الاعتماد على السحر والخرافات دلالة من دلالات التخلف، ولكن المجتمعات الغربية في ذروة تقدمها عادة تعتمد عليها مصدراً أكيداً للمعرفة، وذلك بعد أن كان أساطين العلم حدثونا بأن تطور المجتمعات يتلخص في مراحل ثلاث، هي: مرحلة الخرافة، مرحلة الدين، ثم مرحلة العلم التي تلغي الخرافة والدين. ولكن ما بال القوم عادوا يتراكضون إلى نقطة الصفر الأولى، ويستنجدون بمعارف الكهانة التي تَرْجُمُ بالغيب؟! قبل أن نجيب عن ذلك السؤال لا بد أن نؤكد أن جموع المندفعين في صفوف العرافين والكهان ليسوا فقط من العوام والدهماء، وإنما في الطليعة منهم أرباب الصناعة ومديرو الشركات الكبرى والعلماء ومخططو السياسة الخارجية ومشاهير شخصيات المجتمع يتسابقون لطرق أبواب المنجمين والعرافين الذين يبرز كل واحد منهم قائمة بأهم زبائنه من عِلية القوم، ممن يحسن الرعاع بهم الظن ويندفعون في تقليد أفعالهم بدافع الإعجاب. المجتمع الأميركي تقود خطاه حركة رأس المال، ويعد رجال الأعمال مثاله الأعلى. فالكل يتوق إلى تحقيق بعض ما حققه هؤلاء. والأميركيون الذين يبرزون في مجالات علمية ورياضية وفنية وأدبية يميلون غالباً إلى ترجمة نجاحاتهم إلى"رأس المال"، لأن"رأس المال"هو اللغة الوحيدة المفهومة في أميركا. ولذلك فإنه ليس عيباً - بل فخراً - أن يقال إن هذا العالم يساوي كذا مليون دولار، وإن هذا الرياضي يُشترى بكذا مليون دولار، وإن هذا الممثل أو ذاك الكوميدي وقَّع عقداً ورهن نفسه لهذه المحطة أو تلك، لكذا من السنين بكذا مليون دولار! وهكذا فعندما اتجه رجال المال إلى عالم السحر اتجه الجميع إليه، وأصبحت صناعة السحر واحدة من أروج الصناعات في أميركا تتناوب وسائط الإعلام في الإعلان عنها ليل نهار، ويقدر رأسمالها بعشرات البلايين من الدولارات! إن ساحرة مثل تيريل بريل أصبحت تنافس المحللين الاقتصاديين المختصين في منافسة وتحليل تطورات الأسواق المالية، ومعظم زبائنها يفضلون الاعتماد عليها، لأنها - كما يزعمون - تبتُّ في الأمر بسرعة البرق، وتكشف لهم عن تطورات ومآلات أسواق الأسهم بأسرع مما يفعل المحللون المختصون. وتقول هي عن نفسها إنه ليس بينها وبين رؤية كل تلك التطورات حجاب! ويقول أحد زبائنها وهو البليونير ه.ل.هنت إنه لا يتجرأ على توقيع عقد قيمته ملايين عدة من الدولارات قبل ان يستشيرها. ويقول روبرت باكر - وهو ساحر معروف في أسواق الأسهم والسندات - إن تنبؤاته المالية هي في مستوى التنبؤات والاستشارات ودراسات الجدوى التي يعدها كبار المختصين، وتستغرق زماناً طويلاً، وتستهلك مالاً وفيراً، وإن الفرق الوحيد بينه وبينهم هو أنه لا يقرأ بحثاً ولا يكتب سطراً، وإنما يقرأ تموجات عقله، وينقلها شفاهة إلى أصحاب الشأن. وتقول مجلة إدارة الأفراد personnel journal وهي من الدوريات المحترمة في إدارة الأعمال إن مديري الشركات