهجير لثرواته البشرية والمالية او تهميشها وتركها في قوقعة الانتظار الطويل. فماذا يقول الانسان العادي او الكاتب او المراقب والمتابع لأخبار السودان بعد عشر سنوات من انقلاب عسكري لا مبرر له على حكم ديموقراطي كان لا يزال يحبو ويتلمس طريقه نحو بناء المؤسسات وحل مشاكل التركة الثقيلة التي خلفها حكم عسكري آخر بقيادة جعفر نميري وأوصل السودان الى عنق زجاجة المأزق الكبير. وماذا نقول عن ثورة حملت اسم الانقاذ من ماذا؟ فتخبّطت واتخذت مواقف وقرارات سرعان ما جمّدتها وسارت على نهج يتناقض معها ويخالف شعاراتها ويمارس نقيضها على مختلف الاصعدة فصارت "ثورة الانقاذ" بعد عشر سنوات بحاجة الى ثورة انقاذ من نفسها قبل ان تكون من الآخرين وبينهم "جحافل" المعارضات السودانية المتشرذمة. منذ اكثر من 30 سنة وانا اتابع احداث السودان والتقي قادتها في الحكم والمعارضة من العهد الديموقراطي ورموزه ولا سيما الزعيم الراحل محمد احمد محجوب حتى الرئيس جعفر نميري والفريق عبدالرحمن سوار الذهب وصولاً الى السيد الصادق المهدي زعيم الانصار وحزب الامة والسيد محمد عثمان الميرغني زعيم الختمية والحزب الاتحادي الديموقراطي وشقيقه الرئيس السابق احمد علي الميرغني والدكتور حسن الترابي منظر العهد الانقاذي وعرّابه وزعيم الجبهة القومية الاسلامية وعشرات غيرهم من مختلف الاتجاهات. وبكل اسف استطيع القول ان موضوع السودان لم يعد يستهوي احداً بسبب استمرار الدوامة التي يعيشها وتكرار حكاياها واحداثها يومياً بشكل ممل لم يعد فيه اي عامل من عوامل الاثارة على رغم الاعتراف بما لهذا البلد من مكانة خاصة في قلب كل عربي بوصفه الجسر الذي يربط العرب بالأفارقة والاسلام بالاديان الاخرى، والدرع الذي تتكسر على جنباته موجات الحملات المعادية والمؤامرات التي تستهدف عرب افريقيا وتغذيها اسرائيل والصهيونية العالمية والقوى الاستعمارية القديمة والحديثة. ولكن ماذا بعد 30 عاماً من التخبّط والمؤامرات والانقلابات والشعارات الفارغة والصراع المؤسف بين الاحزاب والتناحر بين الطوائف والشكوى من تمييز عرقي في بلد فيه مئات الطوائف والاعراق والقبائل واللهجات واللغات المحلية لا سيما في الجنوب حيث يتوزع السكان بين الاسلام والمسيحية والوثنية وتتحدث كل قبيلة، بل كل قرية بلهجتها الخاصة ولا تتفاهم مع بعضها بعضاً الا باللغة العربية الدارجة او العامية و"المكسّرة" اي ان لغة القرآن الكريم هي التي تجمع ولا تفرّق وتصون ولا تبدد بين الأعراق والأديان على عكس ما يدّعي المغرضون والمحرضون، وان الاسلام هو الدين المنقذ ليس لوحدة السودان فحسب بل لشعب السودان ايضاً بمختلف اديانه وطوائفه وقبائله واعراقه وإلا فإن الحروب ستظل مشتعلة الى أبد الأبدية والفتن ستبقى "مستيقظة" بلا توقف ومعها الخراب والدمار والمجاعة والفقر والبؤس والتشرد والضياع؟ وماذا بعد عشر سنوات من حكم الانقاذ الذي جاء حاملاً شعار تطبيق الشريعة الاسلامية فاذا به يسهم في اشعار نار فتنة الجنوب من جديد بعد ان كادت الحكومة الديموقراطية تجد حلاً جذرياً لها باعداد اتفاق سلام ينهي مآسي الحرب ويبعد شبح الانفصال ويقطع الطريق على ايادي السوء وألسنة السوء وقوى التحريض الصهيونية والاستعمارية؟ الاسلام دين السماحة واليسر والكلمة الطيبة والمحبة والسلام ولم يفرض نفسه بالسيف حتى في ايام الفتوحات بل بالدعوة والتسامح والاقناع واعطاء القدوة الحسنة وتطبيق مبادئ الشورى والعدالة والمساواة وحقوق الانسان. وكم من شعب في آسيا وفي افريقيا آمن بالاسلام وافتخر بالانتماء اليه بفضل قدوة حسنة من رجل مسلم او كلمة طيبة من الدعاة والتجار والمهاجرين الذين جابوا ارجاء العالم. وبعد عشر سنوات من عهد "الانقاذ" تغيّرت الاحوال وانقلبت المعايير واعطيت الذرائع للقوى المعادية لتشويه صورة الاسلام ومحاولة ربطه بالارهاب والعنف وتشجيع استمرار الحرب في الجنوب واثارة الاحقاد والعدوات والتعصب لدى بعض الفرقاء مما ادى الى استنزاف طاقات جنوب السودان وثرواته وزهق ارواح عشرات الآلاف من الشبان الذين زجوا في أتون حرب ليس فيها منتصر واحد… وصراع دام لا نهاية له. ماذا حملت الانقلابات للسودان… ومن الذي دفع ثمن المناحرات ودوامية "تبادلية السلطة" بين عهد عسكري ديكتاتوري يصادر الحريات ويكمم أفواه المعارضة ويستنزف طاقات البلاد بين عهد ديموقراطي تسود فيه الانانيات ومناحرات الاحزاب والالتهاء بالاتهامات والحملات والنظريات الفلسفية وصراعات الطوائف ولعبة الكراسي والمناصب والنفوذ؟ جدل بيزنطي يدور حول "جنس الملائكة" والسؤال المحيّر عمن جاء اولاً: البيضة أم الدجاجة فيما البلاد تحترق والمواطن يكتوي بنار الجوع والغلاء والبحث عن لقمة العيش او فرصة عمل في وطن يفترض انه يحمل في باطنه أثمن الخيرات من نفط ومعادن وارض خصبة كان يمكن لو أحسن استغلالها ان تتحول الى "سلّة الغذاء العربي" بل يمكن ان تكون "سلة غذاء افريقيا". جدل بيزنطي يدور في الدهاليز وأروقة المجالس فيما البلاد تقف على شفير الافلاس والجنيه السوداني يصبح بل قيمة تذكر، ومشاريع التنمية شبه مجمدة، والجامعات والمدارس التي كانت تخرج الوف الشباب سنوياً بمستويات علمية وثقافية وفكرية تفوق او تتميز على غيرها من المنطقة تراجعت الى الخلف، وفرص العمل ضيقة ومعدومة، مما أدى الى استنزاف خطير للثروات البشرية من خلال هجرة الادمغة واصحاب الخبرة والمهارة. وصدّق او لا تصدّق ان في بريطانيا وحدها هناك اكثر من 4 آلاف طبيب ومهندس سوداني من اصل حوالى 25 الف مهاجر سوداني… وان دول الخليج تستضيف اكثر من مليون مهاجر سوداني يحمل معظهم شهادات عالية ويتميزون بالخبرة والجدارة والثقافة والامانة. شعب مسالم تميز بالكرم وعزّة النفس والطيبة والثقافة وسعة الاطلاع والتعطّش للحرية والديموقراطية يجبر على الهجرة والوقوف امام الابواب بحثاً عن فرصة عمل او لقمة عيش فيما بلاده يفترض ان تكون حامية له وحاضنة لحاضره ومستقبله وضامنة لمستقبل اولاده واحفاده ليجد فيها الكرامة والامن والامان والاطمئنان كما يجد فيها مستوى العيش الكريم لأنه لا ينقصها شيء من ماء وثروات وطبيعة حسنة… ففيها النيل الازرق والنيل الابيض وفيها النفط والمعادن ويفترض ان تكون فيها الزراعة والصناعة والتقدم العلمي والتكنولوجي. وكان السودان صاحب دور عربي وافريقي ريادي يلعبه في كل حال وأوان، يقوم بمبادرات لمصالحات عربية او لمواجهة العدو الصهيوني كما حدث في قمة الخرطوم بعد هزيمة حزيران يونيو 1967 او لجمع كلمة الأفارقة من خلال القمم الافريقية ومنظمة الوحدة الافريقية او في الدفاع عن قضايا الاسلام والمسلمين، فاذا به اليوم مهمش لا دور له ولا كلمة خاصة بعد تورط "الانقاذ" في الوقوف الى جانب الغزو العراقي او على الاقل الى جانب النظام العراقي. في المجال العربي لا يحسب له حساب، بل هناك حساسيات وعدوات مع بعض الدول وبينها الجارة الكبرى مصر. وفي المجال الافريقي فقد وهجه وصار طرفاً بعد ان كان حَكَماً اضافة الى محاصرته بعداوات من كل الاتجاهات. أما على الصعيد الدولي فقد تجمعت عوامل اتجاهات النظام والمؤامرات الاجنبية واحداث الجنوب في فرض حصار دولي عليه على رغم تنصله من تهمة الارهاب وقيامه بعدة مبادرات بينها تسليم كارلوس الى فرنسا. في ظل