صورة المثقف كما تقدمها رواية"رجة تحس بالكاد"للروائي اليمني محمد عثمان، هي مزيج من العوز المادي والحرمان العاطفي. موسوم بقهر يتضاعف مع انتشار المحسوبية والفساد داخل المؤسسات الثقافية، الحكومية والخاصة. تبدأ الرواية الواقعة في 168 صفحة من القطع المتوسط، بتلقي وليد حال عودته من معرض الكتاب، خبر وفاة زوج عمته. الخبر الذي تنقله إليه زوجته لا يرد على لسانها مباشرة، بل نعلم ذلك من الراوي الذي يبقى متوارياً على مدار الرواية. وهو راوٍ كلي يهيمن على كل صغيرة وكبيرة. عالم بما حدث ويحدث وما سيتقرر في المستقبل. حتى الحوارات المنسوبة إلى الشخصيات معظمها يتكفل الراوي بنقلها، ما يجعل الشخصيات تبدو أشبه بدمى في يده. ترصد الرواية مظاهر الانفتاح المشوه. فتنامي العمران ومظاهر الترف الذي أصاب فئات طفيلية لم يحدث تغيراً جوهرياً، بل فاقم أزمة الطبقة الوسطى، واضعف الاهتمام بالقراءة. يتم نقل موقع تنظيم معرض الكتاب من الحي الجامعي إلى حي يسكنه الأثرياء، لكنهم لا يقرأون ويتعاملون مع الكتاب باعتباره جزءاً من الديكور. ولئن مثلت شخصيات الرواية مجتمع القراءة أو أولئك الذين يهتمون بالكتاب، إلا انها شخصيات شعاراتية لا تفتأ تردد خطاباً ميكانيكياً من قبيل القول إن المجتمع ينقسم إلى طبقتين: طبقة تقرأ لكنها لا تملك المال، وطبقة تملك الثروة لكنها لا تقرأ. ترسم الرواية الخضة النفسية والموضوعية، التي تلف الوسط الثقافي، ما يجعل مكانة الكاتب الاجتماعية تبدو وكأنها مهددة. هكذا يعمد سليم إلى استخدام هاتف المدير العام لإجراء مكالمات مع عدد من المؤسسات الثقافية ونافذين في الوسط الثقافي، بهدف تخفيف العبء عن موازنته، وليذكر مديره في العمل بأهميته ككاتب و"قاص متقاعد"، عسى المدير ان يتغاضى عن الأقساط، التي يمكن ان تخصم من راتبه، بسبب مغادرته الوظيفة مبكراً. تدفع الأوضاع المعيشية المتدهورة بعض المثقفين إلى سرقة الكتب، التي لا يقدرون على شرائها، إما لارتفاع سعرها أو لأن ظروفهم المالية لم تعد تسمح باستقطاع ثمن الكتاب من قيمة الخبز، ارتكازاً على هذا الحدث الذي بدأ يطل أثناء إقامة معارض الكتاب، تحاول الرواية الخوض في وضعية المثقف في مجتمع يتغير على السطح، في ما هو في العمق جامد، لاسيما لجهة العلاقات الاجتماعية والأفكار. سليم ووليد صديقان يسكنان حياً واحداً. يجمعهما إلى جانب سرقة الكتب، الانتماء إلى"شلة"من الكتاب والمثقفين ممن ضاق بهم المجتمع المحافظ، فلاذوا بكلية الآداب. يمضون وقتهم في ساحتها وممراتها. فالكبت والحرمان أو ما تصفه الرواية بالتصحر الذي عليه الواقع خارج الأسوار، يبقي على صلتهم بالكلية على رغم مضي سنوات كثيرة على تخرجهم. وهم يتبدون على صورة البوهيمي الفاقد الإحساس بحركة الزمن. ليس بينهم من تساءل عن سبب مجيئهم اليومي، أو انتبهوا إلى أن الطالبات اللاتي يحاولون مغازلتهن هن في سن بناتهم. والرواية خلت تقريباً من المرأة. والأنثى الوحيدة طالبة صينية تدرس التصوف، يلتقيها بطل الرواية في المكتبة، فتنشأ بينهما علاقة تقترب من العاطفة، لكن التنشئة القائمة على العيب والفصل بين الجنسين تمنعه من الإفصاح عن مشاعره. ولحظة سفرها يكبت رغبته في تقبيلها. كشف هذه العلاقة يأتي عبر تكنيك الفلاش باك. وكأن كل عاطفة هي فقد وتذكر. فالرواية وإن أماطت اللثام عن واقع معاناة المثقف اليمني، إلا أنها جاءت في بنائها منسوجة من قماشة الواقع الذي تتناوله، إذ افتقدت للحبكة والتماسك، ناهيك عن الرؤيا. إنها مرآة تيه المثقف وهو تيه يأخذ أحياناً شكل الاضطراب النفسي. أعضاء الشلة ليسوا على ذلك القدر من الوعي، الذي نخال عليه المثقف، فبعضهم يبدو على شاكلة العامة. فالنساء بحسب اعتقادهم يزددن غروراً في حال سمعن كلاماً جميلاً أنهن"متعودات على الشتم... اشتمهن وهن يجرين وراك جري". وكان هناك إمكان في أن تأتي الرواية أكثر قوة، في حال تركزت على فكرة القداسة المعطاة للكتاب والكتابة. فعندما تحاول إحدى الشخصيتين سرقة رواية أمين معلوف تلفى نفسها وقد تقيدت فجأة على الامتناع، تحت ثقل انبثاق ذكرى حادثة مماثلة وقعت لها أثناء الطفولة، عندما حاول سرق نسخة من القرآن الكريم من قبة ولي القرية. لكن والدته زجرته بمخاوف العواقب، التي سيتسبب له فيها الولي لسرقته شيئاً من قبته، وعندما يعيد الصغير"الختمة"يتحرك شيئاً ما داخل القبة، فيسقط فاقد الوعي. بيد أن تناول هذه الفكرة جاء عرضاً. وثمة مواضيع تبدو مقحمة وزائدة مثل فكرة الموت، التي بدت أشبه بتنظير خطابي حول الموت وقيمة الحياة الفردية في مقابل العيش في جماعة. وكذا لغة الكتابة الصحافية الفارطة الإسهاب، والتي جاءت في غير موضع من الرواية، مثل انهماك وليد في تأملاته التي انبثقت من تشبيه صاحب البوفية العم عبدالوهاب موظفي البلدية بالجن والعفاريت. لا تتنطع الرواية، وهي الأولى لعثمان، بعد مجموعتين قصصيتين وحكاية للأطفال، إلى تسجيل أحداث كبرى بل تكتفي بحدث لا يتعدى زمن المناسبة السنوية لإقامة معرض صنعاء للكتاب، إلا أنها تقدم ذلك بأسلوب متكلف ولغة مثقلة بالإسهاب، على رغم محاولتها تلمس الشعرية والاعتناء بالوصف.