لجُّوا في شكهم وتبرمهم بمعايير التوظيف التقليدية، لأن تلك المعايير مهما اختلفت فإنها تتحد في غاية واحدة هي غاية البحث عن الجوانب الإيجابية في الشخص المتقدم للوظيفة، الأمر الذي يخفى عن الشركة الجوانب السلبية في حياة طالب الوظيفة. وبانتشار الكورسات والكتيبات المتعلقة بكيفية استجوابات التوظيف Interviews تكامل تكتيك إخفاء الجوانب السلبية على أصحاب ومديري الشركات. ولتجاوز كل ذلك دفعة واحدة، لجأ كثير من مديري الشركات إلى الاستعانة بفريق من المنجمين والكهان والسحرة المختصين بقراءة الخطوط، معتقدين أن تلك القراءة تكشف عن نوع الشخصية وعللها وعقدها، الأمر الذي يوفر للشركات تكاليف المخاطرة بتوظيف أشخاص معلولين لا يفيدون كثيراً في تطوير الأداء ودفعه إلى الأمام. سلبيات وإيجابيات والبوليس الأميركي أصبح يلجأ إلى السحرة عندما يعييه الأمر، وكم من قضية غامضة رفع أمرها ليبت فيها السحرة والكهان. وتقول صحيفة"نيويورك تايمز":"إن إدارة بوليس نيويورك عندما تستنفد كل وسائل تكنولوجيا البحث المتقدمة، فإنها تستعين بالساحرة دروثي إليسون، التي قدمت لهم في الماضي معلومات كثيرة مفيدة، أوصلت إلى حل بعض الألغاز المبهمة، ومكنتهم من التوصل إلى بعض المجرمين الغامضين". وكشفت إدارة ال C.I.A أنها أنفقت أكثر من 20 مليون دولار على نحو 15 ساحراً وساحرة وظفتهم الوكالة في برنامج النظر عن بعد Remote Viewing إذ كلف بعض الأشخاص بمهمة تجاوز الزمن والمكان، للوصول إلى مصادر قصيَّة، وللاستحواذ على ما تخبئه عقول الأعداء، واستخلاص بعض الأسرار المخبوءة بهذا الذهن أو ذاك. وزعموا أن أحد السحرة تمكن فعلاً من أن يرى عملية سرقة يقوم بها بعض اللصوص، وكلف آخر بتخيل شكل بعض الغواصات المعادية، وتمكن من إنجاز تلك المهمة بنجاح، وأعطي آخر نوط الجدارة لأنه أعطى معلومات عن 150 هدفاً لم يكن هنالك من سبيل لنيل معلومات عنها سوى ذاك السبيل، وتنبأ آخر بأن جنرالاً أميركياً سيختطف في إيطاليا في توقيت معين، وبالفعل جرت محاولة الاختطاف في ذاك التوقيت. العقل العملي ولأن الأميركي صاحب عقل عملي بحت، فإنه يركز دائماً على الجانب المضيء في الموضوع. فإن كان لصديقه حسنة واحدة وعشرة أخطاء، فإنه يركز بصره على تلك الحسنة اليتيمة، متناسياً مجموع الأخطاء. وهكذا يتعامل مع موضوع السحرة، أي بالتركيز على إيجابياتهم وتناسي سلبياتهم. وتقول الدوائر المسؤولة إن 80 في المئة من تنبؤات السحرة كانت خاطئة، ولكن المخابرات استفادت كثيراً من ال20 في المئة الباقية من حصيلة هذه التنبؤات. ولا تخلو سلبيات المنجمين وأخطاؤهم من أن تكون مثيرة للتسلية والترفيه وشذ الخيال. ساحرة اسمها شون روبينز أصدرت في عام 1980 كتاباً بعنوان A Head of Myself شرحت فيه تاريخ حياتها، وضمنته فصلاً يضم 59 نبوءة كاذبة لم يتحقق منها شيء حتى