يدخل الروائي العراقي المقيم في المانيا نجم والي عالم العراق بعد انكفاء الجنود العراقيين الى الداخل متخيلاً أحداثاً ووقائع تتفاوت بين الحقيقة والخيال. تستعد رواية "تل اللحم" دار الساقي، 2001 تضاريس الواقع العراقي بطريقة تركيبية، لا تراعي الدقة في رصف الأحداث أو علاقتها بالمكان، متمثلاً بالمدن والاتجاهات والخصوصيات الديموغرافية للعراق، كون الكاتب يمتلك مسافة بينه وبين نصه المكتوب، في الزمان والمكان. فالزمان هو نهاية حرب الكويت، بعد رجوع الجندي العراقي مهزوماً وتوجيه دبابته الى أكبر صورة للرئيس وسط البصرة، واطلاق النار عليها لتبدأ انتفاضة كادت تطيح النظام دفعة واحدة. أما المكان فمتغير بحسب مزاج الكاتب، لا ينحصر بالبصرةوبغداد والشرقاط، بل يتوغل في الأقضية الصغيرة والبلدات الحدودية، ومنها "تل اللحم"، مترافقاً مع تحرك الشخصيات التي لم يخضعها الكاتب لأي سببية أو منطقية، إذ كان حراً في دفع النساء أو الرجال الى السفر والاقامة في الفنادق والبيوت والمستشفيات والمزارع بحرية كاملة، وكأن البلد ليس العراق، بل هو بلد متخيل يمتلك مواطنوه أقصى درجات الحرية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية في رسم مصائرهم وانتقالاتهم. الراوي الذي يسرد أحداث رواية "تل اللحم"، اشتغل يوماً مترجماً عن الالمانية للدولة، وزوجته وجيهة، التي اكتشف انها تشتغل للمخابرات، كانت مترجمة عن الاسبانية وتعمل مع الجيش أيضاً. وبعد ان يعود الراوي، فور انتهاء حرب الكويت، يجد زوجته وقد تركت البيت هاربة. وباعتبار الوقت ذاك وقت تحولات حادة، وغير مفكر بها، يلتقي جارته معالي زوجة أسيد لوتي التي تقص له الحكاية كاملة. تقص عبر تداع زمني واضح المعالم تقريباً، حكايات عقدين من السنين، ويسترجع الراوي معها كل ذلك التاريخ في أربعمئة صفحة من القطع الكبير وبالحرف الناعم. سرقت معالي سيارة مرسيدس وشجعت الراوي، واسمه بالمصادفة نجم، على الهرب الى جهة مجهولة. لا نعرف لماذا يهربان والى أي هدف يسعيان. ولكن وأثناء الرحيل يتم الارتداد الى الثمانينات وبداية الحرب العراقية - الايرانية، وهو أمر متوقع وطبيعي في الأحداث، فلا يمكن كتابة رواية اليوم عن العراق من دون تناول تلك الطبقات المرعبة من التاريخ. حرب السنوات الثماني والحروب الكيماوية والمذابح والسجون وقتل الأكراد وتسفير الأكراد الفيلية بحجة الأصول الايرانية، وكل ذلك الهرم الهائل من آليات السيطرة التي مارسها الحزب الحاكم ورئيسه لخنق الحياة وتحويلها فوهة دبابة أو شريطاًَ طويلاً معبأ بالطلقات، أو بدقة أكبر، تحويلها مقبرة شاسعة، كتلك التي زارها الراوي في النجف مع صديقته معالي، في طريق الهرب. طريق السفر والهرب هو في الحقيقة ارتداد الى ما حدث قبل سنين، عبر ذكر شخصيات كانت تحيط بهذين الشخصين، الراوي ومعالي، مثل اسيد لوتي الديّاك، الذي كان يوفر الديوك لمسؤولي الدولة ويدير مع فطيّم بي دي، شبكات دعارة وتجارة حبوب منع حمل وتهريب ووشايات. هذه الشخصية على رغم وجود أصداء لها في الواقع العراقي، جاء نحتها بطريقة الكتاب "الماركيزيين" سواء بآلية تفكيرها أو افتراضاتها أو تنوع اهتماماتها، فلا أحد يصدق ان صاعود نخل، أي اجيراً يؤبر النخيل ويلقحها ويجني عذوقها، وهو من الطبقات الرثة في المجتمع العراقي، يمكن ان يتحول الى مهنة مربي ديوك، ويصل الى لقاء مسؤول الدولة العراقية الأول، ويحيك المؤامرات ويدخل في شبكة هائلة من الأجهزة! لا يمكن رجلاً بهذه المواصفات ان ينحت بهذه الطريقة، الا من طريق خيال الراوي، وأوهامه في صنع شخصية غرائبية استلها من قراءات متنوعة وأسطورية. وهذا لا ينطبق على شخصية اسيد لوتي، بل على معظم