شاءت الأقدار أن أذهب إلى المحكمة العامة والدخول في دهاليزها، والتنقل بين أروقتها للوقوف على ما تعمله لحل قضايا الأحوال الشخصية، فوجدت عدداً من النساء قد انتهكت حقوقهن من الرجال، وما ذلك إلا بعد أن عشت قصة تلك الفتاة التي في عمر الزهور وقد اتخذت من السعادة حلية تتحلى بها، وكانت البسمة والكلمة الطيبة لا تفارقان شفتيها، ملأت حياتها بالأفراح وغاية قوتها في مقاساة الأتراح فلا يهنأ لها بال إذا رأت حزيناً حتى تساعده، وتغرس ومضة الأمل في عينيه. لكن حياة الإنسان لا تدوم على حال، وهذا ما جرى لها! في يوم من الأيام أشرقت الشمس ولكنها لم تشرق، وبدأ نورها ينتشر في أرجاء المعمورة لكنه لم ينتشر بالنسبة إلى تلك الفتاة، لقد أصبحت حياتها في لحظة ظلاماً تبدلت حالها، فقد ظهرت بعد أيام انقطعت فيها بوجه غير الذي عهدته، ظهرت بوجه شاحب قد حفرت الدموع على وجنتيها أخاديد غائرة والتذمر يبرق من عينيها... تغدو وحيدة، وترجع وحيدة، لا تكلم قريناتها، بل اتخذت من الصمت والبكاء قريناً لها، فعظم عليَّ بلاؤها واشتد حزني عليها، فتغيرها المفاجئ لفت انتباهي، ففكرت في الحديث معها ولكن ماذا أقول؟ بماذا أبدأ؟ أخذت التساؤلات تتناوشني ثم اقتربت منها وسلمت عليها وسألتها ماذا حدث لك وبدّل مجرى حياتك؟ فما كان حليفها إلا الصمت، ولم تتفوه بكلمة واحدة وقد سألتها علني أجد حلاً لحيرتها، أو أعيد ماضيها الزاخر بالابتسامات، لم أيأس بل حاولت مراراً إلى أن أمسكت بيدي وحملقت في عيني والدموع قد انهمرت على وجنتيها وازداد اضطراب وجهها وهي تقبض على شفتيها ثم انفجرت بالبكاء! حاولت أن أهدئها لكن من دون جدوى، وحينما هممت بالمغادرة أمسكتني ثم قالت: لا تذهب فسؤالك قد أزاح قليلاً مما كان يثقلني، لقد كان صمتي تشاورات في داخلي هل أبوح له سأظل حزينة، فقد فقدت أعز ما أملك، أقرب الناس إلي لقد فقدت أبنائي، لقد أظلمت الدنيا في عيني، لم أعد أرى النور من جديد فلا داعي للعيش من بعدهم. فمن يودعني صباحاً، ويستقبلني بعد عودتي ويخفف عنائي، ولمن أعد طعامي، لم يعد للحياة من بعدهم طعم، لقد تغير كل شيء، لقد انطفأت شمس الحياة في داخلي، واشتعل الحزن بين أضلعي! قاطعتها، وقلت لها كفكفي دمعك وتذكري خالقك وأمسكي بزمام مسيرتك ولا تستسلمي لليأس بل تعلقي بالأمل، فالحياة ما زالت بخير، اصبري واحتسبي فبهذا ترضين خالقك، وبدأت أقلب صفحات المصائب مبتدئاً بالخنساء حين تلقت خبر وفاة أبنائها، فكان ذلك أقوى لعزيمتها، وبرسولنا حين عاش يتيماً فلم يثنه ذلك عن أداء الرسالة الربانية. ولم أغادرها إلا بعد أن أعطتني ميثاقاً بألا تجعل اليأس يسيطر على أفعالها، وقبيل ذهابي همست في أذنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنت أحق به ما لم تنكحي وأن أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - قضى بعاصم بن عمر بن الخطاب لأمه أم عاصم وقال لعمر: ريحها وشمها ولطفها خير له منك". [email protected]