الآن، أي أن نسبة الكذب كانت 100 في المئة من جملة نبوءاتها، ولكن مهنة الساحرة لم تصب بالإخفاق بسبب ذلك. وظل كتابها يقرأ على نحو واسع، ربما لأن البعض ما زال يمني نفسه بتحقيق تلك النبوءات، أو لأن الجميع استمتعوا بما فيه من خيال مرهف، وقد كان كتابها مترعاً بحق بأطياف الخيال المسرف. وهذه عينة من تلك النبوءات/ الخيالات/ التمنيات: طبيب مغمور في أميركا الجنوبية سيكتشف عقاراً، الحقنة الواحدة منه تشكل وقاية دائمة ضد كل أمراض المناطق الاستوائية! طبيب أميركي سيكتشف عصباً دقيقاً له صلة بحركة الإنسان، وسيؤدي ذلك الاكتشاف إلى علاج جميع المعوقين والمشلولين والمقعدين! طبيب بيطري سيجري جراحة لنقل مخ من حيوان إلى آخر، ستجرى تلك الجراحة لاحقاً بين بني الإنسان! سيُكتشف دواء جديد لمعالجة مرض الهرم ويزيد عمر أي إنسان بنسبة 50 في المئة، ومن يستعمله يستطيع أن يعيش إلى حدود 150 عاماً! سيكتشف دواء آخر مهمته زيادة معدلات الذكاء بين الناس، وسيتهافت الناس على تناوله. وتبعاً لذلك فإن متوسط ذكاء البشر سيكون فوق مستوى ذكاء العباقرة الآن، وسيظهر كثير من أمثال ألبرت انشتين في الجيل القادم. لقد كذبت جميع تلك النبوءات، كما كذبت نبوءاتها في مجالات السياسة والتسليح، واكتشاف الثروات المكنوزة في باطن الأرض، واكتشاف اللغات التي تتحدث بها بعض حيوانات البحر والأرض، وغير ذلك من النبوءات. شهادات لممارسة الدجل لقد أصبحت إيجابيات السحر القليلة - كما يعتقدون - محط دراسة جادة من جانب بعض العلماء. ويعترف هؤلاء العلماء بأنهم إنما يستخدمون الطريقة العلمية لدراسة ظاهرة غير علمية، أي ظاهرة غير محسوسة، ولا خاضعة للتجربة، ولكنهم مع ذلك مصممون على اكتشاف سر الظاهرة، وجعله أمراً متاحاً للجميع، وتمليك جميع الخلق تلك القدرات الخارقة في الإحساس والحدْس والتنبؤ. ويحاول أرباب علم النفس التخاطري Para psychology أن يحيطوا علماً بالأسرار الآتية: قدرة السحرة - وبعض الأسوياء - على رؤية الأشياء، والأماكن، والحوادث خارج البيئة المحيطة من دون استخدام الحواس الخمس. قدرة بعض الأشخاص على قراءة العقل الآخر، والتخاطب عن بعد مع الآخرين ومن غير استخدام الحواس الخمس. القدرة على رؤية المستقبل من دون استخدام الحواس. وفي كتاب ظهر حديثاً، وظل في قائمة الكتب الأحسن مبيعاً لمدة 93 أسبوعاً، عنوانه Embraced By The Light أعلنت صاحبته بيتي ج.إيدي ? وهي عالمة طبيعة - تعاطفها مع مهنة السحر باعتبارها تضيف جديداً إلى العلم البشري. كما أصدر طبيب يدعى لاري دوري كتاباً بعنوان: Brayw is Good أعلن فيه أن ظاهرة السحر يمكن أن تفيد في تطوير إمكانات وقدرات الإنسان! وأفادت بعض الأبحاث المقارنة أن اختبار قدرات الحواس للعرافات اللائي خضعن للمضاهاة بقدرات حواس طلاب الجامعة جاءت بالتساوي بين الفريقين، لكن قدرات الحَدْس