بالنسبة لي يأتي شهر رمضان الكريم هذا العام، مثل الأعوام التي سبقته، لأواصل ما انقطع من صلات بيني وبين بعض الأقارب والزملاء ومعارف الوالد، عليه رحمة الله. إذ إنني أحرص طوال أيام الشهر المبارك على تجديد صلات الرحم والإنسانية التي قطعتها شواغل الدهر، وحالت دون استمرارها ضغوط العمل اليومي الذي لا يرحم. وأحسب أن ذلك يتأتى للمرء بحكم تجديد صلاته بالقراءة والمطالعة في كتب التفاسير والفقه والمعاملات والعبادات، إذ يهيئ الصوم سانحة لا نظير لها لكي يتدبر المرء ما يطالعه، ويتأمل معانيه ومبانيه ومراده. العكوف على المصحف الشريف أثناء الصيام يتيح للإنسان مراجعة ما سبق أن حفظه، ويسهل عليه حفظ ما أراد حفظه، خصوصاً أن الفرد منا لم يعد، بسبب انشغاله في أعماله ورعاية أهله وأولاده، بوسعه أن يستذكر حفظه للقرآن الكريم ويستظهره، كما كان العهد بنا في"الكُتَّاب"والمدارس. وتلذ حلاوة الوصل بين الأقارب والمعارف والزملاء الذين تفرقت بهم السبل خلال شهر رمضان المبارك، لما يتأتى فيه من وقت، يطول فيه الأنس والسمر، فتتجدد بذلك صلات انقطعت، وذكريات كادت تُمحَّى، وعلاقات أوشكت أن تَذْبُلَ وتُنْسَى. ومع ذلك يبقى هناك متسع من الوقت ليؤدي الفرد فروضه ونوافله، ويتقرب إلى ربه البارئ المصوَّر بتلاوة آي الذكر الحكيم والدعوات المستجابات بإذن الله. أقول ذلك ولا يفوتني أن أشير إلى أن ما أوردته أعلاه قد ينطبق عليّ وأبناء جيلي ممن تعدوا العقد الخامس من أعمارهم، إذ إن جيلنا ليس صنيعة"الانفجار"التلفزيوني الذي"استعمر"أدمغة الأجيال التالية، وأضحى يرغمها على تكريس أوقات الصوم والإفطار على حد سواء للمشاهدة، ومتابعة المسلسلات، لتكون عقولهم وأرواحهم بيد"الريموت كونترول"، وهي آفة من آفات العصور التي أدركتنا, ومثلها جهاز الهاتف المحمول الذي يستحق أن نفرد مقالاً منفصلاً للحديث عن مضاره وسلبياته. تُرى هل ترجح تلك السلبيات على الإيجابيات أم أنهما سِيَّان؟ أحمد الله كثيراً أن جيلنا الذي تربى على قيم رمضان ومُثُله أيام زمان، ظللنا أوفياء لما تربينا عليه، بل ما فَتِئْتُ أرى أطياف وجوه عدة ألفتها ساعة الإفطار أو السحور في رمضان طفولتنا وصبانا, آباء وأعمام وعابرو سبيل وأطفال وصبيان وعمات وخالات. وجبات أكاد أشم رائحتها, وصيحات لا تزال تتردد على مسمعي، على رغم تقادم العهد، وتقلبات الأيام. كل ذلك أستعيده بتفاصيله الدقيقة التي تأبى أن تبرح خيالي، حين أجمع حولي أولادي وأحفادي وبناتي حول مائدة الإفطار. ومن خلال هذه الوليمة الرمضانية العامرة مساء كل يوم، طوال الشهر الفضيل، نغرس في صغارنا وأحفادنا الواجبات والفضائل التي انتقلت إلينا من آبائنا وأجدادنا وكبارنا، لتستمر بذلك دورة الحياة، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام. أحمد عباس علاقي - مكة المكرمة