هذه الاجواء الرمادية المائلة الى السواد يعيش السودان حالياً ارهاصات متغيرات كبرى لا بد منها لانقاذ ما يمكن انقاذه واعادة اعمار ما تبقى منه وانهاء الحرب المدمرة في الجنوب والقضاء على مؤامرات الانفصال ومحاولات الهيمنة الاستعمارية. فهل ادرك "حكم الانقاذ" خطورة الموقف وضرورة انهاء تفرّده بالحكم والتمهيد لعهد ديموقراطي يبني المؤسسات ويعيد اللحمة بين ابناء الشعب ويكرّس الوحدة الوطنية في ظل اجواء الحرية والعدالة ومشاركة جميع الاطراف الفاعلة في تحمّل المسؤولية امام الله والوطن والمواطن؟ يبدو من خلال ما يتردد من تصريحات وما يتخذ من مواقف، والاعمال بالنيّات لا بالبيانات وبالافعال لا بالأقوال، ان الفريق عمر البشير واركان الحكم، و"الزعيم الروحي" الشيخ الترابي تداركوا هذه الحقيقة بالدعوة للمصالحة الوطنية واقامة تعددية مشروطة وبدء حوار مع بعض الاطراف والقيادات وعلى رأسها السيد الصادق المهدي؟ ولكن الخطوات المتخدة لا تكفي للانقاذ من تركة "عهد الانقاذ" بل لا بد من الدعوة لحوار أشمل واوسع يتوّج بعقد مؤتمر وطني تنبثق عنه حكومة انتقالية تشرف على انتخابات عامة بعد وضع نظام اساسي جديد يتعهد الجميع بالالتزام به وينص على إبعاد الجيش عن السياسة نهائياً ومشاركة كل فرقاء الجنوب في السلام وتحمّل هذه المسؤولية التاريخية واعادة البناء واعمار البلاد وجذب المهاجرين وفق برنامج عمل واضح واستراتيجية متفق عليها وفترة سماح طويلة تتيح للحكومة الوطنية المنبثقة عن الشعب تنفيذ بنودها. والصراحة تقتضي القول ان معظم الاطراف في السودان تتحمل بنسب مختلفة مسؤولية هذا التردي الذي تعيشه البلاد ويكتوي بناره العباد. والمأزق الراهن هو مأزق الحكومة ومأزق المعارضة… صحيح ان عهد الانقاذ وصل الى الطريق المسدود وأوصل السودان معه الى النفق المظلم الا ان المعارضة ايضاً مسؤولة عن هذه النهاية المؤسفة فهي لم تتعلم من دروس الماضي ولم تعتبر بعبره سواء عندما كانت في الحكم او عندما خرجت منه… ومن الوطن ايضاً فأصبحت معارضة مهاجرة، ولا قيمة في معارضة من الخارج مهما كانت قوتها ولا امل بانتصارها الا اذا كانت تعيش مع قواعدها وتتفاعل مع مشاكل الناس وقضاياهم ومعاناتهم اليومية ولا تكتفي بالتنظير من الخارج حتى قيل يوماً ان المعارضات العربية هي أسوأ من الأنظمة. وبدلاً من ان تسعى لتوحيد الصفوف وتقضي على الحساسيات وتنهي عهود الانقسامات الطائفية والحزبية وتمسح الحزازات الشخصية وتتسامح لتقيم جبهة قوية متراصة تضع برنامج عمل للمستقبل وخطة للانقاذ الفعلي واصلت نهجها السابق في الاختلاف والتباين وتبادل الاتهامات والشكوك التي تعبّر عن حقيقة غياب الثقة المتبادلة بين كل طرف من اطرافها، هذا مع الاعتراف بوجود خلافات اساسية في التوجهات والتطلعات والطموحات والاهداف الكامنة في الاعماق لا سيما بين معارضة الشمال ومعارضة الجنوب وبين دعاة الانفصال ودعاة الوحدة وبين مؤيدي تطبيق الشريعة الاسلامية ومعارضيها. نعم بعد عشر سنوات على "انقلاب الانقاذ" عاد كل شيء الى الخلف… تراجع الامل بالانقاذ… وها هو السودان الآن يعاني من ازمتين يدفع ثمنهما المواطن السوداني النبيل والطيب: ازمة حكومة وازمة معارضة. الا ان هذا الواقع على رغم ما فيه من نظرة تشاؤمية سوداوية يحمل في طياته بذور الامل بمصالحة سريعة تبعد شبح الازمتين لأن الحكومة والمعارضة على حد سواء تشعران الآن بحاجتهما لمثل هذه المصالحة قبل ان تقلب المائدة على رؤوس الجميع. والحاجة أم الاختراع… وأم المصالحات خاصة وان الدكتور الترابي هو صاحب نظرية او فتوى "فقه المصلحة"! * كاتب وصحافي عربي.