لدى العرافات كانت عشرة أضعاف تلك القدرات لدى الطلاب. وبتكرار أمثال تلك التجارب نشأ شبه إجماع بين العلماء على أنه لا يوجد برهان على عدم وجود قدرات حدس خارقة في مجتمع العرافين! وكان ذلك خير تشجيع لرواج مهن الخرافة لدى مختلف الأوساط، إذ غدا العرافون يتلفعون بأثواب العلم المستحدثة فوق أثوابهم الكهنوتية الرثة، ويدعون أن إنجازاتهم ليست إنجازات عفوية، وإنما تقوم على المتابعة الوثيقة لإيقاع داخلي في النفس الإنسانية، يعرفون مساربه جميعاً، ويدلهم على مجمل علاقات الإنسان. وأضافوا أنهم بمتابعة ذلك الإيقاع في شخص ما، يتمكنون من إحراز قدرات خاصة تمكنهم من تنظيف عقول الناس، وصقلها، وجلائها، وإخراج الأفكار الفاسدة منها وطرد الشيطان من بين مخابئها، حتى تغدو متهيئة للانطلاق لتحقيق أفضل غاياتها في الحياة. ولتطهير صناعة الكهانة من بعض ما يشوبها من تقول وانتقاص، فقد تم تشكيل اتحاد عام للسحرة اسمه The American Association of Psychics مهمته التدقيق في كفاءات أصحاب تلك المهنة، ومنح شهادات موثقة لممارسة ذلك اللون من ألوان الدجل. * أستاذ جامعي في الولاياتالمتحدة والفائز بجائزة نايف للسنة والدراسات الإسلامية عودة الجهل من جديد ونحن نقترب من نهاية ما يسمى بعصر اندحار الخرافة وتتويج العلم، عدنا لنشهد من جديد اندياح دوائر الخرافة في رقع واسعة من مجتمعات الحضارة الصناعية الغربية، وهي دوائر تعمل على محاصرة العلم، وتعلن تمرد الروح على بعض خرافات وأساطير العلم! إن خرافات العلم أزهقت روح الإنسان، حين أوهمته بأنه كائن ميكانيكي من كائنات الكون. وكما يقول د. ستيوارت كوفمان ? أستاذ الفيزياء في معهد سانتافي- فإن تطور العلم مزق اطمئنان الإنسان، وذلك منذ أن جاء كوبرنكس ليعلن أننا لسنا مركز الكون، ثم جاء نيوتن من بعده ليعلن أن الجاذبية لها قدرة إلهية هي التي تحرك الأشياء، ثم جاء دور دارون ليعلن أننا مجرد كائنات أميبية متطورة بمحض الصدفة ليس إلا، وأنه لا يوجد قانون يحكم الكون سوى قانون الصراع الذي يحتم البقاء للأقوى. وكما يقول د. روج والش ? أستاذ الفلسفة والأمراض العقلية في جامعة كاليفورنيا- : حقاً لقد وسعت العلوم مدى إدراكنا واستيعابنا للكون وأخرجتنا من العصور المظلمة إلى عصر النور. ولكن العلوم أيضاً جعلت حياتنا كماً أجوف، بلا معنى وبلا مغزى، ومجرد إضافة كمية حيوانات وجمادات، ولذلك فلا غرو أن ينتزع الناس أنفسهم من هذا الإطار، ويقتحموا بهذا التسارع دنيا الأسرار مستخدمين التصورات الخرافية للحقيقة. إن ارتداد المجتمعات الغربية لمرحلة الخرافة ربما أمكن تفسيره من هذا المدخل، ولكن جميع الحضارات في لحظات انحطاطها الروحي وفي إبان التيه الذي يبعدها عن دنيا الإيمان تقيض لها الشياطين، فتستحوذ عليها وتجلب عليها بخيلها ورجلها تؤزها أزاً، وتمعن بها في دنيا الفتون.