شخصيات الرواية. ففطوم بي دي كلية القدرة على رغم انها سمسارة، ومعالي الفتاة الرياضية المثقفة، وحياوي بنزين، وعسلة اليهودية، وغيرهم الكثير. لأن ما حكم صياغة تلك الشخصيات وحركتها في المكان لا يعتمد تواتراً منطقياً أو تسلسلاً سردياً، إذ جاء تصرفاً في الحقيقة الاجتماعية بذهنية ليست دقيقة، تحاول ادعاء اسطرة الأشياء عبر المصادفات واللغة، وفبركة سيرها ذهنياً من دون مبرر أو منطق فني. لا أحد يتصور ان فتاة في العشرينات من عمرها تمضي في عراق الثمانينات جل لياليها وأوقاتها في المراقص والفنادق الفخمة من دون أن يسألها أهلها عن ذلك، وهل توافرت يوماً مثل تلك "الديسكوات" والفنادق الراقصة للطبقات العادية من المجتمع العراقي يوماً؟ فالمبالغة والتهويل يحكمان تصورات الراوي وتحليله الأحداث، وتوليد القص من بعضه عبر المصادفات والافتراضات، وأحياناً عبر اللامنطق، مثلما اكتشفنا في النهاية ان معالي التي هرب معها الراوي، ما هي في الحقيقة الا اختها التوأم مرايا سيد مسلط. فهل يعقل ان الراوي، وقد عرف معالي سنين عدداً، ودرس معها في كلية الآداب في بغداد، لا يمكنه تفريق معالي من اختها بالصوت والذاكرة والعينين والرائحة، الا بعد بوحها هي نفسها بالحقيقة؟ هناك، وكما هو متوقع، موقف مسبق من السلطة ورئيسها والجرائم التي ارتكبت خلال عقدين من الزمن، بل وقبل ذلك أيضاً، منذ ان حملته دبابة الى القصر الجمهوري في نهاية الستينات. وهناك روح طائفية لدى النخبة الحاكمة، طائفية وعنصرية، الا ان الراوي يصور الأمور كأن العراقيين أصبح همهم الرئيس تمييز بعضهم بعضاً طائفياً، فالأسماء ذات دلالات طائفية، سنية أو شيعية، والمدن كذلك، واللهجة بالتأكيد. فالغربية تعني السلطة والقمع والبداوة، والجنوبية تعني الضحية والدمار والتشرد. والأغرب ان الراوي اعتبر حتى النخيل دلالة على الشيعية، لذلك تكرهه الحكومة وبداتها، ولا يعرف ذلك الراوي بذهنيته، المريضة طائفياً، ان محافظة الأنبار وهي من مدن الفرات الغربية، وسنية المذهب، تمتلك أكثر من مليون نخلة، وان جل طفولة أبنائها نمت مع النخيل وطيوره وحكاياته. والذهنية المريضة للراوي هي التي جعلته يتخيل كثيراً من الأحداث ويهوّل القصص ويعطي تحليلات تخرج عن الاطار الفني للرواية، بل اصبحت عبئاً على القارئ، خصوصاً حين ينظر عن القصة وطريقة كتابتها أو الحب بين شخصين أو عن الشرف والطائفية والسياسة وغير ذلك من التيمات. والأنكى أن الشخصيات، في معظمها، حتى الأمية، والتافهة التعليم، تتحول فلاسفة ومنظرين، مثلما حصل لمرايا الأخت الصغرى لمعالي أو لفطيم بي دي، وهي قوادة من خريجات المدرسة البغدادية التي كانت استاذتها كوكة، أم مثال الآلوسي، الطبيبة. وتلك اسقاطات كثيرة وأمثلة بسيطة على المبالغة في السرد، والتهويل بربط الأحداث بعضها ببعض، والقسر الذي أخضع الأحداث لمصادفات غير معقولة. كأن القارئ يعيش في فيلم هندي من أوائل الستينات، تلك النوعية من الأفلام التي شكلت طفولة الراوي بحسب قوله في ثنايا الرواية. وهذا أيضاً ما جعل الرواية مكتوبة بأقصى درجات الحرية، سواء باستخدام الألفاظ الصريحة للجسد والجنس أو بطرح وجهات النظر في السياسة والدين والعروبة والمذاهب والحروب، ما اسقطها في بعض المواضع في فجاجة غير مبررة، كتبت على الأغلب لصدم ذوق القارئ ورهافة حسه، من دون ان تضيف شيئاً الى عمق النص أو تضيف الى معرفة القارئ لبنة أخرى. لا يمكن القول ان الكاتب فشل في تأكيد هوية المكان العراقي وشخصياته. بالعكس استطاع وفي كثير من المشاهد والحوارات ان يسترجع البيئة والحس والهواجس بل حتى اللهجات، لكنه احياناً يفقد السيطرة على نثره، فيغادر محلية الأحداث لينسج من مخيلته، ويسقط مفاهيمه المعرفية على ذهنيات أبسط مما قدمت، فكان كمن يقطف الورود بحصادة قمح، لذلك امتلأت الرواية بالاسهاب التحليلي في الفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا، عن الزواج والكراهية والحب. وحدث ان راح الراوي يخبط خبط عشواء، في الأماكن والأزقة والتحليلات السياسية، لتختلط لديه التواريخ وعلاقتها بالحقيقة. وأسهم في اشاعة الفبركة والفوضى الفنية، أسلوب الكاتب في قلب شخصيات واقعية ثقافية وسياسية، عبر تغيير اسمائها ليحولها شخصيات روائية تختصم في ابداع حياة "تل اللحم". مثل هذا جاء مع منال الآلوسي وعبدالرزاق عبدالواحد وبحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ وعزة الدوري وعبدالأمير معلة وسامي مهدي، وسواهم من رموز السلطة السياسية والثقافية في أزمان ماضية أو حاضرة. وهو بتعريضهم لذلك القلب الساخر يروم حتماً الى الانتقام منهم، من طريق اللغة، وهو أمر كثيراً ما تعرض له الراوي، وأسهب في فلسفته. ورافق قلب الشخصيات تغريب لأسمائها أيضاً، فهذه فطيم بي دي، وأسيد لوتي، وحوني، وحياوي بنزين، وكوكة، وهو من كل ذلك يحاول قول كل شيء، من الانتقام المبطن ببشاعة اللغة وكناياتها، الى نقد الحكم وعرض جرائم الأسلحة الكيماوية والتعذيب والقتل والاغراء والجنس الموظف لخدمة المخابرات، واضطهاد الشيعة كما يسميه الراوي. وكأن السنّة والصابئة والمسيحيين والأشوريين والأكراد يعيشون في الفردوس الموجود! وأيضاً التهجير وحرب ايران واحتلال الكويت ونهب الحرس الجمهوري والأجهزة الحزبية والأمنية لها. وكل فصول الرواية، جرت فيها قصص لا تحصى، وأبدعت بحبكة أو حبكات كانت تعتمد كثيراً المصادفة، وتوليد القصص بعضها من بعض، إما باختلاق شخصيات مثيرة تدخل المسرح عنوة، أو فجأة، وأما بكشف القناع عن شخصيات كانت مألوفة للقارئ فأزاح هويتها المزورة جانباً وراح ينسج لها هوية جديدة، هوية تختلط فيها الأوهام بالوقائع. إذ ان الحياة في مدينة "تل اللحم"، والعراق عموماً، هي مزاوجة بين الأوهام والحقائق، بين الأحلام والخيالات، بين الصلب والسائل، بين الجلاد والضحية. الحياة عبارة عن واحد من أفلام "الأكشن"، على ما يقول الراوي، وهي لفتة ذكية، شرط الا تكون مغرقة في "اكشنيتها" كما الأفلام الهندية. فالمنطق الفني يظل يمتلك خصوصيته، ولا يحتمل القفزات والمغامرات غير الموفقة، الا على صعيد السرد اللغوي. من خلال ذلك الكم الهائل من القصص والشخصيات التي فرشها الكاتب على ورق الرواية نستقرئ كثيراً من روايات الرعب، منها تجارة الاعضاء البشرية التي راجت أثناء الثمانينات والتسعينات، فكانت عصابات السلطة تقتل بشراً بتهمة المعارضة لا لشيء الا لبيع اعضائهم، المعلومة التي حصل عليها الراوي من خلال تنصته على احدى الغرف في فندق "تل اللحم". وتلك التجارة يشترك في ادارتها شعراء ورجالات أمن وسماسرة أجساد وحزبيون وقوادات ومخبرات، وهي كثيراً ما ترتد، مثل من يعرف اكثر من اللازم في دولة الرعب تلك، تصفيات جسدية، ومؤامرات ليلية، وحركات مريبة، تزوّر فيها الأسماء والمهن واللهجات، مثلما حصل للمترجم ملهم، صديق الراوي، وقد قتلته المخابرات لأنه أفشى سر الأسلحة الكيماوية، ومثلما حصل لوجيهة التي صفيت لأنها أصبحت تعرف أكثر مما يجب. "تل اللحم" التي كتبها نجم والي، في أكثر من أربعمئة صفحة، وتزاوج على صفحاتها اقصى ما يمتلكه المؤلف من معرفة بأحوال البلد، ما هي الا دولة الرعب المزمن، على ما يقول الراوي، مذ أسسها الانكليز في بدايات القرن العشرين. تلك الدولة التي كان يطلق عليها سابقاً اسم الجمهورية العراقية، وذكّرها الرئيس لاحقاً، كونه لا يرغب في الجلوس على عرش دولة أنثى!!